فُجعت صباح الأحد 20 يونيو/ حزيران بخبر وفاة الناشطة والحقوقية آلاء الصدّيق، إثر حادث سير في مدينة أكسفورد البريطانية، بعد مأدبة عشاء كانت تحتفل فيها بعامها الـ 33 مع مجموعة من الأصدقاء.
كانت وفاة آلاء صدمة كبيرة لي ولكل أصدقائها ومعارفها ولكثير ممن تعرّف عليها بعد خبر وفاتها، حين رأوا فيها ثائرة وأيقونة ومدافعة حقيقية عن قضاياهم، بدءًا من سوريا واليمن والسعودية، وليس نهاية بفلسطين المحتلة، وهي المعروفة بموقفها الواضح تجاه رفض التطبيع مع كيان الاحتلال.
لا تحتاج سيرة حياة آلاء إلى من يزكيها أو يزيد عليها في الشرح والتفصيل، إذ تشهد لها مواقفها الشجاعة وسعيها الدؤوب، اللذين اتخذت منهما نهج حياة في مواجهة الظلم والتغييب القسري بحق والدها أولًا، ومن أجل كل المعتقلين والمعتقلات لاحقًا.
لكن حملة التشويه والاغتيال المعنوي التي دشنتها شخصيات محسوبة على آل زايد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب أزيز الذباب الإلكتروني البغيض وضجيج وسائل إعلام إماراتية مخز، هي ما يدفعنا للتذكير بالبديهيات.
مأساة إنسانية
منذ أن اعتقل والد آلاء، أستاذ الشريعة محمد عبد الرزاق الصدّيق، عام 2012 من قبل السلطات الإماراتية، ضمن ما يُعرف بقضية “جمعية الإصلاح” بعد توقيعه على عريضة 3 من مارس/ آذار 2011، لم تتردد السلطات الإماراتية في شن حملة من التضييقات والملاحقات بحق عائلة الصدّيق، وبالأخص ضد آلاء التي كانت تدافع بشراسة عن والدها وتوجِّه الرأي العام تجاه قضية اعتقاله، إذ حسب لقاء مصوَّر لها مع قناة بي بي سي، قالت إنها اضطرت هي وزوجها للهرب من الإمارات خوفًا من اعتقالهما، نتيجة كشفها ملابسات اعتقال والدها أمام الملأ.
وتضيف أن الأمر بدأ مع حرمان والدتها وأشقائها من تجديد جوازات السفر التي انتهت صلاحيتها عام 2013، حيث رُفضت جميع طلباتهم لتجديد الجوازات من قبل إدارة جوازات أبوظبي، بخلاف منع الأبناء من تقلد أي وظائف بسبب الموافقة الأمنية، ومنعهم من السفر وحرمان الأبناء خريجي الثانوية من الدراسة الجامعية.
وقد وصل التعسف بالسلطات الإماراتية إلى حرمانهم من المساعدة الاجتماعية التي يتلقاها أبناء المسجونين، وهو القرار الذي جاء مخالفًا لكل الأعراف القانونية المعمول بها دوليًا، في محاولة لإذلالهم والضغط عليهم وترويعهم.
ولم يكتفوا بهذا القدر، بل عملوا على ملاحقتها حتى في مهجرها، كما كشف حوار لمحمد بن عبد الرحمن آل ثاني، نائب رئيس مجلس الوزراء، ووزير الخارجية القطري، ببرنامج “الحقيقة” المذاع على تلفزيون قطر، إذ كشف فيه عن طلب السلطات الإماراتية من بلاده تسليم آلاء أكثر من مرة، آخرها قبل اندلاع الأزمة الخليجية في يونيو/ حزيران 2017، وهو ما رفضته الدوحة لمخالفته لدستورها وللقوانين الدولية والأعراف العربية.
وقد عرّت آلاء وجه الإمارات، بكشفها عن سحب إدارة جوازات أبوظبي لجنسية والدها وجنسيتهم لاحقًا، كعقاب على ما فعلته، ما يتنافى مع حقوق الإنسان وحقه بالتعبير والمواطنة.
كاد المريب أن يقول خذوني
على الرغم من إعلان منظمة “القسط” التي كانت الراحلة تشغل منصب مديرتها التنفيذية، وعدد من أقارب آلاء الذين أشاروا إلى أن التحقيقات الأولية لا تدلّ إلى وجود شبهة جنائية، إلا أن عدم وجود تفاصيل عن واقعة الوفاة من وجهة، ووجود سجل حافل بالاغتيالات لدى الإمارات أثار شكوك الكثيرين، وعبّروا عنها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مستندين إلى “أسباب موضوعية” لاستهداف الإمارات لآلاء بالاغتيال، على رأسها، السببين الذين أشرنا إليهما: ملاحقة آلاء ومحاولة استردادها من مهجرها في قطر، وحملة الاغتيال المعنوي، وهي حملة قديمة مستجدة سأتحدث عن تاريخها بصورة أوسع في سطور لاحقة.
أحدهم نعتها بالخائنة والآخر ادعى تنازلها عن مواقفها.. لماذا تصر الأجندة #الإماراتية على تشويه صورة #آلاء_الصديق حية وميتة؟ pic.twitter.com/bbyQ1kHkrF
— نون بوست (@NoonPost) June 21, 2021
ومن الأسباب الموضوعية الأخرى:
– شهرة الإمارات بملاحقة المعارضين لنظام الحكم والتضييق عليهم حتى بعد مغادرتهم أراضي المملكة المتحدة، واغتيال الناشطين منهم رجالًا ونساء دون تفريق، حتى إن كانوا من أفراد العائلة الحاكمة كالشيخة لطيفة المختفية منذ سنوات، بعد محاولتها الهرب من قصر العائلة وإعادتها قسريًّا، وما زالت مختفية عن الأنظار حتى اليوم رغم مطالبات الأمم المتحدة بالكشف عن مصيرها.
بالإضافة إلى بروز اسم الإمارات كمسؤول أول في موجة الاغتيالات الكثيفة، التي شهدتها مدينة عدن في اليمن في السنوات الأربعة الأخيرة، مستعينة بمرتزقة أميركيين وفرنسيين استأجرتهم بعقود رسمية، لتصفية من تعتبرهم أبوظبي خصومًا سياسيين أو أيديولوجيين.
– المعروف عن بريطانيا بأنها وجهة للاغتيالات وتصفية الحسابات، إذ أعادت وفاة آلاء إلى الأذهان صفحات دامية من تاريخ الاغتيالات السياسية التي شهدتها شوارع وأحياء المملكة المتحدة، والتي وُجّهت فيها الاتهامات لأجهزة استخبارات من جميع أنحاء العالم، مثل مقتل المعارض السوري الشيخ عبد الهادي العرواني، الذي يُتهم النظام السوري باغتياله.
بالإضافة إلى تاريخ روسيا الحافل في استهداف معارضيها، آخرهم حين تم العثور على جثة المعارض الروسي نيكولاي غلوشاكوف في بيته.
كما كشفت صحيفة “إكسبريس” البريطانية أن جهاز “إم آي 6” كان في حالة تأهب قصوى خلال الأيام الأربعة التي تواجد فيها خاشقجي في لندن، بسبب اعتراض “منظمة الاتصالات الحكومية” البريطانية إشارات لمسؤولين سعوديين كانوا يراقبون خاشقجي خلال وجوده في العاصمة. بالإضافة لوجود اثنين من رجال الاستخبارات السعودية وثلاثة مسؤولين عسكريين بارزين كانوا في تركيا حينها، استعدادًا للسفر إلى بريطانيا لتصفية خاشقجي في لندن حيث يقيم، لكن سفره إلى تركيا غيّر كل شيء.
– لأن صوت آلاء كان صوتاً قوياً ومسموعاً في الغرب، إذ أنها لم تكن هادئة أبدًا، ولم يقتصر نشاطها في قضية والدها فقط، بل امتد للحديث عن حقوق الإنسان في الإمارات بشكل عام وتعذيب المعتقلين والمغيبين قسريًّا، بالإضافة إلى مشاركتها في قضايا حقوق المرأة ودعمها للناشطات السعوديات في حراكهنّ، وتواصلها المستمر والمعلن مع الثوار في سوريا واليمن ومصر، وحتى تبنيها مؤخرًا الحديث عن إخفاء وتعذيب الأميرة لطيفة ابنة حاكم دبي، محمد بن راشد آل مكتوم، ومن قبلها أختها الأميرة شمسة عام 2000.
أيضًا كانت الإماراتية الوحيدة التي تجرأت وعبّرت عن موقفها الرافض لتطبيع دولتها مع الكيان الصهيوني، في فيديو مصوّر عبر حساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي، ما يزيد من احتمال تعرّض دولة الإمارات لها أكثر من قبل بكثير.
الانتقام عبر الاغتيال المعنوي
على الرغم من أنه لا يمكن حتى الآن البت بالأسباب التي أدت إلى الوفاة، نتيجة غياب تفاصيل الحادث، إلا أن محاولات أيدي بن زايد في اغتيال آلاء معنويًّا لم تتأخر أبدًا، إذ بعد انتشار خبر وفاة آلاء بساعات قليلة، بدأت شخصيات محسوبة على الإمارات بنشر الأكاذيب والأقاويل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، استكمالًا لما بدأوه عام 2012 حين ظهرت للمرة الأولى مدافعة عن والدها.
إذ قال الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله في تغريدة عبر تويتر: “رحمها الله فتاة ذكية ومثقفة ومتحدثة لبقة وأصبحت ضحية تنظيم سري عبثي هارب من العدالة. كانت تنوي العودة لحضن أسرتها بعد فترة من الغربة والضياع والهروب والابتعاد عن الوطن”، مشيرًا إلى أن آلاء كانت تعمل لصالح جماعة الإخوان المسلمين في محاولة لوصمها بتهمة الإرهابية الفارّة من الوطن.
وبعد 31 دقيقة بالضبط من تغريدة عبد الله، يخرج “الصحفي” الإماراتي حمد المزروعي ليكرر الاتهامات نفسها، بالمفردات نفسها التي بدى أنه تم الاتفاق عليها مسبقًا.
ويكمن التضليل هنا في أن عائلة محمد الصديق، بمن فيهم الراحلة آلاء، قد جرى تجريدها من جنسيتها الإماراتية وحقها بالمواطنة لأسباب سياسية، ولا يمكنها حتى التفكير بالعودة إلى الدولة التي تعتقل والدها وتطارد زوجها وتضيّق على عائلتها وتستعدي الدول الجارة بسببها.
وهذه بالطبع ليست المرة الأولى التي تحاول بها “دولة السعادة”، تجنيد جنودها في مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام، للعب على وتر السمعة والتشهير بعائلة الصدّيق والتشكيك بنزاهة آلاء، بل وصل بإحدى المنصات الإماراتية عام 2018 أن تدّعي بأن آلاء حصلت على جواز سفر سوري مزوّر بمساعدة دولة قطر، وهو ما نفته السفارة السورية في قطر لاحقًا، بالإضافة إلى اتهامهم إياها بالتعامل مع دولة عدوة لتقليب الرأي العام ضدها في بلدها الإمارات.
كما تم اتهامها من قبل موقع آخر عام 2018، بأنها “كنز أسرار تنظيم الحمدين، حيث تملك الكثير من المعلومات حول ما يحدث من تدريبات وتنظيمات تشرف عليها المخابرات القطرية ضد دول الخليج، بالإضافة إلى انتمائها لتنظيم الإخوان الإرهابي”.
ولم يتوقف الأمر هنا، بل انضمت كبرى الصحف والمواقع العربية للمشاركة في حملة تشويه سمعة آلاء، والكيل لها باتهامات لا يصدقها عقل، منها نشر صحيفة “البيان” المعروفة خبرًا تتهم فيه آلاء بأنها “واحدة من أخطر القيادات النسائية التابعة للإخوان المسلمين”، وبأنها “تتاجر بحقوق النساء مستغلة ما يسمى بالربيع العربي”، وصولًا للتشكيك بصحة قرانها من زوجها وقولهم إنه عقد باطل، مدّعين أنها وكّلت رجلًا غريبًا في تزويجها بدل أخيها أو عمها.
نهايةً.. لقد كانت آلاء الشابة التي هزت عرش آل نهيان وآل مكتوم وكسرت الصورة اللامعة التي تحاول أبو ظبي ودبي تصديرها، فلم تساوم على دماء الفلسطينيين تحت مسميات السلام والتعايش، ولم تتردد يومًا في إيصال صوت المعتقلين والمغيبين في السجون، كما لم تتراجع عن كل ما قالته في سبيل حرية والدها وحقه في التعبير عن رأيه في مصير بلد ينتمي إليه، كما كشفت حقيقة الكثير وكانت صوت من لا صوت لهم.
عاشت آلاء حياة قلقة لكن مسيرتها كانت مجيدة مشرّفة، سمعتها كمناضلة أحدثت ضجيجًا كونيًّا، شعر به من حولها وسمع به من لم يرَها، ولم يكن موتها أقل أثرًا من حياتها، وكما يقول المتنبي: “وَتَركُكَ في الدُنيا دَوِيّاً كَأَنَّما .. تَداوَلُ سَمعَ المَرءِ أَنمُلُهُ العَشرُ”.