ربما يعده البعض المخرج الأكثر نجاحًا في السينما الإيرانية، فبعد محاولات كثيرة من السينما الإيرانية لغزو المهرجانات الدولية، لم تتخط إلا المهرجانات الأوروبية، وظلت كثيرًا في محاولات مع جائزة الأوسكار الأمريكية، انتهت إلى النجاح أخيرًا باقتناص فيلميه “انفصال” و”البائع” جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي.
أصغر فرهادي هو مخرج ذو لغة سينمائية قوية ومميزة وذات طابع خاص بها، فأفلامه هي أفلام عن الصدمة بأسلوب بسيط غير متكلف، وتلك الصدمة هي صدمة أخلاقية في الأساس، يضع أصغر ممثليه تحت ضغطها، ويشرك المشاهد في هذا الارتباك.
جيل الثورة
ولد فرهادي في أعوام الثورة، عام 1972، وبحلول الوقت الذي بلغ فيه الثامنة من عمره، تم تغيير اسم الحي الذي يقطنه إلى حي خميني شهر، وتعرض فرهادي لصدمة عائلية في الحرب العراقية الإيرانية، إذ هرب أخوه للانضمام إلى المتطوعين في الجيش، وهو ما أشعل الرغبة في نفس فرهادي لفعل الأمر نفسه.
تأثر فرهادي كغيره بأفلام داريوش مهرجوي، خاصة فيلم “البقرة”، وتلك الموجة السينمائية التي كانت تدعو للاستقلال الثقافي الإيراني وخصوصيته بمعزل عن التغريب والتبعية التي تمارسها عائلة الشاه، كما تأثر أيضًا بموجة الأفلام الواقعية الإيطالية كغيره من هذا الجيل الإيراني من المخرجين.
عندما كان في الثالثة عشر من عمره، صنع أول فيلم قصير له باستخدام كاميرا بقطر ثمانية ملليمترات تابعة لجمعية السينما الشبابية، وهي منظمة كانت ترعاها الثورة، ولعبت الصدفة دورًا في تشكيل الحس الفني لفرهادي، فقد كان عازمًا على دراسة السينما كطالب جامعي، لكن مكتب القبول في جامعة طهران، قرر أنه أكثر ملاءمة للفنون الدرامية، فتشكلت حساسيته من الاحتكاك بأعمال إبسن وتشيخوف، وتعلم كيف يؤلف قصة دون بطل، أو قصة يفكر فيها الجميع كبطل.
هؤلاء الكتاب المسرحيون الأوروبيون الذين كتبوا في وقت شهد تغيرًا اجتماعيًا سريعًا عن رجال ونساء معلقين بشكل عام بين أسلوب حياة قديم وأسلوب جديد، قدموا لفرهادي مرآة للطبقة الوسطى الإيرانية في نهاية عصر الخميني في السنوات التي أعقبت وفاة آية الله عام 1989، وكانت الآمال واسعة النطاق أن تتحرك البلاد في اتجاه أكثر ليبرالية، وتخفف قوانينها الدينية الشديدة، وتسعى للمصالحة مع الغرب، إلا أنها كانت آمال مؤجلة باستمرار.
كتب فرهادي أعمالًا درامية للراديو والتليفزيون، كانت مواضيعها متنوعة بين الفقر والهجرة وإدمان المخدرات والإيدز، وعلى الرغم من تدخل الرقابة في أحيان كثيرة، فإنها كانت أعمالًا تشاهد على نطاق واسع.
قائد جيل جديد
ينتمي فرهادي إلى جيل جديد من صانعي الأفلام الذين ظهروا في مطلع الألفية الجديدة في ظل حكومة محمد خاتمي الإصلاحية، أحد أسباب ذلك الجيل هو أمر حاسم تجاه الاستبداد الديني الذي شكل نظرتهم للعالم، فقد عاشوا السنوات الأولى في ظل حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهم أيضًا نتاج الكارثة التي لحقت بإيران جراء حرب الثماني سنوات مع العراق، هم باختصار جيل ثقافة الاستشهاد الذي ساد خلال سنين الحرب لينذر أطفالًا تضحي بأبدانها من أجل الوطن.
الحرية النسبية في عهد خاتمي، سمحت لصانعي الأفلام بسرد قصص الناس في المناطق الحضرية، خاصة العاصمة طهران، فحولوا عدساتهم للمدن الكبرى، بخلاف الجيل السابق الذين كان يهرب من الرقابة ليصور جماليات الطبيعة والريف، واعتنت كاميرا الجيل الحاليّ بمشكلات الطبقة الوسطى اليومية التي تجتر صدامًا غير مباشر مع السياسة والسلطة، فقدموا سينما حداثية تجارية، كان رائدها أصغر فرهادي.
نظرة علمانية للحقيقة
“أعتقد أن الفن في مواجهة الرقابة، مثل الماء في وجه الحجر، سيجد الماء طريقة ما للتدفق حوله”، كانت تلك كلمات فرهادي التي تعبر عن حالة دائمة من لعبة القط والفأر لصناع الأفلام الإيرانيين مع السلطة الرقابية، وخاصة فرهادي الذي يجد صعوبة كبيرة لأن أفلامه تصطدم بشكل أكثر جرأةً مع السلطة، خاصة أنه مخرج عصر السينما التجارية والتسويق العالمي للسينما الإيرانية.
بالإضافة إلى نجاح أفلامه في شباك التذاكر، تحصل أفلامه على إشادات نقدية وطنية ودولية، فتميز عن غيره من صناع الأفلام الإيرانيين لتحقيقه نجاح نقدي وتجاري، ومن الجدير بالذكر أن فرهادي هو الأجنبي الوحيد منذ الثمانينيات، الذي حصدت أفلامه جائزة الأوسكار مرتين، فيقدم في أفلامه مقاربة جديدة لقضايا الحقيقة والأخلاق التي كانت موضوعات طويلة في تاريخ الفن والأدب والسينما الإيرانية.
وإذا قورنت نظرة فرهادي للعالم الإيراني مع أسلافه مثل عباس كيارستمي ومحسن مخملباف وجعفر بناهي، نجد أن نظرته أكثر علمانية بشكل واضح، ما جعل سينما فرهادي تعتبر نقلة مهمة للسينما الإيرانية الحديثة، التي توظف تقنيات السرد الإبداعية مثل الفجوات السردية والنهايات المفتوحة والتقنيات السينمائية، وكون أفلامه تسلط الضوء على نسبية مفاهيم الحقيقة والأخلاق من منظور علماني وحداثي، وهو ما يرمز إلى تحول أيدولوجي داخل المجتمع الإيراني المعاصر، ما جعل فرهادي يشكل قطيعةً جذريةً عن جيل مخرجي ما بعد الثورة الإيرانية الإسلامية، وبعيدًا عن نظرتهم الإسلامية الصوفية إلى المجتمع.
إن ذلك يتضح جدًا في أفلام فرهادي التي يبقى فيها الدين شخصي جدًا ولا يلعب وظيفة اجتماعية إيجابية، فهناك تهميش صارخ للمعتقدات الدينية وهو ما يناقض سياسة الجمهورية التي تشدد على تقديم الإسلام كقوة مثالية حاكمة
تعرض سينما فرهادي تصويرًا للعلاقات الطبقية في إيران، التي تعكس الواقع عن كثب في العقود الأخيرة
عرف فرهادي الشهرة منذ فيلمه “الرقص في الغبار” الذي أنتج عام 2003، كان الفيلم عن تعقيد العلاقات داخل مجتمع محاصر بين الأيدلوجية الدينية التقليدية للدولة والمنظور العلماني الحديث الذي يمثله المتعلمون الأصغر في المناطق الحضرية.
وانطلق فرهادي من هذا الفيلم ليقدم سبعة أعمال أخرى هي: ألعاب نارية ومدينة جميلة والأربعاء وعن إيلي وانفصال والماضي والبائع والجميع يعرف، اشتركت جميع هذه الأفلام في خط واحد ممتد من المنظور النسبي للأخلاق والحقيقة، وصعوبة الحكم الأخلاقي من المشاهد، وعدم كفاءة القيم المطلقة في حل مشاكل الحياة المعاصرة.
وقد نجح فرهادي في أفلامه كلها في سد الفجوة بين المحلي والاستقبال العالمي، وفي نفس الوقت شكل قطيعةً واضحةً عن تقاليد السينما الإيرانية السابقة عليها، بسبب الهياكل السردية المعقدة في أفلامه، التي تركز على الطبقة الوسطى الحضرية وقيمها ونمط حياتها، وشخصياته المميزة بالتعقيد العاطفي وليس الفوري.
تعرض سينما فرهادي تصويرًا للعلاقات الطبقية في إيران، التي تعكس الواقع عن كثب في العقود الأخيرة، فقد شهد الهيكل الطبقي داخل المجتمع الإيراني تغييرات كبرى، وهي جزئيًا نتيجة للتحول في توزيع المناطق الريفية وسكان الحضر، ففي مطلع العقد الأول من القرن الجديد، نما سكان الحضر إلى 70% من سكان إيران.
حقيقة الحقيقة
يهتم فرهادي في أفلامه بمعنى الحقيقة أو حقيقة الحقيقة نفسها، ففي أفلامه يتم التشكيك في الحقيقة على مستويين: أولها عالم السرد الحكائي، وثانيها في ذهن المشاهد، وبالتالي فإن البحث عن الحقيقة في أفلام فرهادي بمثابة نقطة رئيسية لتوجيه المشاهد تجاه قضية الأخلاق الأكثر ذاتية، وجعل المشاهدين يتساءلون ويتأملون الإجراءات والقرارات التي تتخذها الشخصيات، وقد ظهر هذا جليًا في أفلامه الثلاث “عن إيلي” و”انفصال” و”البائع”.
إذا وصفنا الحقيقة كمفهوم مطلق، سيصبح للأخلاقي معنى قوي وملموس، ويصبح الخطأ والصواب معرفين بوضوح، لكن فرهادي ينطلق من فرضية مجهولية الحقيقة، وماذا لو كانت تعريفات الحقيقة والواقع والأخلاق كذلك ليست ملموسة وتعتمد على الظروف الاجتماعية والفردية؟ ومن أجل الوصول إلى استنتاج معقول، نحتاج إلى تحديد شروطنا.
إن فرهادي في أفلامه يناهض مفهوم الاستبداد الأخلاقي الذي يؤمن بالأبيض والأسود، ولا يؤمن بالمناطق التي يختفي فيها اللون والوضوح، ونجد ذلك من خلال شخصياته التي تتناسب مع الخصائص النسبية، لديهم المعايير والقيم الخاصة بهم، التي قد تختلف عن الآخرين، وهي مرنة لدرجة أنها قد تتغير حتى في أثناء عرض الفيلم وتغير الظروف.
ويعبر فرهادي عن تلك النسبية في أفلامه من خلال إشراك الجمهور، فبالطبع كل مشاهد سيقيم الموقف الأخلاقي الخاص بالفيلم بناء على منظومته القيمية، خاصة إذا كان هذا المشاهد عالمي، وتتحدد منظومته القيمية بناءً على عوامل اجتماعية وجغرافية وثقافية مختلفة.
مذهب جديد
يختلف ما يقدمه فرهادي – كما أسلفنا الذكر – عن السينما الإيرانية التقليدية، فبدايةً أعاد الأفلام إلى طهران وتعامل مع مؤسسات العدالة والنظام ونظام التعليم والشرطة، وكلها مؤسسات الدولة السياسية التي يصطدم معها بشكل مباشر، وتقدم صورة عن المجتمع الإيراني المعاصر.
وقد صورت حياة المدن الكبرى في سينما فرهادي، وهي مدن لا تهيمن عليها الصور الإسلامية والدعائية وجداريات الشهداء ورجال الدين واقتباسات النبي والأئمة، كما أن الصورة العامة للمدنيين لا تتشابه مع رجال الدين والنساء في الريف.
لا مكان للمطلق في سينما فرهادي، وربما هذا ما يمنحها فرادتها محليًا ورواجها عالميًا لأنها تستطيع أن تخاطب الجميع بنفس اللغة
ويمثل فرهادي في أفلامه جيلًا جديدًا وخطابًا سائدًا في إيران يتوق إلى العلمنة، تمثلها شخصياته الرئيسية في أفلامه مثل زبيدة ونادر وسيمين وعماد ورنا، الذين هم من الطبقى الوسطى الحضرية، المطلعين على الحداثة، ومؤدلجين بشكل علماني، وحتى النماذج الدينية في أفلامه مثل علي رضا وحجة ورازية تظهر مستويات من الذاتية في التدين، وليست تبعية مطلقة للقوانين الدينية الصارمة.
وبالنسبة للأطفال، تمتد قطيعة فرهادي مع الماضي في السينما الإيرانية، فقد كان الأطفال في أفلام الجيل السابق لمجيد مجيدي وكيارستمي رموزًا للبراءة وشهودًا على سلوكيات عالم الكبار، أما في أفلام فرهادي، فهم ليسوا سلبيين ومحاصرين في القرارت التي يتخذها الكبار، بل هم جزء منها، ويقومون بتحويلها، ولديهم قدرة على تغييرها، ويجادلون ويفكرون ويقررون ويتصرفون، وفي أفلام مثل “عن إيلي” و”انفصال”، تؤثر قراراتهم وتفسيراتهم حتى على حياة البالغين بشكل كبير.
ومن خلال إنشاء روايات معقدة مع وجود فجوات في السرد ووجهات نظر ذاتية تقدمها شخصيات ديناميكية ومتطورة، تمنح أفلام فرهادي دورًا نشطًا للمشاهد في تشكيل القصة وسد الثغرات، فمنظور فرهادي الخاص حول العالم داخل أفلامه جزئي تمامًا كما هو في العالم الحقيقي، فالحقيقة هي تفسير وفهم الظروف بناءً على المعرفة غير الكاملة لدى المشاهد في حدث معين، ومثل تلك الحقيقة هي التي تقود إلى وجهات نظر ذاتية حول كل شيء وكل شخص، إنه في أفلامه يظهر النسبية وسيولة الحقيقة، وبالتالي يرفضها على أنها مفهوم مطلق.
لا مكان للمطلق في سينما فرهادي، وربما هذا ما يمنحها فرادتها محليًا ورواجها عالميًا لأنها تستطيع أن تخاطب الجميع بنفس اللغة.