ثمة تشابك في العلاقات “الليبية – السودانية” بجذور تاريخية، حيث الصعود والهبوط في منحنى العلاقات بين البلدين الجارين، فلا يستطيع أحد غض الطرف عن تدخلات سلطات كل منهما في الشئون الداخلية للآخر، بعلمه أو دون علمه؛ مما أرسى حالة من عدم الاطمئنان يضمرها كلا البلدين للآخر، فكل اضطراب يحدث في بلد منهما (السودان – ليبيا) لا يستطيع أي منهما تمريره بدون الشك في دور أحدهما في الاضطرابات وتدلل الوقائع التاريخية على ذلك:
ففي العام 1971 تدخلت قوات ليبية في إحباط هروب “هاشم عطا”، الذي قاد انقلابًا على “جعفر النميري”، حاكم السودان في ذلك الوقت؛ مما أفشل الانقلاب ووضع السودان في بؤرة اهتمام “معمر القذافي”.
وفي العام 1978 في ظل التحالف “المصري – السوداني” بين الرئيسين “محمد أنور السادات” و”جعفر النميري”، خاصةً في قضية اتفاق كامب ديفيد التي كانت ليبيا “القذافي”، من أشد المعارضين لها، فانسحبت معارضة مصر على العداء للسودان، فكانت ليبيا عاملاً رئيسًا في تقليب الداخل السوداني عن طريق دعم حركات المعارضة، كذلك كان التعامل بالمثل من السودان في إيواء أي حركة معارضة لنظام القذافي في ليبيا، التي أسست إذاعة خاصة في الخرطوم تعارض النظام في ليبيا.
في العام 1985 ساعد “القذافي” في الإطاحة بنظام “النميري” الذي كان حليفًا بالأمس، حتى سقط نظام “النميري” في يد سوار الذهب بدعمٍ واضحٍ من نظام معمر القذافي في ليبيا، الذي تحسنت علاقته بجميع الأطراف السودانية في الشمال والجنوب، حتى أصبح لاعبًا أسياسيًا في طاولة السياسية السودانية، يحظى باستجداء جميع الأطراف لدعمهم حتى سقط حكم السودان في يد “عمر البشير” – الرئيس الحالي – عن طريق انقلاب عسكري قاده بدعم ليبي واضح.
وما لبث هذا الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الذي تقدمه ليبيا للسودان أن تحول إلى أداة ضغط على الحكومة السودانية، وذلك بتدعيم جماعات الانفصال في الجنوب وحركات التمرد في الشمال؛ مما أشعل حربًا خفية بين الحكومتين في الخرطوم وطرابلس، حتى إن القذافي كان يلعب دورًا لانفصال الجنوب وهو ما حدث بالفعل.
السودان والثورة الليبية
حضر السودان وبقوة في الثورة الليبية كنوع من استكمال مسلسل الحرب الخفية بين نظام البشير ونظام القذافي، حتى كانت الأسلحة السودانية في مقدمة أيدي الثوار في ليبيا، عن طريق الحدود المشتركة بين البلدين، وهو ما اعترف به الثوار فيما بعد، حتى سقط القذافي فسارع عمر البشير الرئيس السوداني لزيارة مدينة بنغازي، مهد الثورة الليبية، كأول اعتراف عربي بشرعية الوضع القائم في ليبيا.
وفيما بعد اشتكت السودان من تسرب الأسلحة الليبية إلى جماعات مناهضة له، حسب تصريحات إعلامية للرئيس عمر البشير، أكد فيها أن نظام القذافي قد سلح عدة مليشيات أفريقية أثناء الثورة في ليبيا للدفاع عنه، وقد تفرقت هذه المليشيات بعد سقوط القذافي، وعادت إلى أفريقيا وباتت في مخيلتها مجابهة الحكومات بها، كما اعترف البشير بحصول بلاده على بعض الأسلحة من ليبيا وأن على الجميع التعاون للحد من خطر انتشار السلاح الليبي في دول المنطقة، وخصوصًا الأفريقية منها، التي تشهد النزاعات المسلحة؛ وهكذا كان التدخل السوداني في ليبيا واضحًا منذ اندلاع الثورة وحتى هذه اللحظة.
السودان تمارس دورها في ليبيا حتى الآن
عقب اشتعال الصراع في الداخل الليبي الذي يتمثل في وجود حكومتين ومجلسين تشريعيين، كان للسودان دورًا يمارس هناك، حيث كانت تصريحات إعلامية لوزير الخارجية السوداني التي تعلن عن استعداد الخرطوم للتوسط في الصراع الدائر بليبيا، لوقف حالة الاقتتال الموجودة دون الإعلان عن نية دعم أحد الأطراف.
ولكن الخفي الغير معلن هو مساعدة الدولة السودانية لقوات فجر ليبيا المحسوبة على ثوار ليبيا، في وجه حكومة طبرق الموالية للواء المتقاعد خليفة حفتر قائد العمليات، فيما سمي عملية “كرامة ليبيا”، وقد أرجع المحللون ذلك إلى دعم حكومة طبرق من قبل بقايا النظام السابق في ليبيا – نظام القذافي – وهو ما يثير غضب الخرطوم، التي تدعم قوات فجر ليبيا والتي يرجع المحللون دعمها أيضًا لوجود بعض التطابق الأيدلوجي بينها وبين رأس السلطة في السودان المحسوب على تيار الإسلام السياسي؛ مما أزعج دول المنطقة التي تدعم حكومة طبرق بشكل أو بآخر مما جعل السودان عرضة لاتهامات غربية، كتمويل جماعات إرهابية مسلحة في ليبيا والعمل على عدم استقرارها مما دفع السودان لنفي شبهة دعم أحد الأطراف في ليبيا.
وهذا ما نفته حكومة طبرق بقيادة “عبد الله الثني”، الذي أكد أن قوات حكومته رصدت طائرات سودانية محملة بالأسلحة لجماعات مسلحة في البلاد “في إشارةٍ لقوات فجر ليبيا” هبطت بمطار الكفرة، فيما أسرعت الخرطوم بالنفي مؤكدةً أن هذه الطائرة تقوم برحلات معتادة بين قوات الحدود المشتركة بين البلدين، رافضةً الاتهامات الموجهة من حكومة طبرق مطالبةً بالاعتذار عن تلك الاتهامات.
فيما تحدثت الأنباء عن زيارة سرية بعد تلك الواقعة من مفتي ليبيا “الشيخ الصادق الغرياني” شكر فيها الرئيس “عمر البشير”، لتقديمه الدعم لقوات فجر ليبيا المسيطرة على العاصمة، وهو ما عزز معلومات دعم البشير وحكومة السودان لطرف في المعادلة الليبية.
التدخل السوداني في ليبيا كان حاضرًا في القاهرة
وفي زيارة عمر البشير في القاهرة كان الملف الليبي حاضرًا في لقاء البشير بالسيسي، حيث من المعلوم الدور المصري الحالي في ليبيا بعد ظهور عدة وثائق تشير إلى أن هناك ثمة تدخل عسكري مصري إماراتي في ليبيا، يدعم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر ضد قوات فجر ليبيا المدعومة من السودان، فكانت إحدى إشكاليات الزيارة تضارب الرؤى حول الموقف مما يجري على الأراضي الليبية، ولم تعلن نتيجة الزيارة في هذا الصدد، لكن شيئًا ما قد حدث يجعل ظهور ثمرة لهذا اللقاء بين اثنين من الفاعلين في ليبيا.
السودان تهدئ من وتيرة التصعيد بدعوة الثني
فيما دعى عمر البشير، عبد الله الثني رئيس الوزراء في حكومة طبرق لزيارة السودان، في خطوة كانت غير متوقعة لولا زيارة البشير لمصر، مما يؤكد أن للقاهرة دورًا في هذا اللقاء بين البشير والثني، بعد الصدام الحادث بينهما منذ فترة، مما يؤكد استخدام القاهرة لنفوذها في تقليل الدعم لقوات فجر ليبيا المحسوبة على الثوار الإسلاميين في ليبيا، من أجل تعزيز رؤيته في هذه المنطقة، وحسم الصراع لصالح حلفائه في طبرق، ويعزز ذلك أيضًا ترحيب السفير الليبي في مصر بزيارة الثني للخرطوم مما يوضح الصورة أكثر فأكثر.
وهكذا تتضح الأمور شيئًا فشيئًا في الشأن الليبي أن اللاعبين في الصراع كُثر وبالتأكيد من بينهم الجار التاريخي “السودان”.