في أحد نتوءات القرن الإفريقي على الشاطئ الغربي لمضيق باب المندب، وعلى مساحة لا تتجاوز 23.200 كيلومتر مربع فقط، تقع دولة جيبوتي، الحالة الاستثنائية في تلك البقعة الإستراتيجية من القارة الإفريقية، التي عانت لسنوات من الإهمال والتجاهل في ظل وضعية اقتصادية وسياسية متدنية.
وخلال السنوات الأخيرة تحولت تلك المستعمرة الفرنسية السابقة إلى مسرح كبير للقوى الدولية المتصارعة على النفوذ القاري في ظل ما تتمتع به هذه الدولة الصغيرة من موقع جيوسياسي أسال لعاب القوى الاستعمارية الكبرى، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
اللافت للنظر وبعيدًا عن أبجديات العلوم السياسية والعسكرية، فقد نجحت تلك الدولة في احتضان كل المتناقضات بأريحية مثيرة للجدل، فكانت موطن العديد من القواعد العسكرية للقوى المتصارعة والمتنافسة في آن واحد، مستغلة حالة التناقض وعدم الانسجام في أيديولوجيات تلك الدول لتطوير علاقاتها الدبلوماسية على كل الأصعدة، فاستحقت أن تكون نموذجًا لسياسة الاستثمار والاستعمار معًا.
وجيبوتي هي دولة عربية، يقدر عدد سكانها بنحو مليون نسمة، فيما يعيش نحو خُمس سكانها تحت الخط العالمي للفقر بنحو 1.25 دولار يوميًا، وكانت تسمى قديمًا “الصومال الفرنسي” قبل استقلالها عام 1977، تحدها إريتريا من الشمال وإثيوبيا من الغرب والجنوب والصومال من الجنوب الشرقي فيما تطل شرقًا على البحر الأحمر وخليج عدن، أما في الجهة المقابلة على الجانب الآخر من البحر الأحمر فهناك اليمن.
أهمية إستراتيجية
تتحكم جيبوتي في واحد من أهم الممرات المائية في العالم، مضيق باب المندب عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، هذا المضيق يعبر منه سنويًا 12 مليون حاوية بضائع، فضلًا عن 25 ألف ناقلة نفط وأكثر من 6 آلاف ناقلة حاويات سنويًّا بما نسبته 9% من الحركة البحرية العالمية.
كما أنها تعد حلقة الوصل الأكثر تأثيرًا بين قارات العالم الثلاثة، إفريقيا وآسيا وأوروبا، بجانب أنها مرصد مثالي للمراقبة والوصول إلى الشرق الأوسط وشرق إفريقيا وآسيا الوسطى، وهو ما منحها قيمة جيوسياسية وضعتها على قائمة المناطق الأكثر حيوية في القارة الإفريقية.
ورغم هذا الموقع الذي كان من الممكن أن يكون عاملًا محوريًا في تغيير خريطة جيبوتي السياسية والاقتصادية، فإنها وقعت في بحر متلاطم من أمواج الصراعات والأزمات، منذ الاستقلال وحتى اليوم، فكانت قبلة اللاجئين الفارين من الحرب بين إثيوبيا والصومال عام 1977، تبعهم اليمنيون الهاربون من الحرب الدائرة في بلادهم.
هذا في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أوضاع اقتصادية صعبة، حيث لا موارد طبيعة ولا ثروات معدنية دفينة، ولا مشروعات قومية يمكنها أن تحدث التوازن في المعادلة، هذا بخلاف تردي مستوى خصوبة أراضيها الزراعية وعدم امتلاكها للعمالة البشرية المدربة بشكل كاف، كل هذا انعكس على الواقع المعيشي للشعب بصفة عامة، الأمر الذي دفع السلطات الحاكمة لاستثمار الموقع الجيوسياسي لتحقيق مكاسب اقتصادية كما سيرد ذكره لاحقًا.
وبالتوازي مع تلك الوضعية الصعبة ظلت جيبوتي واحة أمن متجانسة مع جوارها، مستندة في علاقاتها الخارجية مع دول الجوار على إستراتيجيات التوازن التي تتبعها، وما لديها من مخزون كبير من السلم والوحدة والتماسك الداخلي، ما أهلها لأن تكون ساحة للقاء الإنساني والتلاقح الثقافي بين شعوب منطقة جنوب حوض البحر الأحمر على وجه الخصوص (إثيوبيا والصومال وإريتريا واليمن).
ثكنة عسكرية
تحولت هذه الدولة النتوء على البحر الأحمر والمتحكمة في مضيق باب المندب إلى ثكنة عسكرية عالمية تضم 9 قواعد عسكرية عاملة بالفعل للقوى الكبرى (لأمريكا وألمانيا والصين واليابان وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا) و3 قواعد تحت الإنشاء لإثيوبيا والسعودية، هذا بخلاف المساعي الإماراتية الروسية المستمرة لتدشين قواعد عسكرية لها هنالك أيضًا.
علاوة على أنها باتت ساحة صراع مباشرة لأمريكا والصين وجهًا لوجه، فبينما هي المقر الرئيسي للقيادة الأمريكية الإفريقية (أفريكوم)، فإنها في الوقت ذاته تضم القاعدة العسكرية الصينية الوحيدة خارج أراضيها، وتقع على بعد 7 كيلومترات فقط من القاعدة الأمريكية.
هذا الصراع البارد فوق تراب أجنبي أسفر عن احتكاكات وتحرشات بين الحين والآخر بين القوتين، كما حدث في 2018 حين استنكر البنتاغون الأمريكي عبر شكوى رسمية إصابة طيارين أمريكيين بجروح بسبب استهداف القاعدة الصينية هناك لطائرتهما بأشعة الليزر، تلك الشكوى التي ردت بكين عليها بأن تلك الطائرة كانت تقوم بمهام تجسس على قاعدتها.
استخدام جيبوتي كمنصة عسكرية حاليًّا – واقتصادية مستقبلًا – لقوى العالم المتصارعة، أثار قلق العديد من الأنظمة العربية التي استفاقت بعد سبات دام طويلًا، فتحركت – متأخرة للغاية – السعودية ومصر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه
ولعل الموقف الجغرافي لجيبوتي واقترابها من مناطق الصراع في إفريقيا والشرق الأوسط، فيما تحافظ هي على استقرارها وتوازنها الداخلي نسبيًا، كان أحد الأسباب وراء تهافت القوى الدولية على بناء قواعد عسكرية لها هناك، هذا بجانب تحولها إلى مسرح كبير للمناورات العسكرية والعمليات التدريبية.
وبجانب ما يمكن أن تحققه تلك الدولة الصغيرة من مكاسب سياسية من وراء هذا الثراء العالمي لكبريات القوى الموجودة فوق ترابها، فإنه على الجانب الآخر هناك منافع اقتصادية مباشرة من وراء تأجير تلك القواعد، فتحولت إلى أحد أهم مصادر الدخل القومي للبلاد التي تعاني من واقع اقتصادي سيئ.
التقديرات تذهب إلى أن الإيرادات السنوية التي تحققها جيبوتي من تأجير تلك القواعد يتجاوز 120 مليون دولار، مقسمة كالتالي: 3 ملايين يورو مقابل تأجير القاعدة اليابانية، في مقابل 17 مليون يورو للصين، و22 مليون لإيطاليا، و30 مليون للقواعد الفرنسية، بخلاف 56 مليون يورو للقواعد الأمريكية، في حين أن المملكة العربية السعودية ستدفع ما لا يقل عن 125 مليون يورو مقابل إنشاء قاعدتها العسكرية.
جيبوتي والأمن القومي العربي
تحول جيبوتي إلى محمية عسكرية للقوى العالمية يحمل بين طياته تهديدًا صريحًا للأمن القومي العربي بصفة عامة، وإن كان يتفاوت في درجته بين دولة وأخرى بحسب حزمة من المعايير الجيوسياسية، فالضغوط الاقتصادية التي تواجهها تلك الدولة دفعتها لقبول تلك الوضعية التي تبعث على القلق أحيانًا.
فوجود القوى الاستعمارية القديمة (فرنسا وروسيا وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا) ومعها القوى الاقتصادية الحديثة (الصين) بجانب القوة الساعية للهيمنة على المنطقة تنفيذًا لأجندتها التوسعية لاستعادة نظرية القطب الأوحد مرة أخرى (الولايات المتحدة) في خاصرة العرب الجنوبية، والتحكم في الممر المائي الذي يغذي عشرات الدول، يعد تهديدًا صارخًا لمنظومة الأمن العربي، حتى إن لم يتضح ذلك بشكل مباشر في الوقت الحاليّ.
هناك تحذيرات مستمرة بشأن تداعيات هذا التنافس العالمي على تلك البقعة الصغيرة، فترى الأستاذة في جامعة بو سونيا لو جوريليك أن حكومة جيبوتي استفادت من الظروف التي جعلت منها موقعًا إستراتيجيًّا محوريًا إلى أقصى حد، معربة عن خشيتها من أن تؤدي عسكرة هذه الدولة والتنافس في هذه المنطقة الصغيرة بين قوى قد لا تكون بالضرورة أعداء إلى توترات، حسبما أشارت صحيفة “لوفيغارو”.
استخدام جيبوتي كمنصة عسكرية حاليًّا – واقتصادية مستقبلًا – لقوى العالم المتصارعة، أثار قلق العديد من الأنظمة العربية التي استفاقت بعد سبات دام طويلًا، فتحركت – متأخرة للغاية – السعودية ومصر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن التحدي لم يكن سهلًا كما كان يتوقع البعض، فالغياب العربي الطويل عن الشعب الجيبوتي كان له نتائجه العكسية الآن.
وعليه جاءت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للعاصمة الجيبوتية، مايو/آيار الماضي، وهي الزيارة الأولى في التاريخ لرئيس مصري لتلك الدولة العضو في الجامعة العربية، التي كانت تستهدف في المقام الأول استمالتها لموقف القاهرة في ملف سد النهضة.
الرهان على البعد العروبي في كسب الدعم الجيبوتي وتأييده للموقف المصري محفوف بالمغامرة والمخاطرة معًا، فالعلاقات التاريخية التي تجمع بين جيبوتي وإثيوبيا ربما تكون أعمق بكثير من تلك التي تجمعها بمصر، وهو ما يمكن قراءته من خلال حجم التعاون بين البلدين.
وتعد جيبوتي شريان أديس أبابا التجاري ونافذتها البحرية الوحيدة التي نقلتها من الدولة الجيب إلى الدولة الساحلية، ومتنفسها الأكبر اقتصاديًا، فأكثر من 80% من السلع التي تستوردها إثيوبيا يتم إفراغها في ميناء دوراليه الجيبوتي، هذا بخلاف الاتفاق الموقع في 2019 لبناء خط أنابيب غاز بطول 765 كيلومترًا، ينقل الغاز الإثيوبي المكتشف في حوض أوجادين الإثيوبي عام 2014، إلى موانئ جيبوتي لتسييله وتصديره بحرًا بعد سد كل الاحتياجات الجيبوتية من الغاز.
وفي الـ11 من الشهر الحاليّ، اتفقت إثيوبيا وجيبوتي، على زيادة التعاون العسكري بين البلدين والدعم المتبادل في المسائل الدفاعية، هذا في الوقت الذي أكد فيه رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله، أن العلاقة بين إثيوبيا وجيبوتي هي “علاقة تاريخية وقوية وغير متأثرة بتأثيرات خارجية”، حسبما نقلت “سبوتنيك” عن الوكالة الإثيوبية.
إعادة ترتيب الأوراق العربية مرة أخرى بشأن خريطة التحالفات وقبلة التوجهات بما يعيد جيبوتي للحضن العربي مرة أخرى ربما يكون الحل الوحيد لتجنب المزيد من الانخراط في هذا المسار محفوف المخاطر، خاصة فيما يتعلق بمصر والسودان تحديدًا، لكن هذا يتوقف على مدى تعويض تلك الدول لجيبوتي عن أي خسائر قد تتعرض لها بشأن أي تغيير قد يطرأ على ملف احتضان تلك القواعد العسكرية، وهو التحدي الذي ربما يكون صعبًا في ظل القراءة الحاليّة للمشهد.