لم تعش السينما الإيرانية أي شهر من شهور العسل تحت حكم الجمهورية الإسلامية، ولم تكن أفضل حالًا في العهد الشاهنشاهي، إلا أنها تحت حكم الجمهورية الإسلامية وصلت إلى مرحلة من النضج أتاحتها لها حالة الشد والجذب مع السلطة، وبعض المتنفسات التي ظهرت في عهد محمد خاتمي وانفتاحه، التي أنتجت التيار الجديد ممثلًا في جعفر بناهي وأصغر فرهادي، اللذين رغم كل شيء لا ينالا كل الرضا.
إلا أن السينما الإيرانية كانت تستفيد بطبيعة الحال من قبضة الرقابة الأخف من التي قبلها، وما ستشهده البلاد في العهد الجديد المتشدد لإبراهيم رئيسي الذي عقب الإصلاحي حسن روحاني، سيكون من تلك الأشواط الساخنة في مباراة السينما الإيرانية والسلطة.
أزمة فيلم “بيت الأب”
ليس رئيسي بغريب عن الساحة السياسية الإيرانية ولا عن صناع السينما الإيرانية، فقد كان رئيسًا للسلطة القضائية، وكانت خطوط التماس بينه وبين صناع السينما الإيرانيين موجودةً بالفعل.
طلبت دار السينما الإيرانية عام 2019، وهي النقابة الرسمية للسينمائيين الإيرانية، عقد اجتماع عاجل مع رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي، لتأكيد حق السينما الإيرانية بجو عادل، ومناقشة الصعوبات التي تواجهها كوسيلة تعكس صوت الناس وصورتهم، وما سببته الإجراءات القضائية التعسفية من عرقلة ذلك المناخ لصناع السينما الإيرانية.
كانت تلك الرسالة في خضم الأحداث التي أعقبت إزالة فيلم المخرج كيانوش أياري “بيت الأب“، من دور العرض في جميع أنحاء البلاد، بأمر قضائي، رغم أن الفيلم حصل على التراخيص اللازمة للعرض من وزارة الثقافة والشؤون الإسلامية.
كانت المحكمة قد أعلنت منع الفيلم لأنه يحتوي على مشاهد تهين المعتقدات الدينية للشعب الإيراني، وتروج للعنف ضد المرأة وتقوض التقاليد والثقافة الإيرانية الإسلامية المثالية وتمثل صورةً كاذبةً ومشوَّهةً للأسرة الإيرانية وتعرض الصحة العقلية للمجتمع للخطر.
الفيلم الذي صدر قرار بمنعه عام 2019، مُنع أيضًا من قبل عام 2012 بسبب بعض المشاهد العنيفة المزعومة، إلا أنه صدر في صورته الجديدة بعد أن أدخل كيانوش بعض التعديلات عليه، وقد حصل أيضًا على موافقة من مكتب الإشراف والتقييم بوزارة الثقافة، ورغم ذلك أعلنت المحكمة أنه لم يتم إجراء أي تعديلات على الفيلم، وسيتم محاكمة جميع الجناة.
يدور الفيلم حول جرائم الشرف، عن امرأة شابة قتلها والدها بمساعدة شقيقها الأصغر، وقد حصل في النهاية على قرار إجازة لعرضه بعد أن تمت قصقصة أجنحته بشكل كامل، بما يتوافق مع مزاج السلطة القضائية في البلاد.
أزمة بيت السينما
في العام 2011، كانت الحكومة الإيرانية برئاسة أحمدي نجاد، وبمعاونة المتشددين الإسلاميين، قد أغلقت بيت السينما الإيرانية، وهي نقابة لصناع السينما الإيرانية، كان ذلك القرار تعبيرًا عن بعض خطوط الصدع العميقة في الجمهورية الإسلامية، التي تمتد إلى كل الجوانب الثقافية في البلاد.
ففي السينما، تفضل القيادة الدينية وحلفاؤها المتشددون بشكل عام، الترويج لما يعتبرونه سينما ثورية وإسلامية، وهو ما يناقض أحلام الليبراليين وإمكاناتهم السينمائية الواسعة.
كانت دار السينما نقابة جمعت عشاق الأفلام السينمائية وموظفي الصناعة، واستطاعت أن تمثل مصالح أكثر من 5 آلاف متخصص في صناعة الأفلام داخل إيران، واستطاع المتشددون في عهد حكومة نجاد إغلاقها بإجراءات مقتضبة وموجزة، مدعين أنها تعمل من دون تصريح مناسب.
يعتبر ذلك ستارًا للروح المتشددة تجاه النقابة، التي دومًا ما هاجمت أعضاءها بوصفهم مروجين لوجهات نظر علمانية موالية للغرب، كما يعتبر امتدادًا لسياسة الحكومة المتشددة في توجيه الصفعات المتتالية لكل النقابات، التي تحاول العمل بشكل استقلالي عن الحكومة.
وكان نحو 100 ممثل للنقابة عام 2013 قد نظموا مسيرة للمطالبة بإعادة فتح بيت السينما، لكنّ المتشددين واجهوا تلك الحركة باتهامها أنها امتداد للحركة الخضراء التي كانت تناهض فوز نجاد بانتخابات 2009، بداعي أنها انتخابات مزورة.
إلا أن أزمة النقابة وجدت انفراجة مع صعود حسن روحاني عام 2013 للسلطة، إذ أعاد فتح النقابة وأكد أنه لا ينبغي للحكومة التدخل في شؤون النقابات، وبعثت سياسات روحاني تلك الخوف في نفوس المتشددين، من زيادة نفوذ الإصلاحيين في الساحة السياسية داخل إيران.
وبأزمة فيلم “بيت الأب” مع السلطة القضائية، التي قادتها نقابة بيت السينما الإيرانية، وحاولت الاحتكاك بإبراهيم رئيسي رئيس السلطة القضائية آنذاك، الذي لم يستجب لمناشدات صناع السينما، وأصر على قصقصة الفيلم حتى آخر ريشة، يبدو أن نقابة بيت السينما الإيرانية ستواجه عصرًا جديدًا مظلمًا، يشبه ذلك الذي واجهته في عهد أحمدي نجاد.
لعبة القط والفأر
من الظواهر المثيرة للدهشة في عالم السينما، باستثناء فترتَي محمد خاتمي وحسن روحاني، اللتين تمتعتا بحرية نسبية بعض الشيء لصنّاع السينما الإيرانية، سنجد أن السينما الإيرانية لم تعدم الإبداع في عصر القمع السلطوي واللوائح الرقابية المتعددة.
تعد قدرة صانعي الأفلام على التغلب على خنق الرقابة، بينما لا يزالون يعملون في ظلها بإيران، أحد النجاحات النادرة في النضال اليومي الذي يخوضه الإيرانيون العاديون، للحصول على قدر أكبر من الحرية الشخصية في ظل نظام استبدادي، وفي الوقت نفسه كان لمعركة الرقابة تأثير كبير في تشكيل مظهر وأسلوب الأفلام الفنية الإيرانية.
في عهد الإصلاحيين والمتشددين على حد سواء، يبدو أن هناك بعض المحظورات التي لا تتغير، ويحظر على السينمائيين في إيران الاقتراب منها، خاصة فيما يتعلق بتصوير العلاقات بين الرجال والنساء والإيماءات الجسدية للحب وعدم الاصطدام مع قضايا سياسية بشكل مباشر ومنع النساء من الغناء أو الرقص على الشاشة وفرض الحجاب على النساء، ولو أن هذه النقطة تحديدًا قد تكون قابلة للتفاوض أحيانًا، كما حدث في أفلام عهد محمد خاتمي.
لكن تلك القوانين الصارمة التي تشبه القوانين العسكرية، أكسبت صانع الأفلام الإيراني موهبةً خاصةً ونادرةً، وهي موهبة الالتفاف على الرقابة، فبسبب تلك الرقابة الصارمة التي يخضعون لها، يبرعون في إيجاد الثغرات التي تنفذ من خلالها أعمالهم إلى المجتمع، لتعبّر عن رؤاهم.
نعم يواجه بعض المخرجين المنع الكامل، مثل جعفر بناهي، لكن تلك الأفلام أيضًا تجد طريقها إلى الخارج دون الحصول على تصريح من الحكومة، بتهريبها عبر قرص DVD أو USB مع أي شخص قريب من المخرج يسافر خارج البلاد، ليعطيها للمهرجانات الدولية، ما يقوّض فكرة المنع الكامل.
يتم الإشادة بالأفلام الإيرانية لنهجها البسيط وجماليتها، وقدرتها على قول أشياء من خلال عدم قولها، وإظهار أشياء من خلال عدم عرضها، فعند مناقشة مواضيع الحب المحجوبة بين البالغين، يذهب صنّاع الأفلام إلى مناقشتها في عيون الأطفال البريئة، أو استخدام الحياة القروية التقليدية كإطار لمناقشة الموضوعات الاجتماعية الحضرية، فهذه مواضيع لا تشكل أي تهديد للقواعد الأخلاقية الصارمة للجمهورية الإسلامية أو استقرارها السياسي.
قواعد اللعبة
أسهل شيء لصانع الأفلام الإيراني، أن يتعاون بشكل كامل مع سلطات السينما الحكومية، التي بدورها تقدم قروضًا لتمويل الأفلام، وتقدم معدات مجانية، إذا وافقت على السيناريو الأوّلي للفيلم، وبدوره يكون ذلك إقرار بموافقة صانع الفيلم على التماشي مع المحاذير الرقابية، ما يسهّل لفيلمه أن يجد طريقه إلى العرض في دور السينما المحلية أو على شاشات التلفاز.
من التناقضات الكبيرة التي تحفل بها الأفلام، ظهور النساء بشكل عبثي مرتديات الحجاب في أثناء نومهن بالمنزل، وكأن ذلك الأمر طبيعي، وعدم تطرق تلك الأفلام بشكل بديهي إلى الموضوعات الاجتماعية المتقلبة، مثل الانجذاب خارج نطاق الزواج، أو معدلات البطالة المتفجرة داخل المجتمع الإيراني.
إلا أن هناك مخرجين إيرانيين يرغبون في إنتاج أفلام فنية، تذهب إلى المهرجانات الدولية، وهؤلاء لديهم طريقتان فقط للقيام بذلك، أولاهما محاولة إنتاج أفلام جادة داخل نظام الدولة، ولكنها محفوفة بخطر التأويلات الرقابية لمعانيها ومشاهدها.
وثانيهما أنه يمكنهم صناعة أفلام تحت الأرض، على نفقتهم الخاصة ودون موافقة الدولة، وتلك لا تعرَض أبدًا داخل إيران، وهي الأفلام التي تجد طريقها إلى الاحتفاء الدولي الذي يكون لجودتها في أحيان كثيرة، ونكاية بالجمهورية الإسلامية في بعض الأحيان.
والطريف أن الأفلام المصنوعة تحت الأرض، هي أكثر الأفلام التي جلبت إلى السينما الإيرانية سمعتها الجيدة في العالم، وجلبت لها الكثير من الجوائز في المهرجانات الدولية.
الخوف من رئيسي
ليس الخوف من رئيسي هو خوف شخصي يواجه صنّاع الأفلام في إيران، بل هو خوف عام من الأيديولوجيا التي يحملها ذلك الشخص، التي شكلت ضربة لآمال شعب كان دومًا يظن أنه يتقدم خطوة تجاه حياة أكثر ليبراليةً وانفتاحًا.
وقد ظهر ذلك جليًّا في انتخابات 2017، حين أعلن المخرج الأشهر في إيران أصغر فرهادي بوضوح، تأييده لحسن روحاني في وجه إبراهيم رئيسي، وقال إن تصويته للدكتور روحاني هو من أجل مصير الأطفال في وطنه والأجيال القادمة، إذ لو فاز رئيسي فلن يكون في منصبه لمدة 4 سنوات فقط، بل لمدة 40 سنة.
لكن ما الخطر الذي من الممكن أن يشكله رئيسي على صناعة السينما في إيران بالفعل؟
رئيسي هو تلميذ علي خامئني، ومن أشهر رؤساء المجالس الثورية التي أعقبت الثورة عام 1979، لكنه في النهاية كرئيس لدولة تسعى للتقارب مؤخرًا مع الغرب من أجل مشاريعها النووية، لن تعمل بمعزل عن سياسات الضغط العالمية، التي قد تتدخل في حالة تعرض السينمائيين لاستهدافات شخصية داخل إيران، كما حدث مع المخرج جعفر بناهي في عهد أحمدي نجاد، الذي سبّب التضامن العالمي معه إيقافَ تنفيذ حكم السجن بحقه.
لقد هدفت الثورة الإسلامية منذ البداية إلى حشد الآلة السينمائية داخل إيران نحو الأفلام الدعائية للجمهورية وقيم الثورة، وبالفعل ظهر بعض المخرجين في ذلك الحشد، لكن المخرجين الأبرز والأكثر تقديرًا في إيران في أي عصر إصلاحي أو تشددي بعد الثورة، كانوا من الذين التفوا حول غير ذلك الغرض، فكيف فعلوا ذلك؟
لقد اختار صنّاع السينما الإيرانية دائمًا صنع نسخ محلية من الواقعية الجديدة الإيطالية، وهو نوع السينما الذي يحترم القيم الإنسانية العالمية مثل العطف ومقاومة الظلم، قيم تتقاسمها الشخصيات الرئيسية في المنظمة السينمائية داخل إيران في أي حقبة سياسية، وهي فكرة رائدها عباس كيارستمي.
لم يكن مهندسو السينما الإيرانية بعد الثورة يهدفون للقضاء على فن السينما، بل أرادوا سينما تضخِّم قيم الثورة، لكنهم لم ينجحوا، حيث لم تات أفلام الثمانينيات والتسعينيات في ظل الحرب مع إيران، ووطأة الحكم المتشدد، كأفلام حرب أو أفلام سياسية، بل كأفلامٍ عن القيم المشتركة عالميًّا للبشرية.
لقد برعت السينما الإيرانية دومًا في الالتفاف على السلطة، إذ استخدم صنّاع السينما الإيرانيون دائمًا مبدأ التقية الشيعي الشهير، في وجه المعممين والملالي أنفسهم، ما يجعلنا نظن أن السينما الإيرانية قد تشاهد انتكاسة وتضييق للخناق بالفعل في السنوات القادمة، إلا أنها لن تموت وستظل دائمًا قادرة على النفاذ من ثغرات البطش.