توفيت الناشطة الحقوقية الإماراتية، آلاء الصديق، في حادث سير في مدينة أكسفورد بإنجلترا، بحسب ما أعلن أفراد من أسرتها ومعارضون إماراتيون، دون كشف تفاصيل الحادث وملابسات الواقعة، ليُسدل الستار عن عقد كامل من الدفاع عن المعتقلين في بلادها بصفة عامة، ووالدها أستاذ الشريعة المعتقل بسجون أبناء زايد، محمد عبد الرزاق الصدّيق بصفة خاصة.
وتعد آلاء، مدير مؤسسة “القسط” الحقوقية، وهي زوجة المعارض الإماراتي عبد الرحمن باجبير، أحد أبرز المطلوبين على قوائم السلطات الإماراتية بسبب نشاطها الحقوقي الذي بدأ عام 2012 حين اعتقل والدها ضمن ما يعرف بقضية “جمعية الإصلاح”، هذا النشاط الذي تحول مع مرور الوقت إلى منصة فاضحة لكشف الوجه الآخر لدولة التسامح والإنسانية.
كان اعتقال والدها، وهو أحد الموقعين على عريضة 3 من مارس/آذار 2011، التي طالبت بإجراء إصلاحات سياسية وتشريعية في البلاد، نقطة الشرارة الأولى نحو بدء مشوار آلاء الحقوقي الذي دفعت ثمنه غاليًا جدًا، لتواجه اليوم مصيرها المجهول وسط حزمة من التساؤلات.
شكوك بشأن الوفاة
أثار الغموض الذي اكتنف ملابسات الوفاة شكوك البعض في طبيعة الحادث، وما إذا كان متعمدًا، ما دفع البعض إلى ترجيح أن تكون الواقعة مدبرة وليست “قضاء وقدر” كما تبدو من خلال المعلومات المتاحة حاليًّا، وهو ما ألمح إليه الأكاديمي الموريتاني محمد مختار الشنقيطي حين غرد قائلًا: “توفيت مديرة مؤسسة القسط الحقوقية #آلاء_الصديق بعد صدمها بسيارة في بريطانيا فيما يشبه العمل الإجرامي”.
العديد من نشطاء التواصل الاجتماعي عبروا عن عدم اقتناعهم بأن الوفاة نتيجة حادث سير عادي، مشككين في الرواية المتداولة حتى كتابة هذه السطور، منوهين إلى أيادٍ خفية وراء الحادثة، لا سيما أن آلاء كانت على قائمة الاغتيالات السياسية والمعنوية للذباب الإلكتروني التابع لأبناء زايد، رفقة العشرات من الحقوقيين ممن سلكوا درب فضح الانتهاكات الإماراتية بحق المعارضين.
آخرون وصفوا ما حدث للناشطة الإماراتية بأنه “خاشقجي جديد”، في إشارة إلى قتل المعارض السعودي جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده بإسطنبول، أكتوبر/تشرين الأول 2018، وإن كانت الجريمة مختلفة من حيث أدوات التنفيذ وتفاصيل العملية.
توفيت مديرة مؤسسة القسط الحقوقية #آلاء_الصديق بعد صدمها بسيارة في بريطانيا فيما يشبه العمل الإجرامي، وقد قضت العقد الأخير من عمرها مدافعة عن تحرير والدها السجين في #أبوظبي مع خيرة أبناء الإمارات. وعرفتُها في الدوحة ملتزمة كريمة السجايا، تقبلها الله #آلاء_الصديق_في_ذمة_الله pic.twitter.com/lajRboN3YK
— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) June 20, 2021
آلاء والأزمة الخليجية
التلميح إلى عدم قبول رواية حادثة السير القدرية له سوابق عدة، كشفتها السلطات الإماراتية الساعية لإلقاء القبض على الناشطة الحقوقية بأي ثمن، حتى لو كلفها ذلك توتير علاقاتها الخارجية مع بعض البلدان، وهو ما حدث بالفعل مع قطر، فالغريب أن آلاء الصديق ربما كانت أحد أسباب الأزمة الخليجية.
في يناير/كانون الثاني 2018 وفي حوار له ببرنامج “الحقيقة” المذاع على تليفزيون قطر، كشف الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري النقاب لأول مرة عن قصة الناشطة الحقوقية الإماراتية، آلاء الصديق، وأنها كانت سببًا للخلاف مع أبو ظبي منذ 2015.
الوزير القطري أوضح أن السلطات الإماراتية طلبت من بلاده تسليم الناشطة أكثر من مرة، آخرها قبل اندلاع الأزمة الخليجية في يونيو/حزيران 2017، حينها كانت هناك حملة إلكترونية تستهدف الدوحة، وكان القطريون لا يعرفون سببًا محددًا لتلك الحملة خاصة أن الأجواء بين الجارتين لم تكن متوترة في ذلك الوقت.
لكن سرعان ما تكشفت الأمور رويدًا رويدًا، فكان المقابل لوقف تلك الحملة الممنهجة تسليم آلاء للجانب الإماراتي، وهو ما رفضته السلطات القطرية، فقد نقل الوزير عن أمير البلاد، الشيخ تميم بن حمد، رفضه للطلب الذي حمله المبعوث الإماراتي الذي بعثه ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، خصيصًا لتقديمه، وذلك بسبب عاملين: “الأول أن هذه المرأة ليست مطلوبة في جرم جنائي وهذا مخالف للقانون الدولي وللدستور القطري، فالمادة 58 من الدستور القطري تحرم علينا تسليم أي لاجئ لأسباب سياسية، والعامل الثاني أن أخلاقنا وتقاليدنا كعرب لا تجيز لنا تسليم المرأة ومسألة ثقافة اللاجئين هي ثقافة مرسخة في تاريخنا ومرسخة لدى أجدادنا الذين استقبلوا الكثير من اللاجئين من دولهم وهؤلاء اللاجئون في فترة من الفترات كانوا حكامًا ورجعوا حكامًا، وهذه الثقافة موجودة ومترسخة في دولة قطر ودول مجلس التعاون الأخرى”.
كان ذلك في 2015، ولم يكن يتوقع القطريون أن تكون تلك الناشطة أحد أسباب تلك الحملة الإماراتية، التي استمرت بعد ذلك دون توقف، وهنا يضيف وزير الخارجية القطري “افترضنا تفهم دولة الإمارات لهذه الخطوة، حيث ذكر لهم سمو الأمير أننا لن نسمح لأي شخص أن يستخدم الدوحة كمنصة للهجوم على دولة الإمارات أو أي دولة خليجية، وأوفينا بهذا الوعد ومن ثم أعيد فتح هذا الموضوع في ظل الهجمات التي تمت ملاحظتها عندما طرحنا عليهم هذا الموضوع، حيث طلبوا منا تسليم هذه المطلوبة كمقابل لتوقف الهجمات الإعلامية، كان رد سمو الأمير واضحًا ونقلتُ هذا الرد بنفسي إلى أبو ظبي في شهر أبريل بأننا لن نقوم بالتسليم وهذه المرأة التي لم تخالف أي شرط من شروط الجلوس في دولة قطر مع أهلها وهذا لن نقبله على أنفسنا ولن نقبله على أخلاقنا ولن يسجل هذا الشيء على دولة قطر”.
وبعد شهرين فقط من الرد القطري على الطلب الإماراتي اندلعت الأزمة الخليجية الشهيرة التي كشف تطورات أحداثها اللاحقة أن أبو ظبي كانت بارود إشعالها، والحائل دون حلحلتها على مدار 3 سنوات، حتى تمت المصالحة في قمة العلا السعودية، يناير/كانون الثاني 2021، التي جاءت على غير رضا أبناء زايد الذين حرضوا في الداخل والخارج ضد الدولة القطرية.
معارضة وحقوقية إماراتية تحكي لبي بي سي عن “وجه آخر” لبلادها
ملاحظة: أعدنا نشر التقرير بعد تصحيح أخطاء لغوية في نسخة سابقة. pic.twitter.com/s4rmYsvQzW
— BBC News عربي (@BBCArabic) February 14, 2021
فضيحة سحب الجنسية
من بين الفضائح الحقوقية الإماراتية التي كشفتها آلاء في شهاداتها التي فضحت بها الوجه الآخر لدولة التسامح والإنسانية قصة سحب الجنسية من والدها، فتقول عبر سلسلة تغريدات لها إن جوازات الشارقة استدعت والدها في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، حينها أبلغوه بصورة مفاجئة بسحب جنسيته الإماراتية منه، وأطلعوه على مرسوم موقع من رئيس الدولة بذلك.
وأشارت “طلبوا من والدي تسليم جوازه وهويته، فطلب منهم أن يتقوا الله ويبحثوا عن عمل آخر لا يجعلهم سببًا في ظلم الناس والتعدي على حقوقهم وكان من المحرج أن واحدًا من الضباط من كان والدي مأذون عقد قرانه”، لافتة أن والدها عقب عودته اتصل ببعض أصدقائه فعلم منهم أنه قد جرى معهم ما جرى معه.
وعن دوافع سحب الجنسية من الوالد و7 أشخاص آخرين بحسب القرار الصادر برقم 2/1/7857 فإن “الخبر يقول السحب جاء نتيجة لقيامهم بأعمال تعد خطرًا على أمن الدولة، وفيه إشارة تبدو ذكية وهي أن “جنسيتهم بالتجنس”.
وأضافت “الخبر يقول السحب جاء نتيجة لقيامهم بأعمال تعد خطرًا على أمن الدولة، وفيه إشارة تبدو ذكية وهي أن “جنسيتهم بالتجنس”، وهذا الادعاء لتبرير السحب الذي لا يتم إلا لمن حصل على الجنسية بالتجنس، وهنا جنسية أبي وهي “بحكم القانون” لا التجنس”.
رفض الوالد المعتقل القرار ولم يستسلم، فأصدر ورفاقه مذكرة جاء فيها أن هذا التحرك انتقامي وليس قانونيًا، ومرده إلى توقيعهم على عريضة 3 من مارس/آذار التي طالبت بإصلاحات سياسية، وقد أحدثت تلك المذكرة جدلًا كبيرًا في الشارع الحقوقي الإماراتي، الأمر الذي دفع السلطات إلى استدعاء المسحوبة جنسيتهم وتخييرهم بين الاعتقال واختيار جنسية أخرى، في الغالب تايلند أو جزر القمر، كان ذلك في 9 من أبريل/نيسان 2012.
المفاجأة كانت اختيار المسحوب جنسيتهم للاعتقال عن التنازل عن اختيار جنسية أخرى، وبالفعل وقع ما قد تم التحذير منه “تم احتجازهم في توقيف الشهامة بأبو ظبي الخاص بمخالفي الإقامة، تعرضوا بعدها للإخفاء القسري في يوليو/تموز 2012 ولم يظهروا إلا في مارس/آذار 2013 وقت المحاكمة”، لتصدر المحكمة حكمًا قضائيًا في 2 من يوليو/تموز من نفس العام بسجن الشيخ الصديق عشر سنوات.
سأكتب في هذه السلسلة (الثريد) كيف سحبت جنسية والدي المواطن الإماراتي #محمد_عبدالرزاق_الصديق العبيدلي وأدى ذلك لاعتقاله، وانعكس علينا كعائلة ولماذا! مع المتوفر عندي من الصور والأدلة#افرجوا_عن_معتقلي_الامارات pic.twitter.com/gT3ZFoN6MN
— Alaa آلاء (@alaa_q) July 10, 2020
فرار من سجون أبناء زايد
لم يكن قرار مغادرة آلاء وزوجها الإمارات قرارًا سهلًا، إذ كان بمثابة الفرار بالروح والجسد من بطش وتنكيل سلطات بلادها التي كشرت عن أنيابها منذ اعتقال والدها في 2012، وهو عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعمل مدرسًا في قسم الفقه وأصوله بجامعة الشارقة، بجانب عضوية الهيئات الشرعية في الجمعيات المالية، ومجلس رابطة علماء الشريعة في دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى أنه مدير عام مؤسسة بيت الشارقة الخيري.
الناشطة في لقاء متلفز لها على شاشة “بي بي سي عربي” كشفت بعض التضييقات التي تعرضت لها وعائلتها داخل الإمارات، وهو ما دفعها للهروب إلى قطر، كمحطة مؤقتة، ثم إلى بريطانيا بعد ذلك، فمنذ إخفاء الوالد قسريًا ثم ظهوره بعد ذلك بصورة مفاجئة داخل إحدى ساحات التقاضي وتتعرض الأسرة لحملة تنكيل غير مسبوقة.
البداية كانت مع حرمان والدتها وأشقائها من تجديد جوازات السفر التي انتهت صلاحيتها عام 2013، فقد رفضت جميع الطلبات بتجديد الجوازات التي قدمت لإدارة جوازات أبو ظبي، بخلاف منع الأبناء من تقلد أي وظائف بسبب الموافقة الأمنية، فضلًا عن المنع من السفر للجميع وحرمان الأبناء خريجي الثانوية من الدراسة الجامعية لعدم توافر جواز سفر ساري المفعول.
وصل التعسف بالسلطات الإماراتية إلى حرمانها لأسرة الأكاديمي المعتقل، من المساعدة الاجتماعية لأبناء المسجونين، وهو القرار الذي جاء مخالفًا لكل الأعراف القانونية المعمول بها في دول العالم كافة، في محاولة لإذلالهم والضغط عليهم وتركيعهم بعدما بدر منهم من ثبات وصمود أثار إزعاج العقلية الديكتاتورية التي تحكم البلاد.
واستعرضت آلاء حزمة من القوانين التي صادق عليها أبناء زايد خلال السنوات الأخيرة لخنق الحريات ووأد المعارضة من جذورها، أبرزها قانون الجرائم الإلكترونية الصادر عام 2012، الذي يجرم جميع أشكال الانتقاد السلمي للحكومة على مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا بخلاف قانون مكافحة الجرائم الإرهابية الذي حدث عام 2014 ويشمل عقوبة الإعدام على خلفية التعبير عن الرأي، مستشهدة بحالتي الناشط الحقوقي أحمد منصور والأكاديمي ناصر بن غيث وكلاهما معتقلان على خلفية انتقادهما للسلطات، مختتمة حديثها بأن الإمارات “يغيب فيها أي منفذ حقيقي لإيصال الرأي بشكل ممنهج، ومجالس الشيوخ التي يتردد أنها دائمًا مفتوحة لا يسمح لأحد بالدخول إليها”.
استهداف المعارضين وأسرهم
سجل الإمارات الحقوقي حافل بالانتهاكات الموثقة في تقارير المنظمات الدولية، واستهداف المعارضين والمغردين خارج السرب بات إستراتيجية ومنهجية معتمدة لدى أبناء زايد، رواد الثورات المضادة في المنطقة العربية، وحجر العثرة الأبرز أمام تحقيق الشعوب لأحلامها وطموحاتها.
في تقريرها السنوي عام 2020 كشفت منظمة “هيومن رايتس ووتش” ما أسمته “استخفاف الإمارات بسيادة القانون” من خلال موجة الاعتقالات التعسفية التي شنتها السلطات الأمنية بالبلاد، وما تبعها من محاكمات معيبة بشكل خطير، وانتهاكات واسعة ضد المحتجزين.
المنظمة في تقريرها أشارت إلى أنه “رغم إعلان 2019 “عام التسامح” فقد عزّز حكام الإمارات قمعهم لجميع أشكال المعارضة السلمية من خلال استمرارهم في احتجاز النشطاء الذين أنهوا عقوباتهم دون أساس قانوني واضح”، وهو ما أشار إليه نائب مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة، مايكل بَيْج، حين قال: “أثبتت الإمارات مرارًا وتكرارًا خلال 2019، وهي تحتفي ببهرجة بكونها دولة متسامحة ومحترمة لحقوق الإنسان، مدى عدم احترامها فعليًا لحقوق الإنسان العالمية. تجاهل دولة الإمارات الأساسي لسيادة القانون لا يؤذي فقط المعارضين والمنتقدين للنظام، لكنه يمسّ أي شخص قد يصطدم مع السلطات والنظام القضائي المعيب في البلاد”.
وقبل شهر واحد فقط من هذا التقرير كانت المنظمة قد وثقت في تقرير سابق نشرته في ديسمبر/كانون الأول 2019، استهداف جهاز أمن الدولة الإماراتي العشرات من أقارب معارضين إماراتيين محتجزين أو معارضين مقيمين في الخارج.
المنظمة وثقت بالأدلة “استهداف أقارب ثمانية معارضين للدولة. من بينهم معارضون انتقلوا إلى الخارج وآخرون محتجزون يقضون حاليًّا عقوبات طويلة في الإمارات. سحبت الحكومة جنسية 19 من أقارب لمعارضَين اثنين، هناك 30 شخصًا على الأقل من أقارب ستة معارضين ممنوعون حاليًّا من السفر و22 من أقارب لثلاثة معارضين غير مسموح لهم تجديد وثائق هويتهم، فيما واجه أقارب جميع المعارضين الثمانية قيودًا على الحصول على الوظائف ومتابعة التعليم العالي بين 2013 و2019”.
وفي الأخير.. قد يغيب الموت حياة واحدة من أخلص المؤمنين بالقضية الحقوقية لأبناء بلدها، وأيًا كانت أسباب الوفاة وحجم ومستوى الشكوك التي أثارتها تلك الحادثة المريبة، يخطئ من يظن أن برحيل آلاء سيتوقف مدادها في الزود عن معتقلي الرأي، فربما تكون نقطة أولى في سطر قد يفتح الباب نحو مؤلفات عدة تقود القاتل إلى مصيره المحتوم، بعد إسقاط كل الأقنعة المزيفة عن وجهه القبيح.