حينما تطالع صورة جعفر بناهي للمرة الأولى، يتبادر إلى ذهنك سؤال عن ما الذي يجعل ذلك الرجل المبتسم الوديع، حجر عثرة في طريق الحكومة الإيرانية وعلاقتها بالسينمائيين؟ ولماذا دائمًا هو في السجن أو ممنوع من ممارسة فنه؟
رجل يحارب القمع بالابتسامة
يعد جعفر المولود سنة 1960 من أكثر صانعي الأفلام الإيرانيين اليوم تأثيرًا، وقد التحق بمدرسة السينما بعد الخدمة في الجيش خلال الحرب العراقية الإيرانية، وبدأ بصناعة أفلام قصيرة ووثائقية للتلفاز.
بعدها حاول جعفر الاتصال بالمخرج الشهير عباس كيارستمي، لعرض خدماته بأي شكل، ثم أصبح كيارستمي معلمًا متحمسًا لجعفر، وبالفعل ساعده في فيلمه الأول والأشهر “البالون الأبيض“، الذي أصبح أول فيلم إيراني يفوز بالجائزة الكبرى في مهرجان كان عام 1995.
كانت بداية جعفر كبداية مُخرجي ذلك الجيل الذين هربوا نحو الأطفال للاحتيال على الرقابة، لأن الدولة تتهافت على تمويل أفلام الأطفال بسبب صلاحيتها للمشاهدة المنزلية وخلوها من المشاهد الحميمية للنساء.
إلا أن جعفر لم يلبث في أحضان ثيمة الأطفال طويلًا، فقد انطلق من فيلمه “الدائرة” للصدام بشكل مباشر مع القيود المفروضة على النساء داخل إيران المعاصرة، واستمرت تلك النغمة من النقد الاجتماعي في أفلامه.
وفي أعقاب الاضطرابات التي أعقبت انتخابات 2009، المتنازع بشأن شرعيتها، كان جعفر مشتركًا بالحركة الخضراء، وهي حركة المظاهرات الكبيرة المناهضة للحكومة التي سعت إلى عزل رئيس إيران آنذاك محمود أحمدي نجاد.
حُكم عليه بالسجن 6 سنوات مع إيقاف التنفيذ، وحظره لمدة 20 عامًا من صناعة الأفلام والسفر خارج البلاد
ألقي القبض على بناهي عام 2010، وأمضى 3 أشهر في السجن قبل إطلاق سراحه، فأضرب عن الطعام في أثناء احتجازه، ما تسبب في دعم عالمي له من شخصيات سينمائية بارزة، وأدى ذلك الدعم في النهاية إلى إطلاق سراحه من السجن.
حُكم عليه بالسجن 6 سنوات مع إيقاف التنفيذ، وحظره لمدة 20 عامًا من صناعة الأفلام والسفر خارج البلاد، إلا أن جعفر انتهج نهج “بير السلم” لصناعة أفلامه، دون تصريح من الحكومة أو موافقة، وتهريبها لتعرض في مهرجانات الخارج.
على نهج الأستاذ
متأثرًا بنهج أستاذه عباس كيارستمي، أنتج جعفر فيلمه الأول “البالون الأبيض” عام 1995، فبرهن في فيلمه أنه الأبرز بالسير على خطى سينما أستاذه، إذ اقتبس التلميذ سر المهنة من فيلم الأستاذ، وانتزع اعترافًا من كيارستمي بأن جعفر لا يمكن أن يقدم فيلمًا سيئًا في المستقبل.
البحث عن الموضوع المفقود، تلك هي الثيمة الرئيسية لموضوعات الأطفال في سينما جعفر بناهي، ففي بالونه الأبيض، يحكي قصة فتاة ترغب بإلحاح في شراء سمكة حمراء، وذلك قبل ساعات قليلة من حلول السنة الفارسية الجديدة التي تتزامن مع أول أيام الربيع، فتواجه الفتاة في طريقها مشكلات عديدة، أكبرها أنها ستفقد نقودها.
ومستمرًا على خطى عباس كيارستمي، أنتج جعفر فيلم “المرآة” عام 1997، الذي يدور حول فتاة تاهت عن طريقها وتريد العودة من حيث أتت، واستطاع به أن يحصد الجائزة الذهبية في مهرجان لوكارنو، وواصل طريقه إلى العالمية والمهرجانات خارج إيران.
النضج والصدام
في أعقاب فوز الرئيس خاتمي بالانتخابات الرئاسية في مايو/أيار 1996، والقيود التي خفِّفت عن صناعة السينما تحت انفتاح خاتمي، فكر جعفر بالخروج عن خط عباس كيارستمي والابتعاد عن عالم الأطفال ببراءته ونقائه، أي أنه فكر في أن تنضج سينماه من الطفولة إلى الجدية، فالصدام مع السلطة.
منذ بداية حياته المهنية، وبالنظر إلى القواعد الصارمة والرقابة المفروضة على صناعة الأفلام الإيرانية، كان محتمًا على بناهي أن يلجأ كثيرًا إلى الاستعارة والرمزية والاقتراح، بدلًا من التصريح المباشر، من أجل توجيه نقد للجوانب القمعية للحياة في ظل نظام استبدادي، وتعامل مرارًا وتكرارًا مع ما هو مسموح به وما هو غير مسموح، لذلك لجأ إلى المجاز كثيرًا للتعبير عن الأوضاع الداخلية في إيران.
فبدأ يفكر في المرأة وما يعتري طريقها من عقبات في إيران، واختمرت في ذهنه فكرة معالجة نساء الشوارع، فقدّم سيناريو فيلم “الدائرة” لوزارة الثقافة والإرشاد التي صنفته كفيلم من الدرجة الثالثة، وكان هذا حكمًا سيئًا في صالح فيلمه.
نصح مدير الرقابة السينمائية جعفر بناهي بأن يخرج فيلمًا على نسق “البالون الأبيض”، وأن يمسح “الدائرة” التي رسمها بألوان صاخبة وجريئة وعنيدة من رأسه، إلا أنه رفض العودة إلى خط كيارستمي مرة أخرى، مؤكدًا أن “البالون الأبيض” لم يكن إلا مسودة تعلم من خلالها فقط أدوات اللغة السينمائية وتمكن منها، ليوظفها فيما بعد في أفلام أكثر نضجًا.
يجسد “الدائرة” معاناة المرأة في كل بقاع العالم، ولا يتناول بالضرورة أوضاع المرأة الإيرانية، فالمرأة بل الرجل أيضًا محاصران في حياتهما بدوائر
التقى جعفر زميله المخرج سيف الله داد، الذي كان يشغل منصب نائب وزير الثقافة للشؤون السينمائية، وتمخض لقاؤهما عن مصالحة ودية، وافق على إثرها نائب الوزير الإيراني على منح الموافقة لإنتاج فيلم “الدائرة”، إلا أنه بعد انتهاء عمليات التصوير وإعداد الفيلم للعرض السينمائي، خشى المسؤولون في وزارة الثقافة أن يتسبب عرض الفيلم في تقليص رصيد الإصلاحيين السينمائيين وتحجيم دورهم في السياسة الإيرانية، فامتنعوا عن الموافقة على عرض الفيلم في صالات طهران.
لكن بناهي كان قد حصل على موافقة حكومية بالفعل لعرض الفيلم، ليكون ممثِّلًا للسينما الإيرانية في مهرجان البندقية الدولي، الذي كان بمثابة نقلة في نظرة الأكاديمية الأوروبية إلى صناعة السينما الإيرانية الحديثة، خاصة تحت سياسات خاتمي، وحصد الفيلم بالفعل جائزة الأسد الذهبي الأبرز للمهرجان.
الحياة عند جعفر بناهي مثل تجوال في حلم، من خلال رقصات صوفية تعبّر عن حركة الوجود، فكل حركة في الكون هي رقصة، وتمثل حركة الرقص الدورانية المحورية حركة الحياة، تتجلى تلك الرؤية في سينما بناهي في فيلمه “الدائراة” الذي يرسم معاناة ومِحن المرأة المكافحة في كل أرجاء الأرض.
يجسد “الدائرة” معاناة المرأة في كل بقاع العالم، ولا يتناول بالضرورة أوضاع المرأة الإيرانية، فالمرأة بل والرجل أيضًا محاصران في حياتهما بدوائر، قد تضيق هنا وتتسع هناك.
يبدأ فيلم “الدائرة” بفتاة تأتي إلى الحياة رضيعة، لا تجد من ينتظرها، وامرأة حامل تهرب من السجن تحاول عبثًا إجهاض جنينها، وأخرى تبحث عن مأوى لطفلها فتتركه على قارعة الطريق، والثالثة تجرها الظروف القاسية للرذيلة والبغاء، ثم يجتمعن كلهن في النهاية ليشكلن دائرة مغلقة على مشاكلها الأزلية التي لا تُحل.
ذلك الاضطهاد الذي تعانيه المرأة في إيران، يوحي لجعفر ليخرج فيلمًا طريفًا اسمه “التسلل“، والاسم مأخوذ من قانون كرة القدم الشهير، وهو عن مجموعة من الفتيات اللواتي يرتدين ملابس الأولاد من أجل الذهاب إلى مباراة كرة قدم، وقد فاز الفيلم بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين.
وفي فيلمه “ذهبي قرمزي” الذي كتبه عباس كيارستمي بنفسه، يعرض بناهي حياة أحد المحاربين المخضرمين في الحرب الإيرانية العراقية، الذي تعرّضه الحياة لسرقة مجوهرات بشكل خاطئ، فيصور حياة الجريمة التي نادرًا ما تتعرض لها الأفلام الإيرانية، من خلال ذلك المحارب الذي هو أيضًا عامل توصيل بيتزا، وخلال رحلته في طهران يكشف تفاوتات هائلة في الثروة والامتيازات والسلطة.
تاكسي الجمهورية
تكمن العبقرية السينمائية لبناهي، كما وصفها المخرج المسرحي بيتر سيلارز، بالعمل وفقًا لتقليد المجسمات المصغرة الفارسية، فيمكنه القيام ببعض الإيماءات الصغيرة التي تمثل كونًا كاملًا، وداخل تلك المجسمات الصغيرة، كسلسلة من سيارات الأجرة، يمكنك أن ترى صورة لبلاده بأكملها.
في أحد المشاهد من فيلمه “تاكسي“، حيث يؤدي المخرج جعفر بناهي دور سائق التاكسي أيضًا، تتلو ابنة أخته الصغيرة مانيفستو صناعة الأفلام في إيران، الذي يحتوي على: احترام الحجاب الإسلامي وتجنب الاتصال بين الرجال والنساء وتجنب مناقشة القضايا السياسية أو الاقتصادية وتجنب الواقعية الدنيئة التي تروج لصورة سيئة عن إيران في الخارج، فيبتسم جعفر ويناقشها في صعوبة الالتزام بتلك القواعد.
فيلم “تاكسي” هو فيلم يتأمل في السينما، ويوبخ القيادة الإيرانية بينما يفعل ذلك، ويحتفل بحياة المواطنين، وهو امتداد لسلسلة أفلام جعفر بناهي الممنوعة منذ عام 2010، بعدما تم اعتقاله وإدانته بارتكاب دعاية مناهضة للحكومة.
وبعد خروجه من السجن مُنع من صناعة الأفلام لمدة 20 عامًا، إلا أنه واصل إنتاج أفلامه بشكل غير رسمي، دون تصريحات وموافقة من الحكومة، فيستخدم ممثلين هواة وعددًا قليلًا من الكاميرات الصغيرة داخل سيارة، وبتلك الأفلام الممنوعة في إيران، يستطيع جعفر حصد الكثير من الجوائز الأكاديمية عالميًّا.
بينما كان يتزايد الاهتمام الدولي بإيران بسبب الاتفاق النووي، كان فيلم “تاكسي” يقدم لمحةً نادرةً عن قطاع عريض من المجتمع الإيراني، فعلى مدار يوم كامل، يقود السيد بناهي الركّاب حول طهران، يمثلون أطياف المجتمع الإيراني، رجل مصاب ومهرّب أقراص DVD ومحامية لحقوق الإنسان وامرأتان كبيرتان في طريقهما لزيارة ضريح ديني.
الفيلم يفتش عن 3 وجوه للمجتمع، جميعها تشترك في قمع المرأة
ينتج جعفر في فيلم “تاكسي” فيلمًا وثائقيًّا بأسلوب سينمائي، فالأشخاص الذين يشاركون في الفيلم يعبّرون عن ذواتهم الحقيقية، إلا أنهم يعيدون تمثيل شخصياتهم من جديد أمام الكاميرا.
وأبرز تلك الشخصيات في فيلمه هي المحامية نسرين ستوده، أحد كبار محاميي حقوق الإنسان في إيران، التي طلب منها جعفر المشاركة في جولة بالتاكسي، وتحدثا معًا عن نضالها واستجوابها في السجن، ما جعل نسرين تصف مشاركتها بالفيلم، بأنها أشبه بعصيان مدني.
إن فيلم “تاكسي” سبّب الكثير من القلق للرقابة السينمائية الإيرانية، التي أبدت اعتراضها على عرضه في مهرجان برلين، وقد عبّر عن ذلك حجة الله أيوبي، رئيس مؤسسة السينما التابعة للحكومة الإيرانية، بأنه يعبّر عن حالة كبيرة من سوء الفهم لإيران حين يحتفى بصانع أفلام محظور عمله، وقد حصل فيلم “تاكسي” على جائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين في النهاية.
ثلاثة وجوه
في فيلمه الذي أنتجه عام 2018، “ثلاثة وجوه“، يستكشف بناهي استكشافًا مؤثرًا وممتعًا للقمع داخل إيران، ويقوم بناهي ببطولته بنفسه كعادة تسربت لأفلامه منذ منعه من صناعة الأفلام.
يقوم بناهي في الفيلم برحلة برية مليئة بالأحداث إلى الريف الشمالي لغربي إيران، لمعرفة مصير الفتاة مرضية رضائي، التي منعتها أسرتها من حلمها بالتمثيل وأجبروها على ترك شغفها والزواج، وأيضًا كانت قد تعرضت للخذلان من الممثلة بهناز جعفري التي كانت بإمكانها مساعدتها، إلا أنها تخلت عنها، ولذلك انتحرت في مقطع فيديو.
ومن أجل اكتشاف حقيقة ذلك الشريط هل حقيقي أم مزيف، ينطلق جعفر وبهناز في رحلة بجبال أذربيجان، التي هي مسقط رأس بناهي نفسه، يستقبلهما القرويون بكرم ضيافتهم المعروف، لكن حينما يعلمون أنها جاءا من أجل تلك الفتاة، يبدأون في الابتعاد عنهما، فتلك الفتاة وأسرتها تعرضوا للنبذ الاجتماعي في قريتهم.
وفي خضم تلك الرحلة في البحث عن الفتاة مرضية رضائي، يكتشف جعفر منبوذة أخرى هي إحدى الراقصات في عصر الشاه، التي عزلتها القرية والدولة عن المجتمع، وجعلوها محبوسة في مجتمعها لأنها تجلب العار للجميع.
يفتش الفيلم عن ثلاثة وجوه للمجتمع، جميعها تشترك في قمع المرأة، وهي القضية التي تشغل بال جعفر بناهي ولا ينفك عن مناقشتها في أفلامه.
وما زال جعفر ينتج أفلامه ممنوعًا ومعتمدًا على جهوده الشخصية وجهود أصدقائه في الاشتراك ببطولة أفلامه، فذلك الحظر المفروض على جعفر لم يكن كافيًا لتغيب شمس الحقيقة عن سينماه.