ترجمة حفصة جودة
كتب حمزة المصطفى وحسام جزماتي
لم تعد هوية قائد هيئة تحرير الشام “HTS” – جبهة النصرة سابقًا – سرًا بعد الآن، ففي العام الماضي كشف أبو محمد الجولاني اسمه الحقيقي وفي مقابلة تمت مؤخرًا مع برنامج “Frontline” توغل بعمق في الحديث عن خلفية عائلته.
بعد سنوات من التكهنات والجدال وبدعم من بحثنا الدؤوب ومقابلاتنا، نستطيع الآن أن نتتبع كيف شكلت نشأته الاجتماعية والسياق السياسي الاجتماعي الأوسع، إيدولوجيته الجهادية.
كان لقيادة الجولاني الكاريزمية الساحرة – التي من المحتمل أن لها تأثيرًا على التنسيق الأمريكي التركي في سوريا بلعب دور رئيسي في تقرير مصير إدلب – دور رئيسي في التغيير داخل جبهة النصرة ولاحقًا هيئة تحرير الشام.
رغم أهميتها في فهم بعض مظاهر الجهادية السورية، فإن نظرية الحرمان النسبي التي تقول إن التفاوت الاقتصادي قد يكون عاملًا رئيسيًا في التمرد والتطرف، لا تفسر الدفع بالجولاني إلى عرش أكثر المنظمات السورية الجهادية تأثيرًا.
خصص حسين الكثير من وقته في السعودية للبحث خاصة في كيفية استخدام عائدات الموارد الطبيعية لتعزيز التنمية في العالم العربي
ولد الجولاني باسم أحمد حسين الشرع في الرياض عام 1982 لأسرة حضرية من الطبقة المتوسطة، قضى سنوات طفولته الأولى ومراهقته في حي راقٍ بدمشق وهناك لم يتعرض للسجن أو التعذيب أبدًا من النظام السوري، تلك التطورات التي تدفع بعض الجهاديين إلى الرغبة في الانتقام، لا يتفق ذلك مع نظرية التطرف النابع من ضغط سياسي أو قمع الدولة.
تاريخ العائلة
ولد حسين الشرع – عامل اقتصادي – عام 1946 في مرتفعات الجولان وكان مفتونًا بفكرة القومية العربية والقائد الكاريزمي المصري السابق الرئيس جمال عبد الناصر، في ستينيات القرن الماضي ومع تصاعد القومية العربية بعد نجاح انقلاب البعثيين في العراق وسوريا، غادر بلاده لدراسة الاقتصاد في جامعة بغداد، ثم عاد إلى سوريا في أوائل السبعينيات في الوقت الذي ظهرت فيه حركة التصحيح، ذلك الانقلاب الذي أتى بحافظ الأسد إلى الحكم.
بدأ والد الجولاني حياته المهنية موظفًا حكوميًا في وزارة البترول وخدم في المجلس المحلي لمحافظة القنيطرة من 1972 حتى 1976 وفقًا لأبحاثنا، لكن مع تزايد الخصومة بين نظامي البعث في سوريا والعراق، تسبب تعاطفه الإيدولوجي والسياسي مع النظام العراقي إلى ابتعاده عن سوريا متوجهًا إلى المملكة العربية السعودية، حيث عمل في صناعة البترول.
خصص حسين الكثير من وقته في السعودية للبحث خاصة في كيفية استخدام عائدات الموارد الطبيعية لتعزيز التنمية في العالم العربي، ناقش كتابه الأول “النفط والتنمية الشاملة في العالم العربي” عام 1983، كيف يمكن للفائض المالي العربي أن يلعب دورًا حيويًا في دمج الدول العربية بالاقتصاد العالمي مع الحفاظ على التنمية الشاملة خاصة في القطاع العسكري.
بحث كتابه الثاني “التقييم الاقتصادي ومستقبل التنمية في المملكة العربية السعودية” عام 1983 في قدرة الاقتصاد النفطي على العمل كمحرك مناسب للنمو الشامل في العالم العربي.
انتهى الأمر بوالد الجولاني ضحية للظلم الإداري بعد رفضه التوقيع على معاملات اقتصادية غير قانونية طلبها منه كبار المسؤولين في النظام
أما كتابه الثالث “الاقتصاد السعودي في عملية البنية التحتية الأساسية وبناء القدرات” عام 1984 فقد ركز على دمج النفط بالعوامل الأخرى خاصة الصناعة والزراعة لتعزيز القطاعات الحيوية مثل التعليم والبناء والنقل، ونُشر كتابه الرابع “أوبك 1960-1985: تحولات كبرى وتحديات مستمرة” عام 1987.
بعد عودته إلى سوريا في أواخر الثمانينيات، عُين حسين الشرع كمستشار في صناعة النفط لرئيس الوزراء آنذاك محمود الزعبي، خطط الزعبي لتنشيط الاقتصاد السوري المترنح بزيادة عائدات موارد النفط والغاز الطبيعي، ويُقال إنه أقنع الشرع بالعودة إلى القطاع العام ومساعدته لوضع خطته حيز التنفيذ.
لكن وفقًا لمقابلات أجريناها فقد انتهى الأمر بوالد الجولاني ضحية للظلم الإداري بعد رفضه التوقيع على معاملات اقتصادية غير قانونية طلبها منه كبار المسؤولين في النظام.
سيكولوجية النرجسية
قام الشرع لاحقًا بفتح شركة سمسرة، كما تمكنت عائلته من كسب الدخل أيضًا عن طريق متجر يديره شقيق الجولاني، هذه هي البيئة الحضرية المكتفية اقتصاديًا بشكل ذاتي التي نشأ فيها الجولاني، الأصغر بين أشقائه، كان الاضطراب الوحيد في تلك الطفولة الهادئة لقب نازح الذي يلاحق الأسرة في كل مكان ليذكرهم بأصولهم الجولانية.
تولي الدراسات الأمنية الكلاسيكية ومكافحة الإرهاب اهتمامًا عظيمًا للعوامل النفسية الفردية كدافع للتطرف، يتضمن ذلك سيكولوجية النرجسي التي تتطابق مع الشعور بالعزلة السياسية، ربما يساعدنا ذلك في تحليل شخصية الجولاني وتحولاتها المختلفة قبل وبعد انضمامه للجهاد.
وفقًا لأحد زملائه في الفصل بالمدرسة الابتدائية التي درس بها الجولاني في حي المِزّة بدمشق، كان أحمد الشرع ولدًا نحيفًا وأنيقًا ومتفوقًا أكاديميًا، كان ذكيًا بشدة لكنه كان منطويًا من الناحية الاجتماعية، ومع عمل والده كمستشار لرئيس الوزراء وعمل والدته كمعلمة مدرسية، كان متوقعًا منه أن يكون ماهرًا ومؤدبًا ومنضبطًا لتقديم أفضل صورة ممكنة عن أسرته.
وهكذا فمنذ طفولته المبكرة تنامى لدى الجولاني شعور بأنه مختلف عن الآخرين، وأفسحت طفولته المنضبطة الطريق تدريجيًا لشخصية متمردة، ما تسبب في تراجع علاماته الدراسية، كما اتبع أيضًا نمط حياة جديد، فقد جذب انتباه العديد من الفتيات بمظهره الحسن قبل أن يقع في حب فتاة علوية (الذين يعتبرهم الجهاديون كفارًا الآن).
تسبب رفض الأسرتين لتلك القصة الرومانسية في انتهائها، ما عمق الشقاق داخل أسرته في وقت كان الجولاني يبحث فيه عن هويته الذاتية كفرد، ودفعه ذلك للتركيز على الانقسامات الطائفية داخل المجتمع.
تأثير أحداث 11 سبتمبر
كمعظم أبناء جيله، كان لأحداث 11 سبتمبر وما تلاها تأثير كبير على الجولاني، إذ خاطبت نفسيته تمامًا، فالهجوم على الولايات المتحدة – أعظم قوة في العالم – على أرضها كان إنجازًا استثنائيًا لأشخاص استثنائيين قرروا تغيير العالم.
أدى إعجابه الشديد بمنفذي الهجوم إلى ظهور أولى العلامات الجهادية على السطح في حياة الجولاني، وحينها بدأ في حضور خطب سرية وحلقات نقاش في ضواحي دمشق المهمشة مثل الحجيرة والسبينة ودروشا.
قُبض على الجولاني في وقت مبكر أواخر 2004 وظل قيد الاعتقال حتى الشهور الأولى من 2010، ما منعه من تولي منصب قيادي
منح الغزو الأمريكي على العراق عام 2003 فرصة للجولاني لإظهار نفسه ليثبت أنه يشبه أسامة بن لادن، فقد حاكى طريقة ملابسه وحديثه، كانت فرصة أيضًا لتمييز نفسه عن والده الذي أحب أن يستغرق في ذكرياته عن العراق.
بمعنى آخر، حاول الابن فعل ما لم يفعله والده، فلن يشاهد الأخبار ببساطة ويحلل الأخطاء التي وقعت كمراقب خارجي، لقد قرر أن يكون في عين العاصفة، وذلك بنبذ القومية العربية التي قضى والده عمرًا كاملًا في الترويج لها لمواجهة ما اعتبره قومية وطائفية مفلسة فكريًا، باختصار، لقد طورّ إيدولوجية مبسطة قادرة على تعبئة الجهاديين والمتمردين الآخرين في وقت الحرب.
في عام 2003، وبدعم من الشبكات الجهادية اللوجيستية في سوريا، انتقل الجولاني إلى العراق حيث انضم إلى سرايا المجاهدين وهي جماعة جهادية صغيرة لكنها سيئة السمعة نشطت في مدينة الموصل الكبرى، أقسمت سرايا المجاهدين بالولاء لأبو مصعب الزرقاوي بعد أن أسس جناحًا للقاعدة في العراق عام 2004 الذي أصبح لاحقًا الدولة الإسلامية “داعش”.
قُبض على الجولاني في وقت مبكر أواخر 2004 وظل قيد الاعتقال حتى الشهور الأولى من 2010، ما منعه من تولي منصب قيادي، لكن وفقًا لأبحاثنا ومقابلاتنا فقد نجح للغاية في التكيف مع المجتمعات المحلية في العراق وعاداتهم ولهجاتهم خاصة في الموصل.
الانخراط في سوريا منح الجولاني فرصة للظهور من بين الحشود وإثبات قدرته على صنع التغيير
ربما يفسر ذلك لماذا وُضع في سجن بوكا – مركز احتجاز للجيش الأمريكي سيئ السمعة بالقرب من مدينة أم قصر في العراق – بخلاف بقية المجاهدين الأجانب، فقد كان يحمل هويةً عراقيةً مزيفةً وتمكن من إقناع لجنة التفتيش الأمريكية – المكونة من مقاولين عراقيين – أنه مواطن عراقي.
رفع الرتب
في أثناء اعتقاله، أسس الجولاني علاقات وثيقة مع مختلف الجهاديين العراقيين الذين سيصبحون بعد ذلك قادة رئيسيين في داعش، بعد إطلاق سراحه استفاد بشكل كبير من تلك العلاقات، ما رفع رتبته داخل داعش بينما ينتظر اللحظة المناسبة لتحقيق هدفه طويل المدى.
في منتصف مارس/آذار 2011 – بعد فترة قصيرة من إطلاق سراحه – اندلعت الثورة في سوريا، في البداية كانت الثورة سلمية لكنها تطورت لصراع مسلح، ما وفر فرصة ذهبية للجولاني وأبو بكر البغدادي.
الانخراط في سوريا منح الجولاني فرصة للظهور من بين الحشود وإثبات قدرته على صنع التغيير، كما مكّن البغدادي من إحياء تنظيمه المضمحل والتوسع خارج الروافد المجهولة لصحراء العراق.
في هذا السياق أعلن الجولاني تشكيل جبهة النصرة في يناير/كانون الثاني 2012، وباتفاق سابق بين الجولاني والبغدادي، أعُلن تشكيل جبهة النصرة دون كشف علاقتها التنظيمية بداعش، كانوا قلقين من تكرار فشل الماضي وسعوا لتجنب الوقوع المبكر في القائمة السوداء للولايات المتحدة والقوى الأجنبية الأخرى.
في أغسطس/آب 2011، عبر الجولاني الحدود إلى سوريا رفقة مجموعة صغيرة من الجهاديين العراقيين والسوريين، وجلبوا معهم 60 بندقية آلية فقط، خططوا لتسليمها للخلايا الجهادية النائمة في مختلف المحافظات السورية، كانت هذه الصفحة الأولى من فصل طويل لم ينته بعد للنشاط الجهادي في سوريا، الذي أصبح فيه الجولاني تدريجيًا شخصية مركزية مثيرة للجدل.
المصدر: ميدل إيست آي