ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ أن كان محمد آية الله طبار طفلا، سمع تنبؤات واثقة بأن الحكومات المتشددة في وطنه، إيران، محكوم عليها بالفشل. يقول طبار: “ساد الاعتقاد منذ اندلاع الثورة أن النظام لن يستطيع الاستمرار”. بعد أشهر قليلة من استيلاء الثوار على السلطة في إيران سنة 1979، “قال الناس إن النظام سينهار في غضون سنة”.
في الواقع، لم يأت ذلك التوقع من فراغ، فقد واجهت الحكومة الإيرانية الجديدة عزلة في الخارج واضطرابات في الداخل تحولت إلى حرب أهلية ثم حرب لإقليمية مدمرة مع العراق المجاور. صمد النظام رغم كل ذلك، حتى أنه خلق في بعض الأحيان سلسلة من الأزمات التي قد تطيح بحكومات أكثر ثراء وتجذرا.
تبدو إيران اليوم صورة مثالية للدولة المتهالكة، بشعبها الغاضب واليائس، واقتصادها الفوضوي، والفساد وسوء الإدارة، والمشاكل في الخارج، والعزلة الدولية. يوم الجمعة، أجرت إيران انتخابات رئاسية قاطعها معظم الإيرانيين، وكانت بمثابة صفعة أخرى لشرعية النظام الذي عانى ضربة تلو الأخرى على مدى ثلاثة عقود. لكن الدكتور طبار، الذي يدرّس حاليا النظام السياسي الإيراني في جامعة تكساس إيه آند إم، يقول: “ومع ذلك فقد نجا النظام”.
تحدى النظام الإيراني توقعات الخبراء والخصوم الأجانب، والمواطنين الإيرانيين، وتحدى أيضا الحقائق الأساسية للتاريخ. مع تعثر حكومات تبدو أكثر استقرارا في جميع أنحاء العالم، يتعمق لغز صمود النظام الإيراني.
يسلط عدد متزايد من البحوث الضوء على مرونة النظام الإيراني في وجه التحديات. وجدت دراسة جديدة أن إيران تنتمي إلى ناد صغير من الدول التي أثبتت أنظمتها أنها من أكثر الأنظمة ديمومة في العالم: تلك التي تشكلت من ثورة اجتماعية عنيفة. يشمل هذا النادي كوبا وكوريا الشمالية – وهما عدوّان آخران للولايات المتحدة أحبطا محاولات كثيرة للإطاحة بهما خلال العقود الماضية – بالإضافة إلى الصين وفيتنام والجزائر والعديد من الدول الأخرى. يبلغ متوسط عمر هذه الدول الافتراضي ضعف متوسط عمر الأنظمة الأخرى تقريبا، كما أن احتمالات بقائها صامدة بعد 30 سنة يتضاعف أربع مرات تقريبا.
لا يتعلق الأمر بأن هذه الدول تتمتع بقيادة حكيمة. في الواقع، البؤس منتشر في كثير منها، لكنها تشترك في مجموعة من السمات التي يعتقد الخبراء أنها تستمد منها قوّتها ضد العوامل التي تعرّض الحكومات الاستبدادية للخطر. ولعل ما يجلب الانتباه هو أن الأنظمة الثورية لم تتأثر إلى حد كبير بالوضع الراهن الذي تتعرض فيه الديمقراطيات والديكتاتوريات على حد سواء إلى اضطرابات متزايدة. قد يساعد فهم هذه القيم المتطرفة في الكشف عن سبب صمود هذه الأنظمة.
تكريم فيدل كاسترو في سانتياغو دي كوبا، بعد أيام من وفاته سنة 2016. مثل الدول الشيوعية الأخرى التي صمدت بعد 1989، تأسس النظام في كوبا بعد ثورة اجتماعية عنيفة.
لماذا تصمد الثورات؟
اكتشف ستيفن ليفيتسكي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، هذا التوجه مع لوكان واي من جامعة تورنتو، أثناء عملهما على دراسة حول السلطوية. خلص الباحثان إلى أنه عندما انهارت معظم الحكومات الشيوعية سنة 1989، نجت 5 حكومات فقط، وكانت جميعها دولا ثورية، على عكس معظم الحكومات التي سقطت حينها.
يقول ليفيتسكي إن “الصمود بعد نهاية الشيوعية أمر صعب للغاية”. وبعد عقود، لا تزال الدول الخمسة صامدة، حتى مع انهيار حكومات دول مجاورة لها. وقد مرّت خمسة دول ثورية غير شيوعية بنفس الوضعية، حيث أثبتت ديمومتها، واستمر معظمها لأكثر من ربع قرن.
قام الباحثان بدراسة البيانات الخاصة بكل حكومة في جميع أنحاء العالم منذ سنة 1900، وقد وجدا أن الأنظمة الثورية استمرت لفترة أطول ونجت من أزمات لم ينج منها الآخرون. (هذا لا يعني أنها تدوم إلى الأبد. صمد الاتحاد السوفيتي 69 سنة قبل أن ينهار داخليا).
هل يمكن أن تكون هناك بعض السمات الأخرى التي تفسر استمرارية هذه الدول؟ الجواب هو لا، فحتى بعد السيطرة على عوامل مثل الثروة أو الموارد الطبيعية أو تكوين الحكومة، فقد استمر هذا التوجه. في المقابل، لاحظ الباحثان شيئا آخر، فقد عرفت هذه الدول انخفاضا في مستوى الاحتجاجات الجماهيرية أو محاولات الانقلاب أو الانشقاقات بين النخبة الحاكمة بنسبة 72 بالمئة مقارنة بالدول الأخرى. تعدّ هذه العوامل الأسباب الرئيسية لوفاة الديكتاتوريات، وقد كان الأمر أشبه باكتشاف الجين الذي يقلل من خطر الإصابة بأزمة قلبية بمقدار ثلاثة أرباع.
من جهة أخرى، حدد الباحثان مجموعة من الصفات التي تفسر هذا الاختلاف. تصل الثورة إلى أوجها عند تدمير جذور وفروع النظام القديم، ويتم تطهير أو تهميش المؤسسات الاجتماعية من الأسفل إلى الأعلى، مثل رجال الدين أو طبقة التجار، والتي يمكن أن تتحدى سيطرة الحكومة على المجتمع. كذلك، تعاني المؤسسات من الأعلى إلى الأسفل، مثل الجيش والبيروقراطية الإدارية، من نفس درجة القمع.
قد تكون الثورة غير مؤهلة تماما لإدارة الدولة والمجتمع، لكن سيطرتها على مفاصل الحكم يتركها بلا منافسين حقيقيين من الداخل وعلى مستويات دنيا. تمتد هذه السيطرة عادة إلى وحدات الجيش والأجهزة الأمنية، والتي يرأسها موالون للنظام. كل هذا يزيل مخاطر الانقلاب أو الانهيار، ويجعل القادة أكثر جرأة في استخدام القوة لقمع المعارضين.
تتميز الأنظمة الثورية بالترابط، فرغم وجود خلافات وصراع على السلطة، إلا أن الموالين للنظام يعملون على حمايته من الأعداء.
عادة ما يترسخ هذا الالتزام المشترك بالقضية منذ بداية تأسيس الدولة. منذ أن حاربت الممالك الأوروبية فرنسا الثورية، اندلعت عدة حروب كان أغلبها ضد الدول المجاورة. عند مواجهة تهديد خارجي، ينسى المجتمع خلافاته ويتّحد للدفاع عن القضية الوطنية، ويعيد النظام الثوري تشكيل نفسه من رماد الاضطرابات والحروب ويؤسس قيمًا تشكّل المجتمع الجديد لأجيال قادمة.
روح الله الخميني يلوح لأتباعه في طهران في الثاني من شباط/ فبراير 1979، بعد عودته من المنفى.
صمود إيران
تضمنت ثورة 1979 كل هذه السمات بشكل كبير. لقد قطع الزعيم روح الله الخميني مع النظام القديم بأكمله، وأقام مؤسسات ثورية بقدرات متواضعة لكنها قوية أيديولوجيا.
اندلعت الحرب مع الجارة العراق التي كانت مدعومة من دول تخشى انتشار فتيل الثورة، وقد توحّد قادة النظام والجيش والأجهزة الأمنية واستغلوا الموقف لقمع المنافسين والمعارضين في المجتمع.
وكان من المتوقع أن تستسلم الثورة للصراعات الداخلية عندما توفي الخميني سنة 1989، وأن تصعد الخلافات إلى العلن داخل المؤسسة العسكرية، وأن يطالب المواطنون بديمقراطية أشمل، لكن النظام احتفظ بجذوره العميقة عن طريق المؤسسات والمؤسسات الاجتماعية، مما جعله يحافظ على تماسكه.
يقول الدكتور طبار إن “النظام نجا في الواقع بفضل هذه الأزمات”، مضيفا أنه منذ ذلك الحين، اعتقد المراقبون في فترات الاضطرابات – ومنها فترة التنافس على السلطة في التسعينيات، واحتجاجات الحركة الخضراء سنة 2009 – أن النظام على وشك الانهيار.
ويتابع طبار: “في الواقع، هذا النوع من انقسام النخبة لا يزيد النظام إلا مرونة”.
أدت كل هذه الأحداث إلى حشد أبرز القادة والمؤسسات في البلاد وراء سياسة الأمر الواقع، وإظهار وحدتهم، وتهميش المنافسين.
يقول الدكتور ليفيتسكي: “هناك منافسة جادة وحقيقية وخلافات عميقة، لكن كل الفصائل متمسكة بالنظام الثوري”.
معظم السياسيين، حتى أولئك الذين يدعون إلى الإصلاح أو يخسرون في الانتخابات بسبب التزوير، يحافظون على ولائهم للنظام.
ورغم أن انتخابات هذا الأسبوع لم تخلّف الكثير من الاحتجاجات، إلا أن شبح الاضطرابات الجماهيرية والانقسام السياسي خيّم عليها مثل أي انتخابات في إيران، خاصة تلك التي تشوبها الاتهامات بالتزوير.
قد تكون إيران الاستثناء الذي يثبت القاعدة. عندما تنحرف عن المبادئ الثورية، يؤدي ذلك إلى عدم الاستقرار وتزايد التحديات الداخلية. لكن بعد 42 سنة والمرور بالعديد من الأزمات الحادّة، بقيت إيران صامدة بشكل مدهش.
عناصر من الحرس الثوري الإسلامي في عرض عسكري بطهران سنة 2016.
عالم غير مستقر
في الواقع، يبعث هذا الصمود رسالة قوية لمن ينتظر سقوط كوبا أو إيران بفارغ الصبر، وقد يسلط الضوء أيضا على الأسباب التي تجعل الأنظمة الأخرى تواجه مزيدا من المشكلات وعدم الاستقرار.
إن السمات التي تميّز الأنظمة الثورية – أي قوة المؤسسات، والوحدة المجتمعية، والتماسك السياسي – آخذة في التدهور في جميع أنحاء العالم، وقد يكون هذا هو السبب في ظهور شكل من أشكال حكم الرجال الأقوياء.
يقول الدكتور ليفيتسكي إن “الدكتاتور غير المؤسسي، تستمر عهدته لثماني أو 10 سنوات أو 12 سنة، ثم يواجه الأزمات، ثم يتقدم في السن ويسقط”.
إن عالمنا اليوم يمجّد الرجال الأقوياء ويؤجج المشاعر الشعبوية، وهو ما يؤثر على معايير الديمقراطية، ويضعف المؤسسات، ويؤدي إلى تعيين بعض المسؤولين بالقوة داخل الديمقراطيات المهتزة.
بالاضافة إلى ذلك، تؤثر الأنظمة الثورية على البنية التحتية للمجتمع، ويصبح عرضة لتقلبات المشاعر، واضطراب المؤسسات على غرار الجيش أو القضاء أو الأحزاب.
قد يكون هذا هو السبب في أن الكثيرين يحاولون إعادة إنتاج الثورات من الأعلى، لكن معظمهم يفشلون، الأمر الذي يؤدي إلى الإطاحة بهم. حتى المحاولات الناجحة عادة ما تنهار عند رحيل القائد، وهذا يقدم دروسًا للديمقراطيات أيضًا، حيث إنها تكافح في ظل اتجاه عالمي قد يساعد -بشكل غريب- على صمود الحكومات القائمة على أسس ثورية.
يقول ليفيتسكي في هذا الإطار: “هذا النوع من الاستقطاب الذي يهدد بتدمير العديد من الديمقراطيات ربما يؤدي في الأخير إلى تعزيز الأنظمة الثورية”. إن النموذج الذي يصور المعارضين كتهديد للدولة، يمكن أن يبقي الطبقات الحاكمة موحدة في وجه المعارضة.
الصحيفة: نيويورك تايمز