أطرح أسئلة أقرب إلى الحيرة الوجودية منها إلى التحليل العلمي. لماذا يصل إلى الحكم في البلدان العربية أشخاص مرضى أو معقدون ويكيفون مصير شعوبهم بحسب أمراضهم النفسية؟ هل هذا متلازمة من متلازمات الديمقراطية أم هو أمر يعود إلى غباء الشعوب الجاهلة؟ أم هو أمر ننسبه إلى فطرة الشعوب الطيبة التي تقع في شر طيبتها؟
أسئلة غير علمية، لكنها تفرض نفسها على وقع ما يصلنا من أخبار محاكمة الرئيس الموريتاني المنقلب على حكم مدني، وعلى وقع شطحات الرئيس التونسي الذي لم يعد قابلًا للقراءة كشخص سوي يمكن تحليل أفعاله بعلم النفس وبعلم الاجتماع، فضلًا عن تاريخ طويل يمكن استعادته من تواريخ حكام عرب في النصف الثاني من القرن العشرين، ليس أقلهم أهمية بورقيبة وعبد الناصر وصدام حسين وعائلة الأسد التي تخرج عن كل تصنيف وقراءة معقولة.
العسكر العربي مركوب مغامرين مرضى
آخر المنقلبين الذين أضر بشعبه كان عبد العزيز، العسكري الموريتاني الذي يمثل الآن أمام قضاء بلاده بتهم تؤدي إلى المقصلة، لكن قبل عبد العزيز شهد النصف الثاني من القرن العشرين انقلابات يعجزنا عدها، لم ينتج عنها حكم مفيد لشعب عربي من العراق إلى الجزائر مرورًا باليمن ومصر وسوريا.
كأنما كان العسكر مخبأً لمرضى نفسيين، يتخفون خلف اللباس الكاكي، وخلف خطاب الوطنية والقومية، ثم يكشفون وجوه ظلمة وقتلة لا يهتمون بعدد ضحاياهم ما داموا في السلطة.
وإنه لمن العار التاريخي أن يعيّر الصهاينة الشعوب العربية بأن مجموع من قتلته أسرة الأسد في سوريا، يفوق عدد من قتلهم الصهاينة من الفلسطينيين والعرب مجتمعين.
هل المؤسسة العسكرية العربية الحديثة بؤرة تجمع المرضى والمعقدين، الذين ينفّسون عقدهم المرضية الخاصة بواسطة تملك السلطة الغاشمة؟ سؤال غريب يبدو ضد مجرى التاريخ، لكن النتيجة ماثلة وتصنف في الفضائح التاريخية.
لم يخرج من العسكر العربي حاكم يقدّر حق شعبه في الحياة، ولو توفرت أرقام القتلى (سأقول الشهداء) لوجدنا عجبًا، كأنما جاء هؤلاء الحكّام ليقتلوا شعوبهم عامدين، لا ليحيوا فيهم حب الحياة وصناعة المستقبل.
وقد ظننا أن الربيع العربي سيغير المعادلات، وينهي عصر الحكام القتلة باسم الوطنية، فالديمقراطية تجبّ ما قبلها، ولكن حالة قيس سعيّد في تونس تصيبنا بالدوار المعرفي، وربما تتحول إلى عقدة نقص تونسية أمام العرب والعالم، بعد فخر ببناء أول تجربة ديمقراطية عربية.
صارت هذه قناعة مبنية على وقائع وأسماء بعد أكثر من نصف قرن من التجارب المتنوعة، شرقًا وغربًا.
لقد كنا يوم انتخابه نفخر بأن الاختيار الحر قد أوصل ابن الشعب إلى السلطة، وأن نهاية الحكم الغاشم قد ولت إلى الأبد، فإذا نحن بعد أقل من سنتين نعض أصابع الندم على اختيارنا الانتخابي.
لقد قدّمنا السلطة على طبق من ذهب لرجل مريض نفسيًّا، وهو يدفعنا إلى الاحتراب الأهلي، ولولا أغلاق الدستور الذكية التي قيدت يدَيه، لوجدنا أنفسنا في ثكنة يحكمها رجل مهووس برأيه، لا يجادل فيه أحدًا، ويظن أنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب.
المرضى بالسلطة يتقدمون إلى قيادة الشأن العام
صارت هذه قناعة مبنية على وقائع وأسماء بعد أكثر من نصف قرن من التجارب المتنوعة، شرقًا وغربًا.
الحق في إدارة الشأن العام حق مشروع بالديمقراطية، هكذا قرأنا وتعلمنا من التجارب الغربية التي أبهرتنا ذات يوم، لكن لماذا يخرج المرضى فوق سطح الرغبة الشعبية ويفرضون أنفسهم؟ لماذا كلما وصل شخص إلى موقع قيادي كشف عقده وأمراضه وساق الشعب طبقًا لهواه، متخليًا عن كل خطاب ديمقراطي؟ هل يوجد العيب في الشعب الذي اختاره؟ هل الشعوب العربية غبية أم طيبة؟ أم أن طيبتها تحدّ من ذكائها عند الاختيار؟
ليس هناك في علم الاجتماع توصيف لشعب طيب، يمكن اعتباره توصيفًا علميًّا مرجعيًّا يعتد به. يمكن التبرير بقلة التجربة كما في الحالة التونسية التي أنتجت قيس سعيّد، ويمكن التبرير بأن الانقلابات العسكرية أقوى من إرادات الشعوب المنقلب عليها، لكن لماذا لم يخرج من أي انقلاب عربي حاكم يحب شعبه ويخدمه دون أن يقتله؟ لماذا لم نلتقِ بالمستبد العادل؟ وهو تبرير يمكن احتماله، وقد أفرطت الإدارات الانقلابية العربية في استعماله كأنه قدر مقدور على الشعوب.
الاحتلال الغاشم يختار حكّام العرب منذ 70 عامًا
هذا تبرير سهل ويحتمل نسبة كبيرة من الصحة، لكنه يستعمَل كممهِّد للاستسلام للقدر الخارجي، فما دام الغرب (الخارج) قويًّا فلا داعي للمحاولة. لكن أين وعي الشعوب؟
بعض القراءات التاريخية للتراث السياسي العربي، تبرز أن 15 قرنًا من الدولة العربية (إذا غضضنا الطرف عن تفاصيل مراكز الحكم والشعوب غير العربية التي شاركت في حكم العرب)، لم تقدم لنا حاكمًا عربيًّا يقدر شعبه ويخدمه، وأن كل التاريخ السياسي العربي هو تاريخ سلطاني، حتى أن البعض يروج للأطروحة الاستشراقية الفرنسية البغيضة بأن العرب لا يحكمون إلا بالدم، وأنهم شعوب لا يمكنها الارتقاء إلى مصاف الديمقراطية.
يمكن تمطيط وقائع كثيرة وتحويلها إلى أدلة على هذا، لكن بثمن قاسٍ هو إغفال أدلة أخرى تثبت أن الحرية كانت دومًا طموحًا شعبيًّا عربيًّا، يعبّر عن نفسه غالبًا بثورات متتابعة، هدفها تحقيق العدل والحرية، بما في ذلك تجاوز فكرة الدولة وبناء المجتمعات الأهلية المحكومة ذاتيًّا، دون القبول بالخضوع لدولة مهمتها فقط جمع الضرائب وتمويل قصور السلاطين المحشوة بالجواري والغلمان، فكيف لشعوب عاشقة للحرية ألّا تفلح في بناء الديمقراطية بأشكالها الحديثة؟
هذا سؤال وجودي تحركه الآن الحيرة أمام سلوك قيس سعيّد، المنتخب بحماس شعبي لم يسبقه إليه حاكم عربي.
لقد كتبت (أنا مواطن عربي متعلِّم) أن الحالة التونسية حالة مثالية لدراسة كيفية اختيار الحكام، وكنت أجد دومًا اليد الفرنسية في كل من حكمَ هذا البلد منذ الاستقلال.
ويوم اخترنا قيس سعيّد، قلت إن القاعدة انكسرت، وإن الشعب اختار أحد أبنائه للحكم رغم التدخل الخارجي الفرنسي بالتحديد، وبعد أقل من سنتين ظهرت فرنسا خلف قيس سعيّد، تسنده وتحرضه ضد التجربة الديمقراطية، وهو يستجيب لها مخربًا التجربة بلا مقابل بطريقة تكشف غفلة من اختاره قبل أن تكشف قوة من يسنده.
أفق معرفي جديد
ماذا لو خرجنا من فكرة الدولة التي تشربناها من التجارب الغربية، بحيث لا يكون لأي حاكم سلطة على شعب حر؟ أي شعب لا يحشر في جهاز حكم مستورد كتقنية حكم لا كقدر فسلفي أو إلهي؟ ماذا لو بقينا بلا دولة هيغلية، وأعدنا أساليب إدارة الحكم الأهلي دون دولة مركزية؟
عاش العرب وشعوب أخرى كثيرة منظمين بأشكال مختلفة للسلطة الأهلية، قبل أن يتعثروا في كتب الغربيين بفكرة الدولة المركزية.
نحتاج هنا إلى نظرية جديدة في الاجتماع السياسي، تقطع بشكل جذري مع تقنية الحكم المستوردة تحت عنوان الدولة.
بتبسيط أولي (قد يبدو مخلًّا لأنه جديد ومختلف)، الدولة هي التي خلقت الدكتاتورية، والمجتمع الأهلي العربي عاش دون الدولة قرونًا يدير شؤونه بنفسه، في أطر ضيقة تجمع بين العرق والدين والحاجة الحيوية.
لا تبدو الفكرة متبلورة بشكل كامل، لكنها أفق تفكير يقطع مع كل حيلة حكم قد تنتج دكتاتورًا طيبًا أو خبيثًا.
لماذا سلمنا بلا نقاش بفكرة الدولة على النمط الغربي الأوروبي، كما لو أنها قدر لا فكاك منه؟ هذا النموذج ليس قدرًا وإن تعلل بالحداثة والتقدمية.
ماذا لو فكر المثقف العربي خارج النماذج الغربية لإدارة الشأن العام، واخترع نموذج حكم يسنده على تجارب الإدارة الأهلية القديمة؟ فيقطع الطريق على كل دكتاتور مريض يتذرع بخدمة الوطن، فيقضي على الشعب أولًا ليصنع مجده طبقًا لأمراضه النفسية.
لقد عاش العرب وشعوب أخرى كثيرة منظمين بأشكال مختلفة للسلطة الأهلية، قبل أن يتعثروا بكتب الغربيين وفكرة الدولة المركزية. كان هناك حاكم رمزي يدعى له على المنابر، ولكنه لم يكن يقمع هذه الشعوب كما فعل بها حكامها الحداثيون. إن هذا أفق تفكير نظنه قادرًا على إلغاء احتمال ظهور قيس سعيّد من التاريخ.