يزداد المسار التفاوضي لملف سد النهضة تعقيدًا يومًا تلو الآخر، في ظل اقتراب موعد الملء الثاني المقرر له يوليو/تموز المقبل دون الوصول إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف، في الوقت الذي تذهب فيه الأزمة إلى منصات التدويل ردًا على التعنت الإثيوبي والإصرار على المضي قدمًا في استكمال مراحل المشروع بصورة انفرادية.
وبعد أكثر من 10 سنوات تخللتها عشرات الاجتماعات بين شتى الأطراف والوسطاء، من القاهرة إلى أديس أبابا مرورًا بالخرطوم والعكس، غير العواصم الوسيطة الأخرى التي شهدت بعض تلك اللقاءات، جاءت المحصلة صفرية النتائج، ليزداد الوضع تعقيدًا لا سيما في ظل تصاعد مخاوف ملايين المصريين والسودانيين بشأن تداعيات السد، الأمر الذي بات يمثل ضغطًا كبيرًا على نظامي البلدين.
نجحت أديس أبابا في توظيف سياسة التسويف لكسب الوقت اللازم للوصول بالمشروع إلى مرحلته النهائية، فيما التزمت القاهرة والخرطوم بإستراتيجية حسن النوايا، المظلة الرئيسية لأجواء المفاوضات طيلة السنوات السبعة الماضية، لتصل الأمور في نهايتها إلى طريق مسدود، تعنت إثيوبي في مقابل هرولة مصرية سودانية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
بالنسبة لمصر تحديدًا فالقضية تجاوزت حاجز الرفاهية في مستوى الخيارات المطروحة التي تتقلص جولة بعد أخرى، الوضع نسبيًا كذلك لدى السودانيين وإن كان بصورة أقل، وبات الضغط السياسي عبر سيناريو إشراك المجتمع كطرف أساسي في تلك الأزمة الحل الوحيد قبيل التوجه إلى الخيار العسكري الذي يبدو أنه غير مرغوب فيه دوليًا.
وتعاني المفاوضات من جمود نهائي منذ أبريل/نيسان الماضي في أعقاب فشل الدول الثلاثة في تحقيق أي خطوات إيجابية خلال جولة كينشاسا برعاية دولة الكونغو الديمقراطية الرئيس الحاليّ للاتحاد الإفريقي، فيما تصر مصر والسودان على إبرام اتفاق قانوني ملزم حول قواعد ملء وتشغيل السد، بينما تصر إثيوبيا على الملء الثاني خلال موسم الفيضان المقبل الذي يبدأ بعد أيام.
مصر: استكمال المفاوضات
جددت مصر تعهداتها السابقة بالاستمرار في عملية المفاوضات كخيار وحيد في الوقت الراهن للتعامل مع هذا الملف، كما جاء على لسان وزير الموارد المائية والري المصري الدكتور محمد عبد العاطي، الذي أشار إلى “ثوابت بلاده في حفظ حقوقها المائية وتحقيق المنفعة للجميع في أي اتفاق حول سد النهضة، والسعي للتوصل لاتفاق قانوني عادل وملزم للجميع يلبي طموحات جميع الدول في التنمية”.
الوزير المصري خلال زيارته لجنوب السودان أمس أكد أن بلاده وعلى مدار سنوات التفاوض الماضية أبدت مرونة كبيرة، لكنها قوبلت بـ”التعنت الواضح من الجانب الإثيوبي”، حسب قوله، منوهًا إلى حرص مصر على تنمية وازدهار دول حوض النيل، مستشهدًا بالمشروعات التي تنفذها بلاده على الأرض في كل دول حوض النيل والدول الإفريقية، بهدف خدمة المواطنين وتحقيق الاستقرار للأهالي.
كما هو الحال في القاهرة، فقد خرجت تحذيرات عدة من الشارع السوداني بشأن تداعيات هذا المشروع حال إتمام عملية الملء
وتشير التقديرات إلى أن سد النهضة سيحدث عجزًا في احتياجات مصر المائية متوسطه 10 مليارات متر مكعب في السنة (أي ما يعادل سدس حصة مصر المائية من النيل 55.5 مليون متر مكعب) في حال استمرار عملية الملء إلى 7 سنوات، وهو السيناريو الأكثر احتمالًا، وفي ظل وجود عجز حاليّ يصل إلى 18 مليار متر مكعب، فإن العجز الإجمالي المتوقع سيصل إلى 28 مليار متر مكعب، أي تقريبًا أكثر من نصف الحصة المائية المصرية.
في دراسة حديثة له، استعرض عالم الفضاء المختص في دراسة المياه على الأرض وفي المجموعة الشمسية، عصام حجي، المخاطر المحتملة لسيناريوهات ملء السد التي تترواح بين 3 سنوات و21 سنة، محذرًا من تداعيات ذلك على خريطة مصر الزراعية.
وأشار حجي أن سيناريو الملء القصير، أي المقرر له أن يستغرق 3 سنوات فقط، سيؤدي إلى عجز مائي متوسط يقارب 31 مليار متر مكعب سنويًا، ما نسبته 40% من الموازنة المائية الحاليّة لمصر، وعليه تتقلص المساحة الزراعية الحاليّة بنسبة 72%، وينخفض عائد الإنتاج الزراعي من 91 مليار دولار إلى نحو 40 مليار دولار خلال فترة الملء، هذا بخلاف انخفاض الناتج المحلي للفرد بنسبة 8% وزيادة معدلات البطالة بنحو 11% عن المعدلات الحاليّة.
السودان: اللجوء إلى مجلس الأمن
استكمالًا للموقف المصري الذي يميل لاستكمال المفاوضات بعيدًا عن أي صدامات قد تعرقل المسار برمته، طالب السودان عبر وزيرة الخارجية مريم الصادق، مجلس الأمن الدولي، بعقد جلسة في أقرب وقت، لبحث هذا الملف ومناقشة النقاط الخلافية بين الأطراف في محاولة للوصول إلى اتفاق مرضٍ.
الصادق بعثت رسالة إلى رئيس المجلس دعته فيه لـ”حث كل الأطراف على الالتزام بتعهداتها بموجب القانون الدولي والامتناع عن اتخاذ أي إجراءات أحادية الجانب، ودعوة إثيوبيا وبالتحديد للكف عن الملء الأحادي لسد النهضة، الأمر الذي يفاقم النزاع ويشكل تهديدًا للأمن والسلم الإقليمي والدولي”.
وناشدت الوزيرة السودانية عبر تلك الرسالة كل الأطراف الدولية للبحث عن أي وسائل أو وساطات من شأنها فض النزاع المتعلق بهذا الملف، كما دعت الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وكل المنظمات الإقليمية لأداء مسؤولياتها من أجل دفع المفاوضات للأمام، معربة عن أسف بلادها لمضي إثيوبيا قدمًا في الملء الأحادي للمرة الثانية، معرضة حياة الملايين من السودانيين وسلامتهم وسبل عيشهم لمخاطر جسيمة.
الأمور تسير إلى طريق مجهول، ففشل جولة مفاوضات كينشاسا الأخيرة أصابت الجميع بالصدمة، خاصة أن الكثير كان يعول عليها في إحراز أي تقدم في هذا المسار الصلب
الرسالة استعرضت الجهود التي بذلها السودان على مدار السنوات الماضية من أجل التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم من خلال سلسلة مطولة من المفاوضات التي رعاها الاتحاد الإفريقي، لكنها باءت بالفشل في ظل التعنت الإثيوبي وإصرار الحكومة على تنفيذ مراحل المشروع بالخطة الزمنية الموضوعة له من قبل دون اتخاذ أي خطوات للخلف لتخفيف حدة التوتر والاحتقان لدى دولتي المصب.
وكما هو الحال في القاهرة، فقد خرجت تحذيرات عدة من الشارع السوداني بشأن تداعيات هذا المشروع حال إتمام عملية الملء، فيرى الخبير السوداني في القانون الدولي أحمد المفتي، أن السد يهدد السودانيين بالغرق والعطش، لافتًا إلى انعكاس الملء الأول للسد الذي تم بين يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2020 على التصريفات المائية لسد الروصيرص.
وأشار المفتي خلال تصريحاته لـ”الجزيرة” إلى تراجع تلك التصريفات إلى 124 مليون متر مكعب مقارنة بـ448 مليون متر مكعب سابقًا، الوضع كذلك مع سد سنار، إذ تراجعت التصريفات إلى 73 مليون متر مكعب مقارنة بـ373 مليون متر مكعب سابقًا، وانخفض أيضًا منسوب مياه النيل بالخرطوم، هذا بخلاف تأثير الملء الأول للسد على محطات مياه الشرب النيلية في العاصمة الخرطوم كالصالحة وسوبا.
الوضع يزداد صعوبة
الأمور تسير إلى طريق مجهول، ففشل جولة مفاوضات كينشاسا الأخيرة أصابت الجميع بالصدمة، خاصة أن الكثير كان يعول عليها في إحراز أي تقدم في هذا المسار الصلب، غير أن تمسك أديس أبابا بموقفها أجهض كل المساعي الرامية للحلحلة، تزامن ذلك مع تحركات عسكرية مصرية مع دول الجوار الإثيوبي كالسودان وجيبوتي وأوغندا.
ورغم غياب الخيار العسكري عن الخطاب الرسمي المصري في التعاطي مع تلك الأزمة (التلويح جاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الوسائل الإعلامية غير الرسمية)، فإن تحذيرات صدرت عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي باستبعاد هذا الخيار، والاستمرار في الحل السياسي عبر المفاوضات التي يراعاها الاتحاد الإفريقي.
وشهدت الأيام الماضية تحركات دبلوماسية واسعة النطاق مع الاتحاد الأوروبي، لا سيما فرنسا وبريطانيا العضوين الدائمين في مجلس الأمن، وأستونيا والنرويج وأيرلندا الأعضاء الحاليّين، في محاولة لحشد رأي عام دولي ضاغط داخل المجلس للخروج بنتائج إيجابية ملموسة من خلال التدويل، مقارنة بمخرجات الجلسة التي عقدها المجلس يونيو/حزيران 2020، بشأن استئناف المفاوضات في حينه تحت لواء الاتحاد الإفريقي، وهي التي لم تسفر عن أي نتيجة حتى اليوم رغم مرور عام كامل.
باتت القاهرة اليوم في سباق خطير مع الزمن للحيلولة دون إتمام عملية الملء الثاني في موعده الشهر القادم، فإتمام هذه الخطوة يعني أن الحل السياسي بات صعبًا للغاية وأن إثيوبيا ستفرض شروطها كاملة، ومن جانب آخر سيفقد الخيار العسكري قيمته وتأثيره (فات أوانه)
التطور الأخير الذي شهده هذا الملف مع إعلان إثيوبيا بداية الشهر الحاليّ أن الملء الثاني قد يكون جزئيًا في ظل عدم قدرتها على ضخ 13 مليار متر مكعب المفترضة إلى خزان السد بسبب عدم مقدرتها على تعلية الممر الأوسط للسد إلى ارتفاع 595 مترًا، وأنه سيتم رفعه إلى 573 مترًا فقط، أثار الكثير من التكهنات.
الإعلان جاء مرضيًا للبعض كونه تراجعًا إثيوبيًا عن الملء الكامل نتيجة الضغوط السياسية والدبلوماسية التي تبذلها مصر والسودان، لكن في الجهة الأخرى هناك من يتخوف من حقيقة تلك الادعاءات وأنها لا تعدو إلا محاولة جديدة لكسب المزيد من الوقت وامتصاص غضب دول المصب وتخفيف حدة الضغوط الإقليمية والدولية الممارسة على الحكومة الإثيوبية.
وفي الأخير باتت القاهرة اليوم في سباق خطير مع الزمن للحيلولة دون إتمام عملية الملء الثاني في موعده الشهر القادم، فإتمام هذه الخطوة يعني أن الحل السياسي بات صعبًا للغاية وأن إثيوبيا ستفرض شروطها كاملة، ومن جانب آخر سيفقد الخيار العسكري قيمته وتأثيره (فات أوانه)، فهل تنجح الجهود الدبلوماسية في إتيان ثمارها في وقت المباراة الأصلي قبل الدخول في الوقت الضائع؟