في الوقت الذي كانت تكتَب فيه الأوراق والأبحاث مبشرة بمستقبل العلاقات المصرية التركية، في ظل مقتضيات وصول إدارة أميركية جديدة، ساعية إلى تحجيم الخلافات بشكل مختلف عن سياسة الإدارة الأميركية السابقة التي كان يرأسها ترامب، وشعور معظم دول المنطقة، أيضًا، بالحاجة إلى التكتل في مواجهة مخاطر إزعاج هذه الإدارة الجديدة؛ بدأت العلاقات المصرية الإماراتية باتخاذ مسار أكثر تصادمًا من ذي قبل، بما يفتح الباب أمام كل من مصر وتركيا لرصد إمكانية التقارب بين البلدين.
كان لنا في “نون بوست” تقدير موقف مختلف قليلًا، ربما يكون أكثر تشاؤمًا، إزاء فرص التقارب وحدوده بين البلدين.
وعلى الرغم من مبادرة الدولتين إلى تقديم أمارات حسن نية لتهيئة الأجواء أمام مناخ التقارب، سواء بطرح مصر مناطق للتنقيب الطاقوي على نحو يتناسب مع الجرف القاري التركي من جهة، وتشديد الأتراك على ضرورة وقف الهجوم الإعلامي المعارض للنظام المصري من أراضيها من جهة أخرى؛ فإن تقديرنا كان أن “الأسباب البنيوية” ستقف عائقًا أمام المضي بعيدًا في هذا المسار الإيجابي.
أهم الأسباب البنيوية التي رصدناها في التقدير، كانت أن النظام المصري سعى خلال الأعوام السابقة إلى “مأسسة” العداء ضد تركيا، على نحو يصعّب من فرص التقارب الكامل، حتى إذا كان هناك تصالح من الدولة التركية تجاه هذا التطبيع.
ومن ذلك، آلية التعاون الثلاثي بين مصر واليونان وقبرص، والتعاون العسكري الممتد بين الدول الثلاث، وتوقيع اتفاقيات ترسيم حدود بحرية بين الدول نفسها من جهة، وعلاقات الدول الثلاث الوثيقة بـ”إسرائيل” من جهة أخرى، وتأسيس منتدى غاز شرق المتوسط الذي يضم عددًا كبيرًا من دول الإقليم باستثناء أنقرة، وإيواء النظام المصري عددًا غير بسيط من خصوم الدولة التركية، من الأكراد وجماعة غولن.
ظهر التحول في النظر إلى الملف الليبي من موضوع للتقارب إلى بيئة للتنافس على النفوذ، بين كل من مصر وتركيا.
بالفعل يبدو أن العوائق البنيوية طغت على فرص التقارب بين البلدين، على نحو تكثف بوضوح خلال الأيام الأخيرة، والتي يمكن القول إن الخلافات فيها عادت إلى مستواها السابق من التصعيد، كما كانت الحال قبل 8 أعوام، بعد انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013 في مصر.
عودة الصراع على ليبيا
من فرصة للتقارب بين البلدين، استنادًا إلى حقيقة أن هناك وجودًا عسكريًّا واسعًا لتركيا في الغرب الليبي المعترف به دوليًّا، في مقابل علاقات وثيقة مع الشرق الليبي المهزوم في المواجهات العسكرية الأخيرة من الجانب المصري، ورغبة الجانبَين، مصر وتركيا، في عدم حدوث مواجهة عسكرية شاملة أو بالوكالة في منتصف الطريق، خوفًا من آثارها على استقرار الدولتين، بل مستقبل ليبيا نفسها؛ عاد مجددًا الملف الليبي موضوعًا للصراع.
ظهر هذا التحول في النظر إلى الملف الليبي من موضوع للتقارب إلى بيئة للتنافس على النفوذ، بين كل من مصر وتركيا، بوضوح خلال الأيام الأخيرة، من بوابة الزيارات المكثفة غير المعلنة إلى ليبيا، من كل طرف على حدة.
في 12 يونيو/ حزيران الحالي، أي قبل نحو أسبوعين تقريبًا، زار ليبيا وفد تركي رفيع المستوى، يتألف من كل من وزير الدفاع خلوصي أقار، ووزير الداخلية سليمان صويلو، ووزير الخارجية مولود جاووش أوغلو، ومدير الاستخبارات التركية خاقان فيدان، بإيعاذ مباشر من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لبحث العلاقات الاستراتيجية مع ممثلَي الدولة الليبية الحاليَّين عبد الحميد دبيبة ومحمد المنفي، وذلك بعد زيارة مماثلة من الوفد التركي نفسه مطلع مايو/ أيار الماضي.
فيما يبدو أنه رد على الزيارة التركية رفيعة المستوى إلى ليبيا، زار مدير الاستخبارات العامة المصرية عباس كامل طرابلس ملتقيًا بنفس ممثلَي الدولة الليبية، غير أن ما رجح كفة وجود علاقة ما بين الزيارات المصرية والتركية إلى ليبيا من جهة تجدد الصراع على هذا الملف، أن الزيارة المصرية المفاجئة إلى طرابلس تبعها تنسيق مع قيادات الشرق، خليفة حفتر وعقيلة صالح، عبر زيارة لاحقة إلى بنغازي.
أثنى الوفد المصري على دور قوات حفتر في “حفظ الاستقرار الداخلي، ومكافحة الإرهاب، وحماية مقدرات الشعب الليبي”، مشددًا على دورها في تأمين الاستحقاق الانتخابي القادم نهاية العام، وفي زيارة من نجلاء المنقوش وزيرة الخارجية الليبية إلى القاهرة بدعوة من القيادة المصرية، عقب زيارة الوفد الأمني المصري إلى ليبيا، عاود السيسي مجددًا تكرار رسالته الموجهة لتركيا بخصوص “ضرورة استعادة سيادة ليبيا عبر سحب القوات الأجنبية والمرتزقة”.
مما يرجح أن القاهرة تقصد، دومًا، من هذه “الديباجة” القوات التركية الموجودة في الغرب الليبي حصرًا دون غيرها، أن قوات حفتر، الذي يعتبره النظام المصري قائدًا عامًّا للجيش وشريكًا استراتيجيًّا للسيسي، يستعين بميليشيات من روسيا وأفريقيا، دون إدانة مصرية.
بالإضافة إلى كون روسيا، التي تورد قوات “فاغنر”، شريكًا استراتيجيًّا أيضًا للقاهرة، فيما تصدت الأخيرة أكثر من مرة للوجود العسكري التركي في سوريا وليبيا والعراق، من خلال قرارات رسمية مدعومة مصريًّا في الجامعة العربية.
الحلف اليوناني مجددًا
من المعروف أن رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس قد عُرف بجهوده الحثيثة، من خلال الزيارات والاتصالات، لقطع الطريق على التقارب المصري التركي الوليد في الفترة الأخيرة، وهو ما تكرر أيضًا هذه المرة.
تربط القاهرة وأثينا مصالح مشتركة في طرابلس، منذ أن وقّعت الأخيرة الاتفاقية البحرية مع أنقرة.
بمجرد ظهور مؤشرات على توتر مسار التطبيع المصري التركي، بادر رئيس الوزراء اليوناني إلى زيارة القاهرة، زيارة عادت خلالها الخطوط العريضة للتحالف المصري اليوناني، إلى جانب قبرص، من أجل عزل تركيا وإحباط مشاريعها المتعلقة بثروات شرق المتوسط.
مصريًّا، بعد الإشادة بما وصل إليه المستوى المتميز للعلاقات الاستراتيجية والآخذة في النمو بكل المجالات، على حد وصف بيان اجتماع السيسي والمسؤول اليوناني، أكد الرئيس المصري على ضرورة تعزيز آلية التعاون الثلاثي (الموجهة ضد تركيا) على مختلف الأصعدة، سياسيًّا وعسكريًّا وتجاريًًّا وطاقويًّا، بما يحقق المصالح والأهداف المشتركة في منطقة شرق المتوسط، كما ورد في البيان.
يونانيًّا، لوح رئيس الوزراء ميتسوتاكيس بما لدى بلاده من أوراق يمكن أن تقدمها إلى مصر، بينما لا تمتلكها تركيا، على غرار كون أثينا عضوًا في الاتحاد الأوروبي، وبوسعها أن تدعم النظام المصري في الملفات التي تؤرقه مع الأوروبيين.
كما تبادل الطرفان تقديم الدعم لبعضيهما في المواضيع الشائكة لكل طرف، حيث أبدى النظام المصري دعمًا لليونان “حيال أي ممارسات من شأنها أن تنتهك سيادتها”، فيما قالت أثينا إنها تدعم القاهرة في معالجتها لملف سد النهضة والقضية الفلسطينية وليبيا.
وفقًا لصحيفة “لوموند” الفرنسية، تربط القاهرة وأثينا مصالح مشتركة في طرابلس، منذ أن وقّعت الأخيرة الاتفاقية البحرية مع أنقرة، على نحو يستبعد 3 من الجزر اليونانية من على الخريطة، وقد فاتحَ رئيس الوزراء اليوناني عبدَ الحميد دبيبة علنًا في ضرورة الخروج من تلك الاتفاقية “غير القانونية”، وعودة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها، وذلك بدعم فرنسي غير مباشر.
في الزيارة اليونانية نفسها إلى القاهرة، اجتمع الوفد اليوناني المصحوب بتكنوقراط من الحكومة، مع وفد تقني رفيع من الحكومة المصرية، لبحث دفع العلاقات الثنائية بين البلدين عمليًّا، وذلك عبر تكثيف الجهود في مشروعات الربط الكهربائي وتصدير الغاز إلى أوروبا ضمن مظلة منتدى شرق المتوسط، الذي تحول إلى منظمة إقليمية بعد توقيع القاهرة وأثينا اتفاقية ثنائية لترسيم الحدود البحرية بينهما.
وعلى مدار الأشهر الأخيرة، حاولت اليونان رد الصفعة التركية المتعلقة باتفاقية ترسيم الحدود مع ليبيا، وذلك عبر عدة مسارات متشابكة، منها توقيع اتفاقية موازية مع إيطاليا، ذلك الحدث الذي شهد تصريح وزير الخارجية اليوناني بأن الاتفاقية التركية الليبية محلها “صندوق النفايات”، إلى جانب توطيد الشراكة الثلاثية مع قبرص و”إسرائيل” لتحقيق الربط الكهربائي وتصدير الغاز لأوروبا، وهي نفس الملفات المطروحة بقوة على أولويات التعاون الثلاثي بين أثينا والقاهرة ونيقوسيا.
الخطاب التركي: العودة إلى النقطة صفر
بعد هدنة قصيرة المدى من الجانب التركي الرسمي إزاء النظام المصري، بالمقارنة بالخطاب التركي التالي لحقبة الانقلاب العسكري مباشرة، الذي اتسم بالوضوح والخشونة والكثافة؛ يبدو أن ذاك الخطاب عاد إلى سابق عهده، من حيث اعتبار النظام المصري نظامًا معاديًا جذريًّا لأنقرة.
السبب في ذلك وفقًا لمحللين، أن الجانب التركي كان يؤمل أن تسفر مفاوضات تقاربه مع الجانب المصري، إلى انفراجة سياسية واجتماعية فيما يخص ملف جماعة الإخوان المسلمين، في ضوء مراعاة هواجس النظام المصري الأمنية من الجماعة، وهو ما أكدته قيادات إخوانية مثل إبراهيم منير حول استعدادها للمضي قدمًا فيه.
ولكن النظام المصري فاجأ الجميع بموجة عنف ربما تفوق المعدلات السابقة، قبل احتمالات تحسُّن العلاقات مع تركيا؛ فبعد أن نُفذت أحكام الإعدام ضد عدد من أهالي قرية كرداسة بالجيزة، بالتزامن مع حملة التحريض الدرامي ضدهم في شهر رمضان الماضي، أيدت محكمة مصرية أحكام الإعدام بحق عدد كبير من قيادات الإخوان، على رأسهم 12 قياديًّا بارزًا من رموز الجماعة والحزب.
لم يردّ النظام المصري على الهجوم التركي بشكل رسمي، ولكنه عاد بخطابه الإعلامي تجاه تركيا أيضًا إلى نقطة الصفر.
التعاطي التركي مع الأحكام القضائية المصرية كان حادًّا للغاية، فقد كتب أحد أبرز مستشاري الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ياسين أقطاي، مقالًا لاذعًا في موقع “يني شفق” بالتوازي مع هذه القرارات، يتضح من خلاله أن فرص تطبيع العلاقات بين البلدين عادت إلى المربع “صفر”.
في المقال، عاود أقطاي استخدام عبارات مثل “الانقلاب العسكري” عند الحديث عن النظام المصري، ووصف “الحكومة الشرعية المنتخبة” عند الحديث عن جماعة الإخوان المسلمين، مرجحًا أن السلطات المصرية اختارت هذا التوقيت بالتحديد لعدة أسباب، منها إفشال فرص المصالحة بين البلدين، وإحياء الذكرى الثامنة للانقلاب العسكري بمذبحة جديدة، وقطع الطريق على أي احتجاجات شعبية واجتماعية تبحث عن قيادات لها في ظل اقتراب الملء الثاني لسد النهضة، الذي يهدد المصريين بالجفاف والمجاعة.
عاود أقطاي أيضًا التذكير بمجزرة رابعة العدوية، باعتبارها حدثًا فارقًا في عرقلة مسيرة التحول الديمقراطي في مصر بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، واصفًا إياها بأنها “أكبر اقتحام دموي في تاريخ مصر الحديث لفض هذا الحشد السلمي الذي لم يقم بأي حركة عنف طيلة مدة اعتصامه”، مضيفًا أنه “اليوم الذي قتلت فيه أسماء وأكثر من ألف شخص بأقسى الطرق وحشية، بينما أصيب الآلاف أيضًا”.
بالتزامن مع الذكرى الثانية لوفاة مرسي مغشيًا عليه في قاعة المحكمة، رثى أقطاي الرئيس الأسبق في مقالة أخرى، قال فيها: “يظنون أنهم قتلوا مرسي لكن لا يمكن لشخص يخشون جنازته أن يكون قد قُتل، اعتقدوا أنهم قتلوه، لكن موته سيكون مصدر إلهام لموسى الذي سيدمر عرش نظامهم الفرعوني”.
لم يردّ النظام المصري على الهجوم التركي بشكل رسمي، ولكنه عاد بخطابه الإعلامي تجاه تركيا أيضًا إلى نقطة الصفر، وذلك بعد ما كان قد بادر -وفقًا لتقرير لموقع “المنصة” المستقل- بلجم إعلامييه عن التعرض لتركيا في زخم التقارب الأخير.
فقد هاجم إعلاميون مقربون من النظامَين المصري والسعودي مقالة أقطاي، معتبرين أن “كل حاجة بتدمر”، ومطالبين في الوقت ذاته بوقف سفر الوفود الرسمية المصرية إلى تركيا، وتأجيل زيارة وزير الخارجية التركي المرتقبة إلى القاهرة.
القاهرة أساءت قراءة أنقرة
كيف بدأ التوتر؟ يقول مسؤولون أتراك، من بينهم ياسين أقطاي، إن تركيا تعاطت مع المبادرة المصرية لتهدئة الأجواء بين البلدين بشكل إيجابي يقدّر الهواجس المصرية، ومن ذلك تعليق عدد كبير من أنشطة جماعة الإخوان المسلمين، وتهدئة الخطاب الإعلامي المعارض، وتجميد منح عدد من أعضاء الإخوان الجنسية التركية، ووقف معظم الاجتماعات السياسية المعارضة في تركيا.
النهج غير المستقر في العلاقات الخارجية من النظام المصري، إن نجح على المدى القصير في تحقيق بعض أهداف النظام، فإنه من المستبعد أن ينجح على المدى البعيد في إقامة تحالفات متينة مستدامة مع أصدقاء وحلفاء.
ولكن القاهرة وفقًا للأتراك، قد نظرت إلى هذه الخطوات التركية باعتبارها استسلامًا وانهزامًا، فمارست أقصى ضغط ممكن على أنقرة، عبر طلب وقف الأنشطة الإخوانية على أراضيها بالكامل على مرحلتين فقط، لا بشكل تدريجي كما اقترح الأتراك.
كما تم طلب تسليم عدد من المعارضين السياسيين المصريين في تركيا، في وقت استفحال الانتقام من إخوان الداخل بالإعدامات، إلى جانب اشتراط خروج القوات التركية من ليبيا بشكل عاجل، دون غيرها من القوات الأجنبية، ودون انتظار لنهاية العام، حيث موعد الانتخابات العامة.
فضلًا عن أن القاهرة لم تبين ما الذي ستقدمه إلى أنقرة مقابل هذه التنازلات النوعية، فإن بعضًا من هذه التنازلات لا يتعلق بالسياسي فقط، بل بالأخلاقي أيضًا، وهو ما ترفض تركيا التساهل فيه، مثل تسليم المعارضين للنظام المصري، إذ يقول أقطاي: “إن المطالبة بتسليم لاجئيين سياسيين إلى بلد تتم فيه اتخاذ قرارات إعدام جماعي لمعارضين من خلال محاكمات تعسفية هو في الواقع تخريب، حتى إن كان هناك احتمال للتقارب الصادق من تركيا”.
هذا النهج غير المستقر في العلاقات الخارجية من النظام المصري، إن نجح على المدى القصير في تحقيق بعض أهداف النظام، فإنه من المستبعد أن ينجح على المدى البعيد في إقامة تحالفات متينة مستدامة مع أصدقاء وحلفاء، وهو أمر يختلف عن سمة السياسة التي تدور حيثما دارت المصالح؛ إذ هناك فرق بين المرونة في إدارة العلاقات مع الآخرين، و”التذبذب” المشاهَد في سلوك النظام المصري، كما يقول محللون.