بأفلامه المفعمة بالأمل، يقدم مجيد مجيدي إيران للعالم من خلال نظرة الطفل البحتة، وما سيكون لنظرة الطفل البريئة تلك من تأثير على البالغين، وهذا ما يريد التعبير عنه دائمًا.
يقارن مجيد الموضوعات المعاصرة مع دمج أنماط الحياة في إيران، بسينماه البسيطة بشكل مثير للدهشة، واستخدامه عمليات غاية في البدائية لاستدعاء الشعور الأكثر جدية، وتزيل أفلامه الغموض المحيط بالثقافة الإيرانية أمام جمهور العالم، ويختار بطل روايته من الناس، الذي يكافح للحصول على عيش كريم في حدود بيئة سياسية واقتصادية متقلبة، هي سينما بسيطة بشكل صادم، ووصلت أهمية مجيدي تلك للعالم ولإيران، حين أصبح فيلمه “أطفال الجنة” عام 1999 أول فيلم إيراني يترشح لجائزة الأوسكار.
بدأ مجيدي المولود سنة 1959 حياته في الفن كممثل بمسرح الهواة في سن الرابعة عشر، بعد أن درس الفن في معهد الفنون المسرحية في طهران، وقدم سيناريو فيلمه الأول Baduk الذي فاز بجائزة مهرجان فجر السينمائي في طهران، وموضوع فيلم بادوك كان ينم عن المذهب السينمائي الذي سيتبناه مجيدي، من خلال العالم في عين الأطفال، فهو فيلم ساخر عن الأطفال الفقراء المستغلين من رجال الأعمال الأشرار الجشعين، وسيتغلب الطفل على جميع البالغين، ليكشف الفيلم موهبة فذة ستأتي لتساهم في وضع السينما الإيرانية بمحط أنظار الاهتمام العالمي.
الواقعية الإيرانية
يستخدم مصطلح الواقعية الإيرانية للتعبير عن اتجاه سينمائي يماثل الرافد الأصلي الذي اشتق منه وهو تيار الواقعية الجديدة في إيطاليا، وهي مدرسة عمادها فيتوريو دي سيكا وروسيلليني وغيرهم، تبدو تلك المسحة الواقعية في أفلام مجيد مجيدي واضحة بشدة، فتتشابه الظروف بعد الحرب العالمية في إيطاليا مع ظروف إيران في أعقاب الثورة الإسلامية.
منذ أكثر من عشرين عامًا ومجيد مجيدي يخرج أفلامًا روائيةً كل واحد منها يتخذ تدريجيًا مقاربة أكثر تسييسًا في سرد القصص، وقد نجح من خلال ذلك الأسلوب في مواجهة العديد من القضايا التي تواجه إيران والأصولية الإسلامية وجوانب من العقيدة الإسلامية والطقوس الشيعية.
جاءت اللقطة الافتتاحية في “أطفال الجنة” لتكون واحدةً من أكثر العناصر روعةً وجمالًا من الناحية السينمائية الموجودة في جميع أفلام مجيد
وتعد أفلام مجيد مجيدي الثلاث الأشهر نظرًا لما لاقته من احتفاء عالمي في المهرجانات الدولية، تجليًا واضحًا لسينماه والقضايا التي تهتم بها، وتلك الأفلام هي “أطفال الجنة” 1997 و”لون الجنة” 1999 و”باران” 2001.
أطفال كادحون
في فيلمه “أطفال الجنة“، بعيدًا عن الموضوعات غير السياسية، يروي مجيد مجيدي قصة الطفل علي، وهو صبي صغير في ضواحي طهران، فقد حذاء أخته الوحيد عن طريق الخطأ في أثناء إصلاحه، ويركز الفيلم بأكمله على صعوبة تأقلم الطفلين مع اضطرارهما إلى مشاركة حذاء واحد بينهما وإخفاء الخسارة عن والديهما المثقلين بأعباء مالية كبيرة، بينما يواجه الطفلين صعوبة ويواجهان مواقف محرجة بسبب حقيقة أنهما يتشاركان حذاءً واحدًا، فهمهما الوحيد جعل الحياة أسهل لوالديهما اللذين يكافحان من أجل الحفاظ على الأسرة واقفة على قدميها.
جاءت اللقطة الافتتاحية في “أطفال الجنة” لتكون واحدةً من أكثر العناصر روعةً وجمالًا من الناحية السينمائية الموجودة في جميع أفلام مجيد، تستخدم هذه اللقطة لقطات مقربة بشدة للأيدي العاملة، وتكشف هذه اللقطات ما يمكن النظر إليه على أنه أفعال دنيوية يومية، تحولها إلى لحظات من الجمال، تمنح الكرامة للعامل والعمل نفسه، وتلك الطبقة العاملة يركز مجيد في أفلامه عليها وعلى صعوبة بقائها، لكن بدلًا من تصوير صعوبة العمل وشقائه، يعرض مجيد العمل على أنه جميل من الناحية الجمالية، ما يسمح للمشاهد بالاشتراك في اللقطة للبحث عن الفن في الحياة اليومية.
اللقطة مقربة ومثبتة ليدي عامل مسنة وقذرة، تقوم ببطء بخياطة وترميم زوج من الأحذية الوردية الصغيرة البالية، وتستمر هذه اللقطة لعدة ثوان قبل أن تقطع إلى لقطة متوسطة، تقدم علي وهو ينتظر ويراقب المصلح.
ويتم تقديم والد علي أيضًا من خلال لقطة مقربة له وهو يقطع مكعبات السكر لحضور حفل ديني قائم، ويبكي في خشوع ويدعو، ويتم تقديم موضوع التضحية بالنفس من أجل الدين والإيمان في أفلام مجيدي على أنه طريق واضح لا يرقى إليه الشك ولا بد من اتباعه، بغض النظر عن المصاعب التي يجلبها على الأسرة، ويظهر هذا أيضًا عندما تعطي والدة علي طبقًا من الحساء ليأخذه إلى جارهم المريض، وهم بالكاد لديهم ما يكفي لإطعام أنفسهم.
الفقر والطفولة المهدرة، ركائز أساسية لسينما مجيد، تتجلى في إحدى الجمل بفيلم أطفال الجنة، حين يخبر الناظر الطالب علي بحقيقة ساخرة: “إنك الآن في التاسعة من عمرك، لم تعد طفلًا بعد الآن”.
يوجه مجيد الأنظار نحو طفولة مسلوبة تسبب فيها التفاوت الطبقي، ويظهر ذلك حين نرى الفرص المتناقضة بشكل ساخر بين الطفل علي حين يذهب مع أبيه لتشجير إحدى حدائق الأغنياء، وأحد الأطفال الأغنياء الذي يستبقي علي للعب معه، في ذلك المشهد البديع والحزين، نكتشف ما الذي يعنيه الفقر لطفل مثل علي، بعد أن كنا قد أخذناه بجدية كأنه بالغ راشد بسبب كدحه وشقائه، ما زال يحمل طفلًا بداخله.
فقر لا يعوق الترابط الإنساني
لأن فيلم أطفال الجنة ذروة سينما مجيد مجيدي، يمكننا أن نتخذ العديد من الثيمات التي تعبر عن اتجاه مجيد من داخل الفيلم نفسه، ومن أهم تلك الثيمات ثيمة الترابط الإنساني والأفعال التي تؤثر دون قصد على حياة أشخاص آخرين.
من الثيمات الأخرى في سينما مجيد هو سوء الفهم الذي لا يُحل أبدًا، بينما يتصرف علي كشخص كبير في حل مشكلة أخته، فإنه يتم توبيخه باستمرار لتصرفه كطفل
فحذاء زهرة الضائع الذي يلتقطه أحد المتسولين في الشارع ويبيعه إلى أسرة أخرى فقيرة، تلاحظه زهرة في أقدام فتاة صديقة لها في المدرسة، وحين تحاول أن تكتشف حياتها لتستعيد منها الحذاء، تصُدم بحقيقة أن تلك الطفلة أسوأ منها حالًا، فلديها أب ضرير، وتغادر زهرة دون أن تحاول استعادة الحذاء.
ويستمر هذا الترابط عندما يعطي علي زهرة أخته قلمًا فاز به لحصوله على درجات جيدة، لتعويض خسارتها للحذاء وجعلها ترتدي حذاءه، وهو القلم الذي يضيع من زهرة ويقع في أيدي طفلة أخرى تؤدي واجبها المدرسي به.
ومن الثيمات الأخرى في سينما مجيد هو سوء الفهم الذي لا يُحل أبدًا، فبينما يتصرف علي كشخص كبير في حل مشكلة أخته، فإنه يتم توبيخه باستمرار لتصرفه كطفل، فيتأخر عن حضور الصف بسبب اضطراره لعودة أخته ليأخذ منها الحذاء، ويعاقبه مدير المدرسة على اللعب مع أصدقائه وتأخره، ويوبخه أبوه لتصرفه بطريقة طفولية، بينما علي يحاول حماية أخته وأسرته، وفي كل مرة يساء فهمه، بشكل يثير الحنق والمرارة في نفس المشاهد، ويأخذ علي عقوبته الظالمة دون جدال، مدركًا أن الطاعة أهم من أي شيء آخر.
إن ذلك الطفل الذي يحاول العمل ليحمي أسرته، فيدفع ثمن أخطاء القدر يبرز واضحًا في فيلم الأب عام 1996، الذي يعبر عن مشكلة الاندماج بين طفل كان في المدينة يعمل من أجل أسرته، فيعود للريف ليجد أن أمه تزوجت رجلًا آخر هو شرطي غير أبيه المتوفي.
الله سوف يعود
الله سوف يعود هو عنوان أحد أفلام مجيدي الذي أخرجه عام 1995، وذلك العنوان الديني للغاية، يعبر عن حضور طاغٍ للمؤثرات الدينية والحالة الروحانية في أفلام مجيدي، تتجلى للغاية في فيلم لون الجنة 1999.
يركز الفيلم على جمال الله في الطبيعة، وفيه يستخدم مجيد الأطفال كأبطال أساسيين له، والفيلم يروي قصة محمد الفتى الأعمى المثقف الجيد الراضي، ووالده هو أرمل لا يرى في محمد إلا عبئًا عليه، ويشعر بالحرج من استمتاعه الطفولي بالطبيعة.
إن فيلم لون الجنة يناقش الله باستمرار، ويصوره كضوء ساطع قادم من عالم آخر، في مشهد وفاة الجدة وعودة محمد إلى الحياة بعد تعرضه لحادث، يتم تقديم الله ببساطة على أنه حقيقي وموجود وحاضر في اليوم.
يستخدم مجيد ببراعة الصوت لإدماج المشاهد في عالم العمى لدى محمد، كون الصوت الوسيلة الوحيدة لاتصاله بالعالم من حوله، فأوقات تتلاشى جميع الأصوات تاركة صوتًا بارزًا وملحوظًا، وعادة ما يكون صوت طائر يغني في هذه اللحظات، وتركز الكاميرا فقط على وجه محمد، وتركز الكاميرا عدستها على يد محمد لتصورها بالحركة البطيئة وهي تلعب بأوراق الشجر والريش، وتترك الألوان الزاهية للطبيعة للمشاهد انطباعًا بأنه شعر أيضًا بهذه العناصر الزاهية، ويعرفها عن كثب، كأنه يكتشفها للمرة الأولى.
صوت اللاجئين
في فيلمه باران 2001، يقدم مجيد رؤية للمجتمع الإيراني ومشكلاته من خلال قضية أخرى، وهي قضية اللاجئين الأفغان الذين بلغ عددهم مليون ونصف المليون عقب سقوط الاتحاد السوفييتي واندلاع الحرب الأهلية، ويناقش تلك القضية السياسية أخلاقيًا ويركز عليها باعتبارها القضية الرئيسية لفيلمه.
مجيد مجيدي هو مخرج سينمائي أصيل، يكشف ببراعة جمال التقاليد الإسلامية، بينما ينتقد في الوقت نفسه بعض الجوانب السلبية للممارسات الدينية المفروضة سياسيًا
يفتتح مجيد الفيلم بطريقته المفضلة، صورة مقربة للأيدي العاملة، وتلك المرة يصنعون الخبز، ويحكي فيلم باران قصة الشاب لطيف، الذي يعمل في موقع بناء بطهران، ويوظف هذا الموقع لاجئين أفغان يضطرون باستمرار للاختباء من مفتش البناء في أثناء زياراته، وعندما يسقط أفغاني كبير السن من المبنى وتكسر ساقه، يرسل ابنته باران، التي تتنكر في زي رجل، لتعمل مكانه حتى يستمر في تلقي الأجر وإعالة أسرته.
باران التي تتنكر في اسم رحمت، ليست قوية بما يكفي لسحب الأسمنت من أسفل لأعلى، لذلك تم تكليفها بوظيفة صانعة شاي، ولا يكتشف أحد أنها بنت إلا لطيف الذي يراقبها عن كثب، ويظل لطيف لاعبًا لدور العاشق في الخفاء، الذي يساعد أسرة باران دون أن تشعر، حتى إنهما لا يلتقيان إلا في مشهد واحد بالعين، دون أن تعرفه، ولا يتبقى له منها إلا آثار أقدام في الوحل.
يقدم مجيد في ذلك الفيلم قضية الأفغان اللاجئين من خلال علاقة رومانسية، ويقدم مشكلة أيضًا في صناعة السينما الإيرانية التي تحتال على الرقابة في تقديم قصص الحب لتقدم أكثر الطرق إبداعًا في تقديم قصة حب رومانسية تؤثر في القلب، دون أن يلتقي المحبوبان في مشهد رومانسي أمام الكاميرا.
لكن فيلم باران كسر العديد من القيود التي تعبر عن اتجاه السينما الانفتاحي بعد عصر الرئيس خاتمي، فيظهر شعر باران وهو ما كان محظورًا من قبل، ويبدو أن النزعة التقنية الحديثة فيه تعبر عن السينما الإيرانية المتنامية كفن وعمل تجاري يروج له في الخارج أيضًا.
مجيد مجيدي هو مخرج سينمائي أصيل، يكشف ببراعة جمال التقاليد الإسلامية، بينما ينتقد في الوقت نفسه بعض الجوانب السلبية للممارسات الدينية المفروضة سياسيًا، غالبًا ما تكون شخصياته مسلمة مستقيمة ومتدينة، لكن أفلامه تركز بشكل أساسي على حقيقة أنهم غرباء يرون العالم من منظور فريد وغير متوافق، ويحاول مجيدي سرد قصص عن الصراع من أجل الهوية ضمن بيئة سياسية صارمة، تتشابه مع صانعي الأفلام في حركة الواقعية الجديدة الايطالية، كمقولة الكاهن الشهيد في فيلم “روما المفتوحة” الذي يقول: “أي شخص يسعى لمساعدة الآخرين يسير في طريق الله، سواء كان يؤمن به أم لا”.
فإن مجيدي يقدم ذلك من خلال شخصية لطيف في فيلم باران، فهو لم يتم تقديمه باعتباره شخصية دينية عميقة، إلا أن أفعاله الإيثارية غير الأنانية تقوده أكثر فأكثر إلى الله وسعادة عميقة، وهو ما يمكن رؤيته في أفلام مجيدي جميعها، التي تشكل خطًا ممتدًا، يكمل كل منها الآخر، ويعبر عن منظور “بسيط بشكل صادم” لله وللعالم.