في رواية “1984”، قال الكاتب الإنكليزي جورج أورويل إن “جوهر حكم الأوليغارشية هو إستمرار رؤية معينة للعالم، وأسلوب حياة معين يفرضه الموتى على الأحياء، المجموعة الحاكمة هي مجموعة حاكمة طالما يمكنها تسمية خلفائها”، ومثلما اختارت هذه الأوليغارشية خامنئي ليكون الوصي على رؤية الخميني الثورية، فإنها ترى اليوم في رئيسي تلميذًا موثوقًا به لحمل عباءة الخميني.
وفي هذا الإطار، شكلت عملية الهندسة الواضحة التي أطّرت المشهد الانتخابي الإيراني يوم 18 يونيو/ حزيران الماضي، والتي سهّلت الطريق لوصول إبراهيم رئيسي للسلطة، نقطة تحول في البلاد، بعد إصرار المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي على إيصال مرشحه المفضل، بدعم وتأييد من التيار المحافظ والحرس الثوري، حيث إنه غالبًا ما تبدو عملية التنبؤ بسلوكيات الأنظمة المغلقة أو الاستبدادية غير واضحة، إلا إن سلوكيات خامنئي جعلت من هذه القاعدة استثناء في علم السياسة، قاطعًا الطريق على أي مفاجآت قد تحصل، مفضلًا الحفاظ على الجمهورية أكثر من ترسيخ مبادئ الديمقراطية.
يمكن القول إن الانتخابات الرئاسية الأخيرة ضرّت كثيرًا بشرعية النظام الإيراني، ليس فقط على مستوى التدخلات المباشرة وغير المباشرة للمرشد الأعلى، وإنما على مستوى المقاطعة الواسعة التي شهدتها العملية الانتخابية، حيث لم تتمكن الفتاوى الدينية أو حتى الدعوات والنداءات التي صدرت من رجالات السياسة، في دفع الناس للمشاركة.
وقد تمّت ترجمة ذلك من خلال نسبة التصويت في الانتخابات، حيث إنه من أصل 60 مليون ناخب لم يشارك سوى 28 مليون، ما يؤشر إلى مدى عمق الأزمة التي يعيشها النظام الإيراني، خصوصًا على مستوى القاعدة الشعبية التي أصبحت اليوم ناقمة على النظام، وتنظر إلى عملية وصول رئيسي للرئاسة على إنها عملية تعيين أكثر من كونها انتخابًا.
وبالحديث عن سؤال الشرعية، يمكن القول إن السياسة التي اعتمدها خامنئي في الانتخابات الأخيرة، سواء عبر الإقناع (من خلال إقناع عديد من الشخصيات الإيرانية بعدم الترشح، كما حصل مع حسن الخميني)، أو الإقصاء (عبر استخدام صلاحيات مجلس صيانة الدستور في إقصاء العديد من المنافسين، كما حصل مع علي لاريجاني وأحمدي نجاد)، تمثل تجاوزًا استبداديًّا دمر الشرعية المتبقية للجمهورية، ووضعها أمام خطوات متسارعة لسقوطها في أي لحظة.
ويمكن القول أيضًا إنه جعلها أمام علامة فارقة أخرى في دورة حياة نظام ثيوقراطي غير قابل للإصلاح، خصوصًا إن عملية انتخاب رئيسي قد تشكل خطوة مبكرة ليشغل كرسي خامنئي، ما قد يجعله في صدام حقيقي أمام حوزة قُم، التي تبدو اليوم أكثر الناقمين على رئيسي، بفعل تحول مركز القوة في إيران من قُم إلى مشهد، حيث ينتمي رئيسي.
لاءات رئيسي
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن عملية انتخاب رئيسي، الذي يُنظَر إليه من منظور المفاوضات النووية الجارية مع إيران، سيزيد من شعور إدارة بايدن بالإلحاح لإبرام صفقة قبل تنصيب إدارة إيرانية أكثر تشددًا لا محالة في 8 أغسطس/ آب المقبل، إلا إن المرشد الأعلى والحرس الثوري يهدفان من تواجد رئيسي على رأس مؤسسة الرئاسة إلى عرقلة هذا الطموح الأميركي، دون تنازلات واضحة لإيران، حيث إن نظرة بسيطة على ما أدلى به رئيسي من تصريحات في المؤتمر الصحفي الأول الذي عقده بعد فوزه بالانتخابات في 21 يونيو/ حزيران 2021، توضح كثيرًا من ملامح الدبلوماسية النووية الإيرانية المقبلة، وهي:
– لا ربط بين الوضع الاقتصادي والمفاوضات النووية.
– لا للمفاوضات الاستنزافية.
– لا للتفاوض من أجل التفاوض.
– لا تفاوض على برنامج الصواريخ الباليستية والقضايا الإقليمية.
ومن ثم إن هذا الموقف الجديد لرئيسي، عشية انتهاء الجولة السادسة من المحادثات النووية في فيينا، يأتي في إطار خلق موقف تفاوضي جديد، يختلف عن ذلك الإطار الذي وضعته حكومة روحاني، والذي طالما انتقده رئيسي واعتبره متهاونًا في المصالح الوطنية، مؤكدًا على أنه ستكون هناك مشاورات واسعة مع الفريق التفاوضي العائد من فيينا، من أجل التشاور حول العديد من الملفات.
أما بالنسبة إلى دول الشرق الأوسط، فإن اختيار رئيسي مهم لأسباب تتجاوز تأثيره على برنامج طهران النووي، خصوصًا إن هناك مفاوضات إقليمية جارية في بغداد مع الرياض.
وبالنسبة إلى الكثير من المتابعين، فإن سياسة طهران مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بسياسات بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء وغيرها، مع الإشارة إلى أن رئيسي سيقود دولة تعد إحدى أكبر وأغنى دول المنطقة، تحكمها ثيوقراطية دينية تستخدم بنشاط إيراداتها الضخمة من الطاقة لتمويل وتدريب الميليشيات المسلحة التي تتبنّى أيديولوجيتها المتعصبة، ومن ثم فإن دول المنطقة تنظر إلى رئيسي من منظار ما سيقدمه لها، دون أن تنشغل بمعطيات الداخل الإيراني بعد وصول رئيسي.
ظل خامنئي المؤتمن
على الرغم من الضجة الإعلامية التي أحدثتها الانتخابات الرئاسية الإيرانية، فإن رئيسي مثله مثل جميع الرؤساء الإيرانيين، سيلعب دور الظل في تشكيل السياسة الخارجية للبلاد تحت إشراف خامنئي، بدعم وتأييد من الحرس الثوري، وسيستمر في استخدام الخطاب المناهض للولايات المتحدة و”إسرائيل”.
كما ستواصل طهران تسليح وتمويل وكلائها وحلفائها في الدول الفاشلة -بما في ذلك سوريا ولبنان واليمن والعراق وفنزويلا-، التي تشكل ما يسمى بمحور المقاومة، وسيكون أكبر المستفيدين من انتخاب رئيسي الخصوم الخارجيين للنظام الإيراني، وأبرزهم الحزب الجمهوري وحكومة اليمين المتطرف في “إسرائيل”.
إجمالًا، حاول خامنئي جاهدًا أن يؤسس لولاية الفقيه من بعده، دون الخوض في حسابات معقدة قد تعصف بمستقبل الجمهورية مستقبلًا، وفي سبيل ذلك استخدام المؤسسات الثورية غير المنتخبة، لتعزيز سلطته أمام المؤسسات “المنتخبة”، مع الاحتفاظ بخاصية الاستعانة بمصادر خارج هيكل النظام للقمع السياسي، عبر توظيف القوة الضاربة للباسيج والحرس الثوري.
إلا إن ما يميز حالة انتخاب رئيسي، إن خامنئي سيكون هو المسؤول الأول أمام الشعب الإيراني هذه المرة، وليس الرئيس كما جرت العادة مع روحاني، عندما كان يحمّله سبب ويلات البلاد بسبب تراكم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، لأنه هو من أوصل رئيسي وهندس عملية فوزه، ومن ثم لن يكون هناك مزيد من الأعذار.