لوح وزير النقل المصري كامل الوزير، بالاستعانة بالشركات الأجنبية لإدارة وتشغيل مرفق السكك الحديدية في بلاده، ردًا على ما وصفه “وجود عناصر تعوق وتعرقل عمليات التطوير وتؤثر في معنويات من يقومون بالإصلاح والتطوير لمصلحة الشعب المصري وخدمته”.
الوزير المقرب من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، هدد في بيان له الأربعاء 23 من يونيو/حزيران من أنه “لا مكان لأي متقاعس أو فاسد أو مهمل يتسبب في حوادث تزهق أرواح المواطنين، وتضيع أموال الشعب المصري”، مشددًا على أن “الدولة وفّرت كل الإمكانات للنهوض بهيئة السكك الحديد، وتعاقدت على صفقات هي الأضخم من نوعها في تاريخ الهيئة، وأن على كل القيادات والعاملين بالهيئة أن يعملوا على مدار الساعة، وأن يؤدي كل فرد مهمته وفق التوصيف الوظيفي له”.
تأتي تصريحات الوزير ردًا على الانتقادات الموجهة له على خلفية حادثتي التصادم اللتين وقعتا اليومين الماضيين، الأولى في حلوان، حيث اصطدم قطار بضائع بحافلتين ما تسبب في وفاة شخصين وإصابة 6، والآخر بالقرب من محطة مصر بمحافظة الإسكندرية شمالي مصر حيث اصطدم جرار قطار بأحد القطارات ما أسفر عن 40 مصابًا.
أثارت تلك التصريحات غضب الشارع المصري بصورة كبيرة، فقد أعادت للأذهان مرة أخرى مخاوف سياسة “الخصخصة” سيئة السمعة، لا سيما في مرفق حيوي ومهم كالسكك الحديدية، وهو ما أشعل مواقع التواصل الاجتماعي التي اتهمت الوزير بالمسؤولية الكاملة عن تدهور القطاع في السنوات الثلاثة الأخيرة، ووقوع النسبة الأكبر من الحوادث في عهده، رغم مساعيه الدائمة للتنصل من ذلك عبر إلقاء المسؤولية على جهات أخرى.
ورغم أن مصر تعد من أوائل الدول معرفة بالسكك الحديدية وأقدمها في الشرق الأوسط، فإنها تحتل مرتبة متقدمة في قائمة الدول الأكثر معاناة من حوادث القطارات، فتذهب التقديرات إلى وقوع ألف حادثة سنويًا، أي نحو خمسة أضعاف مثيلتها بالاتحاد الأوروبي، ونحو سبعة أضعاف المملكة المتحدة، وعشرين ضعفًا مقارنة باليابان.
عودة للامتيازات الأجنبية
كثير من المتابعين طالبوا بألا تمر تهديدات الوزير مرور الكرام، فالاستعانة بالشركات الأجنبية في هذا القطاع يفتح الباب للسيطرة الأجنبية على واحد من أهم القطاعات الحيوية في مصر، هذا بخلاف ما تحمل تلك التصريحات من دلالات سلبية بشأن قدرة الوزير على أداء مسؤولياته عكس ما كان يتوقع منه.
فريق ذهب إلى أن الخطاب الصادر عن الوزير المقرب من السيسي يتناقض بشكل كبير مع تصريحاته السابقة حين تولى وزارة النقل بداية 2019، فالتصريحات الوردية التي خرج بها على المصريين بشأن نقلة نوعية في هذا المرفق في أقل وقت ممكن وانتهاء عصر الحوادث، تبخرت سريعًا بعد أيام قليلة من توليه المسؤولية.
ولاية الجنرال، صاحب الصيت الكبير داخل المؤسسة العسكرية سابقًا، ربما تكون الأكثر دموية في مسيرة السكك الحديدية المصرية، إذ شهدت عشرات الحوادث، أغلبها قطارات الغلابة، هذا بجانب حوادث من نوع جديد لم تشهدها قطارات مصر إلا في عهد الوزير الحاليّ منها ما حدث في أكتوبر/تشرين الأول 2019، حين أجبر محصل التذاكر “كمسري” راكبين على إلقاء أنفسهم خارج القطار بسبب عدم دفع التذاكر، ما أسفر عن وفاة أحدهما وبتر قدم الآخر.
ويومًا تلو الآخر بدأت أحلام المصريين في إمكانية الجنرال تقديم ما لم يقدمه غيره من الوزراء المدنيين تتبخر، لتنكشف الحقيقة التي طالما سعى الوزير لطمسها أو إخفائها مع كل حادثة تقع، وهي أن الأمر بحاجة إلى أهل الكفاءة لا أهل الثقة، وهي الخطيئة التي يدفع ثمنها المصريون في المجالات كافة.
خصخصة ولكن
فكرة الخصخصة في حد ذاتها ليست مستبعدةً ولا مرفوضةً، لكن بحدود وضوابط في أضيق الإطارات، لما يمثله هذا المرفق من حساسية ناتجة عن أهميته وتشابكه مع العديد من القطاعات الأخرى وتلامسه مع أكثر من مجال حياتي يمس المواطن العادي وأضلاع الدولة الاقتصادية.
وكانت الوزارة قد أسندت في خطط سابقة لها بعض المهام لشركات القطاع الخاص، إذ إن مرفق بهذا الحجم “يحتاج إلى خبرات القطاع الخاص التي من الممكن أن تساعد في تطوير المرفق، فمن المحتمل إسناد عمليات التدريب والصيانة، أو إدارة قطارات البضائع على الخطوط الجديدة للقطاع الخاص دون خصخصة كاملة للمرفق”، حسبما أشار الصحفي المتخصص في قطاع النقل، حساني شحات.
ويعتبر شحات في مقال له أن “البحث عن خصخصة كاملة لمرفق السكك الحديدية خطأ كبير”، إذ يملك هذا المرفق أصولًا تقدر بعشرات المليارات من الجنيهات، هذا بجانب أن قرار الخصخصة ستكون كلفته الاجتماعية عالية جدًا، كونه يتولى مسؤولية نقل 1.4 مليون مسافر يوميًا الآن ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد ليصل إلى مليوني مسافر بحلول 2024.
ومن ثم فإن إلقاء الكرة في ملعب القطاع الخاص قد ينطوي على كارثة اجتماعية محققة، بشأن نقل هذا الكم الكبير من المواطنين الذين يلجأون للقطارات لأسعارها المنخفضة نسبيًا مقارنة بوسائل النقل الأخرى، هذا بخلاف انتظام مواعديها في الغالب، حتى إن اعتراها بعض التقصير بين الحين والآخر.
ورغم الخسائر التي يعاني منها قطاع السكك الحديدية في مصر فإنه سيظل موردًا اقتصاديًا مهمًا ومحوريًا حال إدارته بالشكل المناسب، فالأزمة تتعلق في المقام الأول بالإدارة وغياب أهل الخبرة والكفاءة لصالح الحواسيب والشللية، وهو ما تكشفه تفاصيل كل حادثة.
وتتزايد معدلات اعتماد المصريين على القطارات رغم تعدد الحوادث بها، إذ وصل معدل الاستخدام اليومي في بعض الحالات إلى 1.4 مليون مسافر، فيما ارتفع المتوسط الإجمالي السنوي إلى 270 مليون مسافر خلال عام 2019، مقارنة بـ228 مليون عام 2015 و247 مليون عام 2010، ويمثل قطاع نقل المسافرين الجزء الأكبر من نشاط هيئة السكك الحديدية بنسبة تبلغ 90%، الأمر الذي يمكن الاستناد إليه في دراسة آليات وإسترايتيجات التطوير.
وزير التصريحات المثيرة
لم يكن هذا التصريح للجنرال هو الأول من نوعه المثير للجدل والغضب معًا، فللرجل سجل حافل بمثل تلك التصريحات التي يتعامل معها رواد مواقع التواصل الاجتماعي بشيء من السخرية لما تنطوي عليه من تغريد واضح خارج السرب وشذوذ عن المنطق والمعقول في كثير منها.
ففي مايو/أيار الماضي خرج الوزير معلنًا اعتزامه الاستعانة بالمهندسيين كـ”سائقي قطارات“، فقد كشف عن رغبته في تعيين مهندسين من خريجي الكليات التكنولوجية، لقيادة قطارات السكك الحديدية، وذلك بعد التدريب واجتياز الدورات اللازمة، فيما نقلت بعض وسائل الإعلام المقربة من النظام أنه تم “الاتفاق خلال اجتماع للوزير مع قيادات الهيئة على تعيين 200 مهندس بشكل أولي للعمل سائقي قطارات، و250 مهندس تخصص كهرباء للعمل كمراقبي أبراج وتحكم مركزي بمسير القطارات”.
أثار التصريح وقتها سخرية شريحة كبيرة من المجتمع المصري وعلى رأسهم المهندسين، إلا أنه قوبل بترحيب كبير من بعض وسائل الإعلام الحكومية والخاصة التي رأت في هذا التحول خطوةً جيدةً لتقليل نسب الأخطاء ومن ثم تراجع معدلات الحوادث التي في الغالب يحمّلها الوزير للسائقين وموظفي الهيئة.
وفي أبريل/نيسان الماضي، اتهم الوزير ما أسماهم “العناصر المتطرفة” داخل الوزارة وفي مرفق السكك الحديدية بضلوعهم وراء الحوادث المتكررة التي يشهدها القطاع في الآونة الأخيرة، وأمام مجلس النواب (البرلمان) طالب الوزير باستبعاد العناصر التي تنتمي إلى “أنشطة متطرفة وإثارية”، إلى أماكن ووزارات غير حساسة، لحين صدور تعديل قانون على الخدمة المدنية يسمح باستبعادهم.
وأضاف الوزير “بخصوص وجود موظفين متطرفين وإخوان في الوزارة، فهي معلومات صحيحة ومعروفة، وحاولت الوزارة بشتى الطرق التخلص من موظفين أجمعت الجهات الأمنية أنهم ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين”، وتابع “هناك صبية مدفوعون يقومون بفك المسامير وإلقاء الحجارة على القضبان، وينتهي الأمر إلى انقلاب القطارات، ويصورونها بالموبايل”، متسائلًا عمن يحركهم، وقال هناك من ينام تحت القطار ويصور الأمر بالهواتف، على حد قوله.
تحميل تلك العناصر مسؤولية الحوادث الاخيرة توجه لاقى ترحيبًا من بعض النواب على رأسهم المقرب من النظام مصطفى بكري الذي استشهد بسائق اسمه “محمد سليمان” اتهمه بأنه كتب على صفحته هجومًا على الدولة وساند اعتصام رابعة، على حد قوله، هذا رغم أن النيابة العامة المصرية كشفت أسباب فنية تقف وراء حوادث القطارات الأخيرة ولا علاقة لها بأي شبهة جنائية كما يشير الجنرال.
ومن التصريحات التي تصب في الاتجاه ذاته ما أدلى به الوزير في 2019 عقب تعيينه بشهور قليلة، حين شن هجومًا حادًا على النقابات العمالية في قطاع النقل، متهمًا إياها بعرقلة جهود التطوير، قائلًا: “النقابات العمالية بتقوي العمال على الغلط، وهما مش فاهمين، وكل ما آخد قرار لتطوير هيئة خاسرة، الناس تهيج ويقولك بيشردنا”، وتابع “مش معقول الشركات تبقى خسرانة وييجي نقيب عمال يقعد يشتم فينا”.
اللافت للنظر أن تلك الحوادث وقعت في الوقت الذي شهد فيه المرفق طفرةً هائلةً في أسعار التذاكر والخدمات التي قفزت بنسب تجاوز بعضها الـ1000%، بحجة التطوير وسد العجز المتفاقم على مدار عقود طويلة مضت، ومع ذلك لم يلتمس المواطن العادي أي مظاهر التطوير إلا في القطارات التي تخدم القلة من المستثمرين ورجال الأعمال والخاصة بمسارات المناطق الساحلية والعاصمة الإدارية الجديدة.
وفي الوقت الذي يحاول فيه الوزير أن يتنصل من مسؤوليته إزاء تلك الحوادث عبر إلقاء التهم على الآخرين، يؤكد أبناء المرفق ذاته، من العاملين فيه، أن الجنرال هو المسؤول الأول، ورأس حربة الفشل الذي أصاب القطاع برمته منذ ولايته، رغم خزينة الدولة المفتوحة والصلاحيات الكاملة التي منحت له، فيما يتساءل البعض عن موعد إطاحة السيسي برفيقه كما فعل بغيره من الوزراء المدنيين السابقين.
وبعيدًا عن كون تصريحات الوزير بشأن إدخال شركات أجنبية في إدارة وتشغيل القطارات مجرد تهديد ووعيد وإنذار للعاملين أو مخطط مدروس تسعى الدولة لتنفيذه خلال المرحلة المقبلة، فإن الفشل التام هو العنوان الأبرز، وسوء الإدارة تتصدر الأسباب الحقيقية وراء استمرار هذا التردي، وأن غياب فقه الأولويات في ترتيب هرم الاحتياجات لدى الشعب الذي يقبع أكثر من ثلثه تحت مستوى خط الفقر سيقود إلى المجهول.. ليبقى السؤال: متى ينعم الغلابة بقطارات آدمية يشعرون بداخلها بالأمان وأن الوصول إلى محطاتهم مسألة وقت قبل أن تكون أمنية ربما لا تتحقق؟