السمة الأساسية التي ميزت أفلام عباس كيارستمي ووهبتها الفرادة في السينما العالمية، هي اعتمادها على استخدامه لأساسيات سهلة التنفيذ، يخلق من خلالها روائع فنية، تحمل بداخلها نوعًا خاصًا من التناقض الغريب الذي يخترق حدود السينما بواسطتها.
إن مسيرة كيارستمي الفارقة في تاريخ السينما العالمية عامة والإيرانية على وجه أخص كانت جديرة بأن تتكلل بمقولة المخرج الفرنسي جان لوك جودار حين قال: “الفيلم يبدأ مع جريفيث، وينتهي مع عباس كيارستمي”، وأيضًا شهادة المخرج الأمريكي البارع مارتين سكورسيزي الذي قال: “كيارستمي يمثل المستوى الأعلى من البراعة الفنية في السينما”.
عباس الرسام
تشبه أفلام عباس كيارستمي اللوحات الفنية، خاصةً لاهتمامه بالجانب البصري وتكوين الصورة، حتى إن ولع هذا الرجل بالصورة دفعه لصناعة فيلم شهير وهو فيلمه الأخير 24 Frames، ولا يبدو هذا غريبًا عن نشأته كطفل.
ولد كيارستمي في يونيو/حزيران 1940 بطهران، وعشق الفنون منذ نعومة أظافره حتى نال جائزة في مسابقة للرسم وهو لم يتم الثامنة عشر، فقد ورث حبها عن أبيه، واستخدم الرسم للتغلب على شعوره بالوحدة والانطواء، فقد كان طفلًا معزولًا يعاني مشاكل تتعلق بصعوبة الاتصال مع الآخرين، وقد تخرج في كلية طهران للفنون الجميلة وعمل مصممًا للإعلان في الستينيات.
بالإضافة إلى الرسم، يحب عباس الشعر، بل ويجيد كتابته ويترجمه أيضًا، فترجم غزليات حافظ الشيرازي، وأصدر أكثر من ديوان شعري من كتابته، وكل تلك الإشعاعات تظهر انعكاساتها على أعماله السينمائية وعلى انزوائه لإنتاجها في الطبيعة الريفية الخلابة.
سينما مطرزة بالبراءة
كان ذلك عنوان الكتاب الذي اختاره الشاعر أمين صالح للحديث عن سينما كيارستمي، فهي سينما مطرزة بالبراءة لاحتفائها بالطفولة وبساطة القرويين، وهي سينما ذات امتلاء شعري.
تأثر كيارستمي بمخرجي تلك الفترة البارزين في إيران من أمثال داريوش مهرجوي وبهرام بيزائي وسهراب ساليس، وقد اعترف في أكثر من مناسبة بالتأثيرات التي مارسوها على توجيه سينماه في شكلها المعروف.
يصنع عباس أفلامًا تتحدى توقعات المتفرج الذي اعتاد تقاليد معينة في صنع الأفلام
يتمتع كيارستمي بإحساس حاد بالتراكيب البصرية الصوتية، ولديه أسلوب خاص يتميز به يحضر في كل أفلامه، فأفلامه تمتد بينها جسور تعبر من خلالها عناصره التي يعتمدها، وهي سمة تتكرر عند أمثاله من الشاعريين كثيو أنجلبولوس وتاركوفسكي وبريسون.
ظهرت أفلام كيارستمي في حقبة محمد خاتمي كوزير للثقافة أو رئيس للجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي تميزت بانفتاح ورعاية السينما، وغلبت السمة على أفلام تلك الفترة أن تكون خالية من الجنس والعنف والكثافة الميلودرامية والميزانيات الضخمة، والاعتماد على المؤثرات الخاصة والحيل البصرية، وظهرت أفلام تلك الفترة متقشفةً ومختزلةً لا تفرط في استخدام المونتاج، بل تنحاز للقطة الطويلة التي تستمر لدقائق دون مقاطعة، وتوظف الموسيقى والحوار دون إفراط، وتعتمد البساطة في السرد وممثلين هواة، فقد هدفت الثورة الإيرانية للقضاء على ظاهرة النجم السينمائي لما تتشبه فيه مع هوليوود.
تأثر كيارستمي بالعديد من الروافد السينمائية، خاصة تيار الواقعية الجديدة الإيطالية كفيتوريو دي سيكا وروسيلليني، وما تميزت به تلك الأفلام وتشابهت فيه مع تيار السينما الإيرانية الجديد.
يتحدث كيارستمي عن ذلك قائلًا: “أي تماثل محتمل بين أفلامي وأفلام الواقعية الجديدة لا بد أن له علاقة بالسمات الاجتماعية والسياسية لايران في الوقت الحاضر، التي هي من بعض النواحي متماثلة مع إيطاليا بعد الحرب، لكن لا ينبغي رؤية أعمالي كمحاكاة صرفة للواقعية الجديدة، فالمحاكاة في الأفلام ليست من الأشياء التي تثير اهتمامي”.
يصنع عباس أفلامًا تتحدى توقعات المتفرج الذي اعتاد تقاليد معينة في صنع الأفلام، ويقدم أفكارًا فلسفية مبسطة عن الوضع الإنساني، يجمع كلماتها وأفكارها من ألسنة البسطاء ليسبر قضايا مركبة وشائكة، ليؤكد قدرة النص والمادة على صنع فيلم عظيم حتى إن افتقد التقنية، وهي السمة التي ميزت عباس في أفلامه الأولى، قبل أن يخرج إلى أوروبا في الألفية الجديدة.
يقدم عباس كيارستمي نفسه في كل الأفلام، فهو الذي يخرج ويكتب القصة والسيناريو الذي لا يتجاوز عادةً 15 صفحة، ما يؤكد صبغة عباس الشاعرية التي تعتمد التكثيف والبساطة، وتركز على الصورة والحركة، وتعطي الفرصة للممثلين عمومًا للارتجال والتلقائية.
يمتلك كيارستمي الجرأة والشجاعة في النظر إلى العالم والطبيعة والأشياء على نحو مختلف، مبتكرًا طرقًا جديدةً في سرد أفلامه، فهو لا يلتزم بالسرد التقليدي المألوف، بل يتجه نحو أفلام تخلو من الحبكة ويتميز السرد فيها بالإيجاز المضغوط والمتقشف، كل ذلك يُقدم في رؤية شاعرية وفلسفية تخلو من الادعاء، في أفلامه تغطيها النزعة الإنسانية التأملية الغنائية، تمتزج البساطة في أفلام كيارستمي بالتعقيد، وتستخدم ببراعة الصمت والمكان وفوضى الواقع لتحرك كثافة عاطفية لا يمكن تدوينها في سيناريو، فعمله لا يسير وفقًا لترتيب منطقي، بل يتولد من غريزة وإحساس شاعري بالوجود.
تنعكس ذات كيارستمي في أفلامه بالطبع، فاتجاه أفلامه للريف وثيمة الرجل الذي دومًا يغادر المدينة ويتجه للريف بحثًا عن شيء ما، هو السعادة في حياة عباس الشخصية، ففي الطبيعة يجد كيارستمي الجمال والراحة والطمأنينة، مقابل الحزن والأسى والتوحد الذي يجده في الواقع المحيط به، كما نرى أن السيارة تحتل بطولة في أفلامه، ومرده أنه يقضي في الواقع على الأقل من ثلاث إلى أربع ساعات يوميًا في سيارته، فهو يرى في السيارة مكان جيد للتركيز والاتصال بالآخر حين تجلسون جنبًا إلى جنب، وهي الثيمة التي توجد في فيلمه طعم الكرز وفيلم ستحملنا الرياح وفيلم وتستمر الحياة، فالجلوس في السيارة يمثل لكيارستمي طريقةً للوجود في العالم الاجتماعي والخاص معًا ووسيلة للنظر إلى الطبيعة بشكل محايد والتفاعل معها، السيارة هي مكان للتأمل والرصد والملاحظة في سينما كيارستمي.
شخصيات قلقة
الملاحظة الأهم واللافتة في سينما كيارستمي هي شخصياته القلقة، فكل شخصياته في حالة حركة وانتقال، من مكان إلى آخر ومن بحث إلى آخر، وفي خضم تلك الحركة لا تتوقف عن طرح الأسئلة بشأن كل شيء، وهي أسئلة لا تهدف للحصول على إجابات معينة، لكنها تظل معلقة كسلسلة لا نهائية من الأصداء.
إن شخصياتها البريئة تحاول دائمًا الهروب من شرك ما منصوب في الطبيعة وفي الأحداث، فالبطل وحيد دائمًا، حتى إن كان ليس وحيدًا كحالة اجتماعية، ففي فيلم “ستحملنا الرياح” نجد أن الكاميرا لا تظهر أصدقاء البطل أبدًا، ونجده يواجه كل المواقف وحيدًا.
لا يمل كيارستمي من التكرار، بل يكاد يبدو مفتونًا بالتكرار، تكرار الأحداث والصور والحوارات، فشخصياته تكرر حواراتها وتستطرد في الكلام
أفلامه تبنى حول مهمات واضحة وبسيطة، فالطفل أحمد بور يحاول أن يجد صديقه في فيلم “أين منزل الصديق”، والمخرج يحاول العثور على صغيرين في فيلم “وتستمر الحياة”، والسيد بادي في فيلم “طعم الكرز” يفتش في الناس عن شخص يدفنه بعد انتحاره.
يتعاطف كيارستمي مع شخصياته، التي يبدو أنها تمثله، ويصغي إليها بتركيز، ويراقب وجوهها باهتمام يفوق اهتمامه بتحريك الكاميرا، فتلك الشخصيات قلقة دومًا ما تبحث عن مساحة آمنة تمارس فيها حريتها في الاختيار.
تحاول أفلام كيارستمي الإمساك باللحظة التي تحدث أمام الكاميرا، ويعيد تركيب المواقع والشوارع والطرقات والأزقة والبيوت، ويعيد بناء الواقع عبر دمج طبقات مختلفة منه من أجل بلوغ الحقيقة أو حالة الصدق، إنه يبني من عناصر الواقع ليعطي صورة لعالم يبدو حقيقيًًا بلا ريب.
ولا يمل كيارستمي من التكرار، بل يكاد يبدو مفتونًا به، تكرار الأحداث والصور والحوارات، فشخصياته تكرر حواراتها وتستطرد في الكلام بحيث تبدو عفوية ومرتجلة وليست محفوظة وملقنة، وتكرر الشخصيات أفعالها، ففي فيلم “أين منزل الصديق” يصور كيارستمي الأماكن نفسها والطرقات نفسها من منظورات متماثلة، ويطرح الصبي الأسئلة نفسها ويحصل على الإجابات نفسها، وفي فيلم “سوف تحملنا الرياح” يعود البطل كل مرة إلى قمة المكان للحصول على إشارة الهاتف، أي أنه يكرر الرحلة طيلة الفيلم، وفي فيلم “الواجبات المسائية” يصور بزاوية كاميرا واحدة تتعاقب أمامها الأطفال للإجابة عن سؤال واحد، وهو ما يحدث أيضًا في فيلم “شيرين”.
سينما بروح طفل
قدم عباس كيارستمي 48 فيلمًا، تحتل الطفولة السمة الأبرز على سينماه، فالأطفال في سينما كيارستمي يوظفهم لكشف التعارض الحاد بين الأطفال والكبار في فهم الواقع والنظر إلى الأشياء، وما ينتج عن هذا التعارض من سوء فهم وسوء تأويل.
قدم كيارستمي سلسلة من الأفلام القصيرة والطويلة تتمحور حول الأطفال ومآزقهم، ويطرح من خلالها أسئلة راديكالية عن الحرية والتحكم والنظام والفوضى، كما يوجه نقدًا صريحًا للنظام التعليمي والنظام الأبوي والتفاوت الطبقي الذي ينصف أطفال ويظلم آخرين.
يرى عباس أن “الأطفال لهم نظرة حرة شبه صوفية، الحكماء الكبار القدامى هم أطفال اليوم، يحبون الحياة من غير شعارات، وفي الصباح لا يشعرون بالحاجة إلى القهوة لاستعادة البشاشة”.
في فيلمه “أين منزل الصديق؟” يتبع عباس مسار تلميذ يتهيأ لإنجاز واجباته المدرسية ويكتشف أنه أخذ بالخطأ دفتر زميله الذي سيعجز عن إتمام عمله الدراسي وسيتعرض للعقاب والطرد من الأستاذ المتربص.
ويحاول الطفل البطل أحمد بور أن يبذل كل ما في وسعه للقاء صديقه محمد رضا وإرجاع الدفتر إليه، غير أن الطريق طويل والعنون غير واضح والأجل المحدد غير كاف، لأن التلاميذ ملزمون برد واجباتهم في اليوم التالي، وفي خلال رحلة البحث عن منزل الصديق، يكتشف عباس معمار الريف والطبيعة الخلابة، ويعرض الهوة الأخلاقية الواضحة بين عالم الكبار وعالم الأطفال، ويعكس فيه روح المسؤولية الفطرية التي توجد في الطفل الذي يبدو أكثر نضجًا من الراشدين في الطريقة التي يلتزم بها في أداء تعهداته، في مسار يجعل الطفل أحمد بور يعاني بشكل يثير البكاء.
ويوظف كيارستمي في ذلك الفيلم فلسفة فارسية قديمة، ألا وهي فلسفة العرفان، التي تؤمن أن الإنسان لكي يتطهر روحيًا، وجب عليه ارتقاء درجات عديدة في مساره المعرفي، وبذلك يدمج كيارستمي القديم بالجديد، ويقدم وصفًا للطفولة لا يثير حفيظة الرقابة ويهرب منها، فيقدم فيلم “أين منزل الصديق” توثيقًا للمعيش اليومي للشعب الايراني بأفراحه ومآسيه الصغيرة.
توفي عباس كيارستمي عام 2016، ليترك وراءه مسيرة طويلة وحافلة، أعادت وضع السينما الإيرانية على خريطة المهرجانات، وتاركًا وراءه تلميذًا أصبح من أهم صانعي السينما الإيرانية حاليًّا
إلا أن كيارستمي سيعود ليصطدم مع الرقابة في فيلمه “واجبات المساء” الذي يعالج فيه بطريقة صدامية العنف التي تمارسه الدولة ممثلة في الأستاذ، والأسرة ممثلة في الأم والأب، على الطفولة في مسألة الواجبات المنزلية، والتهديد والوعيد الذي يترصد الأطفال وزلاتهم، ويقضي على براءتهم وانطلاقهم، وهو ما عرض ذلك الفيلم للمنع لمدة سنة.
صدامات ناعمة
“في رأيي الرقابة ليست شيئًا يزعجنا بشكل فظيع لأننا وجدنا طرقًا لمواجهتها، في الواقع تعلمت أمة كاملة كيف تتعامل معها، سواء في صناعة الأفلام أم في أي مجال تعلمنا الالتفاف على السلطة هذا هو الواقع، فبالنسبة لنا، السينما هي صالة عرض المخرج، وكلما كان الأمر صعبًا في عمله، اضطر للوصول إلى حلول أفضل وإيجاد معانٍ جديدة للتعبير، فيما يتعلق بالأفلام والفن بشكل عام، إنها حقيقة، الفن يولد من رحم المعاناة”.
هكذا تحدث عباس كيارستمي عن سؤال الرقابة المزعج الذي توجهه له وسائل الإعلام الغربية، كيارستمي يركز بؤرة أفلامه على التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية كمصفاة لأحداث عامة، والأحداث العادية في الحياة اليومية تنتحل دلالة شاملة، وهو لا يقدم نفسه كباحث اجتماعي أو محلل سياسي، بل كسينمائي مهمته طرح الأسئلة التي تعبر عن المشاكل.
وبينما اتهم عباس كيارستمي من عدد من النقاد أن أفلامه هروبية، تتجنب الصدام مع السلطة وغير سياسية، رد على هذا الزعم موضحًا أن السياسة في أفلامه تكمن جزئيًا في اختياره للموضوع والمواقع في المناطق الريفية الفقيرة والمناطق الكردية.
ورغم ذلك كله، بعض أفلام كيارستمي ممنوعة من العرض في إيران لأسباب غير سينمائية في بعض الأحيان، ففي عام 1997 ارتكب كيارستمي زلة في السلوك الاجتماعي حين قبل كاثرين دينوف على خدها بعد تلقيه الجائزة الكبرى لمهرجان كان عن فيلمه طعم الكرز، وهو ما عرض الفيلم لمنع العرض داخل إيران، وجعل عباس كيارستمي يبتعد عن الإقامة في وطنه فترة حتى ينسى الناس الموقف، وأتاحت له تلك الفترة أن يقدم العديد من الإنتاجات خارج السينما الإيرانية التي استمرت حتى وفاته تقريبًا، وفي ذلك الصدد قدم أفلامًا رومانسية مثل Like Somone in love وCertified Copy وTickets.
توفي عباس كيارستمي عام 2016، ليترك وراءه مسيرةً طويلةً وحافلةً، أعادت وضع السينما الإيرانية على خريطة المهرجانات، وتاركًا وراءه تلميذًا أصبح من أهم صانعي السينما الإيرانية حاليًّا هو جعفر بناهي.