لم ينقطع التحريض على العنف منذ اندلاع الاشتباكات العسكرية، بين قوات البيشمركة الكردية وحزب العمال الكردستاني، في إقليم كردستان العراق قبل أسابيع قليلة، حيث استخدم الأكراد من الطرفين الأسلحة الخفيفة بأنواعها، وأسفرت المواجهات عن مقتل 5 جنود للبيشمركة.
وقعت الاشتباكات في بلدة عميدي الصغيرة بمحافظة دهوك شمال العراق، حيث ينشط الجيش العراقي والبيشمركة والجيش التركي والحشد الشعبي المدعوم من إيران وحزب العمال الكردستاني، في البلدة التي تقع على بعد 15-20 كيلومترًا من الحدود التركية العراقية.
صدام مسلح.. لماذا؟
أشعلت جثث الضحايا غضب البيشمركة، وخرجت حكومة إقليم كردستان في بيان ساخط تحمّل حزب العمال المسؤولية الكاملة عن ردها على العمليات العسكرية بحق جنودها، كما أدان الجيش العراقي الهجوم وأعلن فتح تحقيق في الأزمة، ونددت القنصلية العامة التركية في أربيل بالهجوم وأعربت عن أسفها لسقوط ضحايا، بجانب إدانات مختلفة للعديد من البلدان الأوروبية.
بخلاف البيان الحكومي، خرجت التهديدات بالانتقام من أرفع المسؤولين في البلاد على شاكلة ريبين سلام، العضو البارز في الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي توعّد بشن عملية عسكرية واسعة ضد حزب العمال، واتهمه باستغلال الفراغ الأمني والعسكري في أي منطقة كردية للاستيلاء عليها وانتهاك حرمة وسيادة سكانها، مع أنه يعلم جيدًا رفض تواجده داخل إقليم كردستان على المستويَين الحكومي والشعبي.
البحث في سياق الأحداث، وما تلا الهجوم العسكري وردود الأفعال عليها، يؤكد أن القضية لم تكن مجرد اندلاع لاشتباك مسلح بين طرفين بينهما خلافات واسعة، بل توظيفًا لصراع فكري وسياسي تاريخي، واستغلاله في الإيقاع بين تركيا وكردستان.
يكشف عن ذلك ترويج بعض المواقع الإخبارية، المحسوبة على حزب العمال الكردستاني، في بداية الواقعة، أن الجيش التركي هو المسؤول عن الهجوم، بينما تكشفت الحقائق تباعًا، وتبين أن رجال الحزب دبروا كمينًا محكمًا لجنود البيشمركة خلال قيامهم بالخدمات الأمنية، وتم قتلهم.
كان مقصودًا إلباس التهمة للجيش التركي، الذي يقوم بانتظام بعمليات عسكرية ضد قواعد حزب العمال على الحدود بشمال العراق، لهذا حاول الحزب الزج بالبيشمركة لدخول حلبة الصراع ضد الأتراك، وتخفيض الحصار القاتل على قواته، وتصفيه حساباته مع البيشمركة من ناحية أخرى.
تاريخ الصراع الكردي
الصدام الدائر الآن ليس الأول من نوعه بين أطياف كردية، بل له جذور تاريخية ويتكرر على فترات مختلفة، آخرها كان عام 2017 عندما اشتبكت ميليشيات كردية متنافسة في منطقة سنجار، بمحافظة نينوى شمال غرب العراق، وسقط قتلى من الطرفين.
نشب القتال بعد توغل قوة من البيشمركة باتجاه الحدود السورية، في منطقة تسيطر عليها مجموعة مرتبطة بقوات حزب العمال الكردستاني، فاشتبكا على الفور، إذ بينهما ما صنعَ الحدّاد بسبب المرجعيات المختلفة لكل منهما.
لكن أقوى حلقات تاريخ الصراع بين الفرق الكردية، كانت مع أول انتخابات برلمانية عام 1992، حيث تقاسم الحزبان الرئيسيان، الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، مقاعد البرلمان بالتساوي، وسرعان ما نشب الخلاف بين القطبين الكرديين بسبب الصراع على تقاسم النفوذ والسيطرة على الموارد.
ذكّرت تلك الانتخابات كلًّا منهما بالخلافات القديمة بين الحزبين، التي تعود إلى فترة الستينيات، والانشقاق الذي حدث بالمكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني بين عامَي 1964 و1966، وانتهى بتدشين حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بعد 4 سنوات فقط على الأزمة.
تطور الصراع إلى حرب أهلية في كردستان عام 1994، واستمرت حتى سبتمبر/ أيلول 1998، وبلغ الصراع ذروته في أغسطس/ آب 1996، إذ لم يجد البارزاني حرجًا آنذاك في طلب المساعدة من الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، للتصدي لقوات الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الطالباني، التي كانت قد أحكمت سيطرتها على محافظة أربيل مركز الإقليم.
استجاب صدام لطلب البارزاني سريعًا، وأمر القوات العراقية بكسر مناطق الحظر الجوي، التي فرضها التحالف الدولي على شمال وجنوب البلاد بعد حرب الخليج عام 1991، واقتحم نحو 30 ألف جندي من قوات الحرس الجمهوري المدرعة أربيل، بعد 5 سنوات على خروجهم منها، ودحرت قوات الطالباني.
راح في الصراع نحو 5 آلاف قتيل وآلاف الجرحى، ولم يستسلم أحد الطرفَين، بعد اضطرار القوات العراقية الانسحاب تحت وقع العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة، التي عُرفت باسم ثعلب الصحراء، ليعود الحزبان إلى مواقعهما الرئيسية، حيث يسيطر الديمقراطي الكردستاني على محافظتَي دهوك وأربيل، في حين سيطر الاتحاد الوطني على السليمانية، ووقّع الحزبان في النهاية اتفاقية سلام برعاية الولايات المتحدة، بعد ضغط شرس منها لإنهاء الصدام.
الانفصالية عند الكرد
يتمدد الأكراد في فضاء سياسي متسع على مستوى الشرق الأوسط، يشمل بشكل أساسي إيران والعراق وسوريا وتركيا، ويجمعهم مع حكومات هذه البلدان توترات شديدة، وروح انفصالية تظهر بوضوح في الصدامات التي تشتعل من وقت لآخر مع كل دولة، حسب صياغتها وطريقة تعاملها مع الأزمة الكردية.
يُعتبر حزب العمال الكردستاني الأكبر والأشهر بين الكيانات الكردية، ولكنه مصنّف على قوائم الإرهاب في تركيا، والجيش يطارده بشكل مستمر بسبب ممارساته الانتقامية.
وحكومة كردستان أيضًا وصل بها الحال إلى تنظيم استفتاء عام 2017 للانفصال عن العراق، وإقامة دولة كردية، وأُجهض حلمها في اللحظات الأخيرة وتسبب لها في خسائر تاريخية، إذ فقدت حكومة الإقليم حوالي 40% من الأراضي التي كانت تسيطر عليها.
يسعى الأكراد في شمال سوريا إلى إقامة دولة كردستان الغربية، ويسعى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والجماعات المتحالفة لحسم تنفيذ هذه الرغبة منذ عام 2014، ويتلخّص مشروع الحزب في إقامة كونفدرالية ديمقراطية تحتوي الجميع.
الملفت أن الأكراد، رغم عدالة قضيتهم بالنظر إلى التاريخ الطويل للأزمات الإنسانية التي طالتهم، إلا أنهم لا يجتمعون أبدًا على مشروع سياسي واحد، بل تتعدد أدبياتهم ومرجعياتهم، والغريب أن معظمها يروّج لنماذج حالمة متضاربة كليًّا، ولا يمكن تطبيقها على أرض الواقع.
فأكراد العراق يحلمون بنموذج ليبرالي كلاسيكي، حتى يكون هناك ضمان بعدم تدخل الدولة في الحريات إلا في أضيق الحدود، بما لا يسمح بميلاد طغاة جدد، لكن يفوت على أنصار هذا التوجه أن لحظة ميلاد الدول تحتاج إلى اقتصاد مخطَّط، ومؤسسات فاعلة في الأحداث وليست مهمشة عنها، بل إن القوميات التي تعاني من نزعات انفصالية لا يمكنها تطبيق هذا النموذج، وإلا ساهم في تدميرها.
أما التيار الأكبر من الأكراد في تركيا، فيروّج بشدة لتطبيق نموذج علماني طوباوي، لكن على أي خلفية سياسية؟ الشيوعية، الأيديولوجيا التي إذا اجتمعت بالعلمانية أسفرت عن تجارب كارثية.
إذ لم يعرف التاريخ من هذا التجمع إلا الاستبدادية الستالينية، التي تظاهرت بتبني ديمقراطية راديكالية، لكنها في الواقع لم تقدم إلا نموذجًا مبتكرًا من القمع والوحشية، وتتجسد المبادئ الشيوعية مطعّمة بالاشتراكية الثورية والقومية الكردية، في سياسات وبرامج وأهداف حزب العمال الكردستاني.
أكراد العراق يحلمون بنموذج ليبرالي كلاسيكي حتى يكون هناك ضمان بعدم تدخل الدولة في الحريات إلا في أضيق الحدود، بما لا يسمح بميلاد طغاة جدد.
بين الليبرالية والشيوعية، يميل طيف واسع من أكراد سوريا إلى أفكار حزب العمال الكردستاني، ويتضح ذلك من جملة السياسات والمبادئ التي يتبعها أقوى حزب سياسي كردي في سوريا، حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي تعتبره دوائر بحثية معنية بالقضية الكردية، ليس أكثر من امتداد سوري لحزب العمال.
أما في إيران، فتاريخ الانفصال الكردي يعود فيها إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ أعلن أكراد إيران عام 1946 استقلالهم تحت اسم جمهورية مهاباد، ولم تستمر إلا أقل من عام، إلا أن أكراد إيران لديهم استقلال نسبي عن الحركات الكردية المتمركزة في تركيا والعراق وسوريا.
مستقبل القضية الكردية
على مدار العقود الماضية، نجحت الدعاية للقومية الكردية في إقامة بناء عاطفي يتشارك فيه الغالبية العظمى من الأكراد، المنقسمين جغرافيًّا بين البلدان الأربعة، بفضل وسائل الإعلام الكردية والتجمعات ذات الصلة على السوشيال ميديا، التي تتنامى بسرعة مذهلة كل يوم عن الآخر.
يروّج أكثر من 30 مليون كردي قضيتهم عالميًّا، ويسعون بكل قوة لبناء هوية كردية شاملة -ما زالت محل خلاف-، ودائمًا أزماتها الداخلية تنتهى بالصدام المسلح، ما يعني أن حلم كردستان الكبرى المستقلة والموحدة، في حاجة إلى مراجعة من الأكراد قبل غيرهم.
أي قراءة واقعية على الأرض، تقول إن الصراعات التي تندلع بين حين وآخر بين الأكراد تضر بسمعة قضيتهم أشد الضرر، وتعزز من أهمية الالتفاف حول المصالح الجيوستراتيجية بين الغرب -الداعم الأول لانفصال الأكراد- وحكومات البلدان الأربعة، وبالتالي حلم الانفصال بالقوة المسلحة أو بغيرها الذي يتبعه قيام الدولة الجامعة، لن يكون أبدًا مجرد مسألة وقت كما تروج القومية الكردية مهما طال الزمن.