في حادثة هي الأولى من نوعها في تاريخ موريتانيا، قرر قاضي التحقيق بقطب محاربة الفساد في محكمة محافظة العاصمة نواكشوط حبس الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز على خلفية ملاحقته في قضايا فساد موجهة إليه منذ مارس/آذار الماضي، وفقًا لمصادر قضائية وحزبية.
أول رئيس في السجن
قرار سجن ولد عبد العزيز جاء بعد أيام قليلة من توقفه عن الحضور إلى مركز الشرطة، مخالفًا بذلك أحد شروط الإقامة الجبرية المفروضة عليه، فقد سبق أن أمر قاضي التحقيق في منتصف مايو/أيار الماضي، بوضع الرئيس السابق قيد الإقامة الجبرية بمنزله الكائن بنواكشوط، وإلزامه الحضور إلى مركز الشرطة ثلاث مرات في الأسبوع وعدم مغادرة العاصمة إلا بإذن قضائي، وذلك لمدة شهرين قابلة للتجديد أربع مرات.
تتضمن لائحة الاتهام بحق الرئيس السابق تبييض الأموال والاختلاس والثراء غير المشروع وإساءة استغلال السلطة وعرقلة العدالة، وكان البرلمان قد شكل في نهاية يناير/كانون الثاني 2020 لجنة للتحقيق في شبهات اختلاس خلال فترة حكم الرئيس السابق، وأمرت في أوائل يوليو/تموز باستدعاء ولد عبد العزيز إلا أنه رفض ذلك وتجاهل الأمر.
لم يسبق أن شهدت موريتانيا فتح تحقيق في مرحلة من مراحل حكم أحد الرؤساء سواء المباشرين أم المنتهية ولايتهم أم المُنقلب عليهم
نتيجة ذلك، صوت النواب في نهاية يوليو/تموز 2020 على قانون يقضي بإنشاء محكمة عدل عليا لمقاضاة الرؤساء والوزراء في حالة “الخيانة العظمى”، وفي شهر أغسطس/آب من نفس السنة أحالت اللجنة البرلمانية رسميًا تقريرها إلى النيابة العامة للدولة.
بناء على تقرير اللجنة أوقفت السلطات الموريتانية ولد عبد العزيز في 17 من أغسطس/آب الماضي، قبل أن تفرج عنه بعد أسبوع، كما ترتب عن التقرير تعديل حكومي في البلاد قام خلاله ولد الغزواني بتغيير 4 وزراء وردت أسماؤهم في التحقيق.
قضايا فساد تلاحقه
تناولت اللجنة النيابية دراسة ملفات عديدة منها إدارة العائدات النفطية للبلاد، إذ سبق أن أصدرت محكمة الحسابات الموريتانية 4 تقارير عن تسيير المال العمومي من 2007 إلى 2017، كشفت فيها وجود فساد في التسيير والاختلاس والتحايل على عشرات ملايين الدولارات الأمريكية، وصفقات مشبوهة تمس مستقبل اقتصاد البلد، من ذلك ما حصل في إدارة المحروقات، فعلى سبيل المثال اختفت 30 مليون دولار من 2007 إلى 2009، وفي الإدارة نفسها تظهر التقارير تعويضًا لعدة شهور لصالح مدرس لغة إنجليزية بمعدل 2300 دولار يوميًا.
كما فتحت اللجنة أيضًا ملف بيع أملاك عائدة للدولة في العاصمة نواكشوط وتصفية شركة عمومية كانت تزود البلاد بالمواد الغذائية، إلى جانب إدارة المؤسسات العامة مثل الشركة الوطنية للصناعة والتعدين أو شركة الكهرباء الموريتانية.
فضلًا عن صفقة الإنارة العامة بالطاقة الشمسية وصفقة تشغيل رصيف حاويات ميناء نواكشوط المستقل، فوفقًا لتقارير عديدة فإن هذه الصفقة منحت لشركة على صلة بصهر الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز لفترة تربو على ثلاثين سنة، مقابل استثمار يصل إلى 390 مليون دولار فقط.
متهم بالفساد وإساءة استغلال السلطة..
القاضي المكلف بالتحقيق مع الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز (قائد الانقلاب العسكري على أول رئيس مدني منتخب في #موريتانيا)، يأمر بإيداعه السجن بعد امتناعه عن الحضور الدوري إلى مركز الشرطة pic.twitter.com/5FvIgywR0u
— شبكة رصد (@RassdNewsN) June 23, 2021
بالإضافة إلى ملف الشركة الصينية “بولي هوندونغ” العاملة في مجال الصيد البحري، وتعتبر اتفاقية الصيد البحري مع الشركة الصينية، من بين أكثر الصفقات التي أبرمها ولد عبد العزيز إثارة للجدل، فقد منح رخصة الصيد لهذه الشركة في المياه الموريتانية من دون إذن البرلمان ولمدة 50 سنة وليس 25 سنة كما أعلنت السلطات، على مساحة 90 ألف كيلومتر مربع وليس 30 ألف كيلومتر مربع كما سبق أن أُعلن.
وتبلغ القيمة الإجمالية لهذه الصفقة 300 مليون دولار طيلة 50 سنة، تصدر الشركة الصينية بموجب هذه الاتفاقية 2500 طن من الأسماك أسبوعيًا، فيما يدفع الاتحاد الأوروبي 50 مليون دولار سنويًا مقابل الصيد في مساحة أقل وتصدير كمية لا تتجاوز نصف ما تصدره الشركة الصينية.
وكانت النيابة العامة قد أكدت في مارس/آذار الماضي أن التحقيق المالي الذي تم بالتوازي مع تحقيق الشرطة مكن من تحديد وتجميد أو مصادرة الشركات والمباني والشقق وأساطيل المركبات والمبالغ المالية الموجودة في موريتانيا فقط، على الرغم من محاولة بعض المشتبه بهم عرقلة سير العدالة وعدم التعاون مع المحققين، ولم توضح النيابة لمن تعود هذه الأملاك هل للرئيس السابق أم لأحد المتهمين الآخرين.
وتعتبر هذه اللجنة البرلمانية، سابقة في تاريخ هذا البلد العربي، إذ لم يسبق للبرلمان الموريتاني القيام بمهمة التفتيش والرقابة التي يخولها له الدستور والنصوص الداخلية له، كما لم يسبق أن شهدت موريتانيا فتح تحقيق في مرحلة من مراحل حكم أحد الرؤساء سواء المباشرين أم المنتهية ولايتهم أم المُنقلب عليهم.
إصرار على نفي التهم
رغم كل هذا، ما زال الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز يصر على نفي التهم الموجهة إليه، مؤكدًا أن الهدف منها إبعاده عن الشأن السياسي في البلاد، فالرئيس الحاليّ يخشى ولد عبد العزيز وفق مقربين من هذا الأخير.
قبيل قرار سجنه، استبعد محمد ولد عبد العزيز أي احتمال للذهاب إلى المنفى قائلًا “لن أغادر، لا إلى السنغال ولا إلى مالي ولا إلى المغرب ولا إلى الجزائر ولا إلى أي بلد آخر ولا إلى فرنسا”، مشددًا على براءته من التهم الموجهة إليه.
رغبة في الاحتفاظ بدور سياسي
يتهم ولد عبد العزيز الرئيس الحاليّ بمحاولة إقصائه من المشهد السياسي في البلاد للاستفراد بالحكم، ويعتبر ولد الغزواني رفيق درب محمد ولد عبد العزيز، فقد سبق أن أطاح الاثنان بسيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في الـ6 من أغسطس/آب 2008، إلا أن السلطة لا مكان فيها لصديقين.
وعقب تولي الرئيس الحاليّ السلطة، اختفى الرئيس السابق عن الساحة السياسية لثلاثة أشهر ثم عاد بعدها طامعًا في تجريد ولد الغزواني من كل قواه السياسية حبًا في السلطة ورغبة في الاحتفاظ بأدوار سياسية له بعد الخروج من الحكم وذلك من خلال حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم.
من الصعب جدًا أن تتخلى قبيلة ولد عبد العزيز عن الأظافر الاقتصادية التي غرستها في كل مفاصل الحكم والاقتصاد
يذكر أن ولد عبد العزيز وصل إلى السلطة في انقلاب عسكري في أغسطس/آب 2008، ضد الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله الذي يعتبر أول رئيس مدني في موريتانيا يصل إلى الحكم بأصوات الشعب في أول انتخابات دعمه خلالها العسكر، وانتخب ولد عبد العزيز مرتين رئيسًا للبلاد في 2009 و2013، غير أنه لم يترشح للانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في يونيو/حزيران 2019، وفاز بها ولد الغزواني.
نتيجة رجوعه للساحة وادعائه زعامة حزب الأغلبية الذي تأسس سنة 2009، بدأ القضاء متابعته في قضايا تتعلق بالفساد، ما فُهم منها وجود رغبة من السلطة الحاليّة في إقصاء ولد عبد العزيز من الساحة، فلو كان القضاء يسعى بحق لمقاومة الفساد لحاكم أيضًا الرئيس الحاليّ فهو رفيق درب السابق، وفق العديد من الموريتانيين.
ماذا يمكن أن يحصل؟
إيداع الرئيس السابق السجن، بعد فشله في تجريد خلفه من قواه السياسية والعودة إلى المشهد السياسي في موريتانيا، من شأنه أن يدخل البلاد في أزمات جديدة من الممكن أن تتحول إلى صراع بين الجهات خاصة إذا علمنا أن كل طرف يتخذ من جهته داعمًا أساسيًا له.
وتتحكم قبيلة “أولاد بالسباع” التي ينتمي إليها الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز في الجانب المالي لموريتانيا، فهي تعد طرفًا فاعلًا في السوق، وتشكل إضافةً إلى حلفائها في القطاعات المالية والبيروقراطية والعسكرية، كتلة مهيمنة تتمتع بسلطة قائمة على احتكار السوق.
فيما ينتمي ولد الغزواني إلى قبيلة “إديبسات” التي يقول أبناؤها إن أصولهم تعود إلى الخزرج من الأنصار بالمدينة المنورة، ولهذه القبيلة انتشار واسع في مختلف مناطق موريتانيا، وتعتبر من أكثر القبائل الموريتانية إنتاجية وممارسة للتجارة، إضافة إلى الوظيفة الدينية باعتبارها إحدى قبائل الزوايا.
حسب وجهة نظري وهذا فقط تحليل وليس تدخل في شؤون الأشقاء الموريتانيين:
عندما قرر ولد عبد العزيز عدم الترشح وفتح المجال أمام وزير دفاعه آنذاك الرئيس الحالي ولد الغزواني كان يظن أن خط بوتين-مدفيدف ?? يمكن تطبيقها في موريتانيا??!
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن! https://t.co/lH8AZhjAWP
— وليد كبير – Oualid KEBIR (@oualido) June 22, 2021
من الصعب جدًا أن تتخلى قبيلة ولد عبد العزيز عن الأظافر الاقتصادية التي غرستها في كل مفاصل الحكم والاقتصاد، ذلك أنهم إلى الآن يسيطرون على كل منافذ الاقتصاد الموريتاني وتجييره لصالحهم، وليس من السهل أن يقبلوا سجن الرئيس السابق.
الصراع على السلطة انعكس على تنمية البلاد، فمنذ حصول موريتانيا على استقلالها عن الاحتلال الفرنسي 1960 والبلاد لم تشهد استقرارًا سياسيًا يفضي إلى تنمية تشعر بها الطبقات الفقيرة، ما جعلها من الدول الأكثر فقرًا في موريتانيا رغم الثروات التي تتمتع بها.