الخلافات بين الكبار يدفع ثمنها الصغار، لكن هذه المرة لم يدفع الصغار وحدهم الثمن وإنما الأمهات المطلقات كذلك، اللواتي انفطر قلبهن على أبنائهن منذ بداية جائحة كورونا قبل عامين تقريبًا، والتي اتخذ منها الآباء حجة لمنع الأمهات من رؤية أبنائهن.
نوع من العقاب
“عندما بدأ الفايروس بالانتشار وبدأت إجراءات الحجر الصحي، كان أبنائي عند والدهم في بيت العائلة، وطلبت رؤيتهم مرات عديدة لكنه كان يرفض بحجة الخوف عليهم من الإصابة بالفيروس”، تقول سعاد عقل (42 عامًا)، التي انفصلت عن زوجها قبل حوالي 5 سنوات، وبحكم السن القانوني للصغار حكمت المحكمة بحضانة طليقها لهم، وسمحت لها بمشاهدة أسبوعية يحددها الوالد.
وتضيف: “المصيبة أن الأمر لم يتوقف عند منع أبنائي من زيارتي، بل إن والدهم وعائلته كانوا يرفضون ان أحدثهم عبر الهاتف أكثر من 5 دقائق كل أسبوع”.
وتذكر سعاد أنها توجهت أكثر من مرة لمنزل عائلة طليقها لرؤية أبنائها، لكن والدته كانت تدعي أن الصغار نائمون أو أنهم خرجوا لزيارة عمتهم، متسائلة: “زيارة عمتهم لن تسبب لهم الإصابة بفيروس كورونا ولكن زيارتي تعرضهم للخطر؟ في أي عرف هذا وفي أي شرع؟”.
وعن مشاهدة أبنائها سابقًا قبل انتشار الفيروس، تشير إلى أن المشاهدة كانت تخضع لحكم المحكمة، فكان زوجها يحضر الأبناء الثلاثة لها ساعة واحدة مساء كل جمعة، ويرفض رفضًا قاطعًا مبيتهم عندها كنوع من العقاب لها لأنها رفعت دعوة طلاق عليه.
“خلفتي كلها بنات”
لم تكن سعاد هي الوحيدة التي حُرمت رؤية أبنائها، خلال فترة الإغلاقات والحظر بسبب جائحة كورونا، حيث ترتّب عن قرار الإغلاق تعطيل عمل المحاكم الشرعية، وإغلاق المؤسسات التي كانت تفتح أبوابها لإتمام عملية “مشاهدة” الأطفال لأحد الأبوين المنفصلين.
تسبب ذلك بخلق مشكلة حقيقية للطرف الذي يتلقى الزيارة، حتى لو كان يملك قرار محكمة وتنفيذه، حيث تعرضت العديد من الأمهات لابتزاز الطرف الآخر، من خلال تعمد العديد من الآباء حرمان الأم من مشاهدة أبنائها أو حتى سماع أصواتهم هاتفيًّا.
تقول أم شهد (45 عامًا): “زوجي وبحكم المحكمة أخذ بناتي الستة فيما أنا أربي طفلتي الصغرى التي أنجبتها في منزل عائلتي قبل قرابة سنة، وامتنع أبوها حينها حتى من زيارتها ورؤيتها، حتى إن والدته أيضًا رفضت المجيء لمشاهدتها”.
وتضيف: “والدة زوجي وأخواته أيضًا كلهم رفضوا مباركة الصغيرة، فأنا بالأساس سبب طلاقي هو أنني لا أنجب سوى بنات، حسب حديثهم، وهم يريدون ولدًا وكأنني أنا المسؤولة عن ذلك”.
خلال فترة الحجر طالبتُ برؤيتهن أو سماع صوتهن، لكنني لم أجد على الجانب الآخر أي استجابة لطلبي.
ولجأت أم شهد للمحاكم مطالبةً بحقها في استضافة بناتها، وبالفعل حصلت على حكم وتنفيذ للقرار، لكن بعد إعلان الإغلاق في غزة بسبب كورونا منعوها من رؤيتهن أو استضافتهن، حتى القضية التي رفعتها لحضانة طفلتها ذات الـ 3 أعوام تعطلت بسبب إغلاق المحاكم.
وتشير أم شهد إلى أن بناتها كنّ يحدثنها سابقًا عن تعامل عائلة والدهم معهن، كيف يتعرضن للعقاب والتهديد والضرب، ويتم معاملتهن كخادمات، لكنها لم تكن تستطيع فعل شيء سوى البكاء واحتضانهن.
وتقول: “خلال فترة الحجر طالبت برؤيتهن أو سماع صوتهن، لكنني لم أجد على الجانب الآخر أي استجابة لطلبي، فجلست وحيدة أشاهد صورهن على هاتفي وأحتضن طفلتي الرضيعة، ومرة بكيت وشعرت بالوحدة حتى انهرت وهرع بي أهلي إلى المستشفى”.
تدخُّل نفسي
وفي محاولة منها لتجاوز الصدمة النفسية والعاطفية التي تمر بها، لجأت أم شهد لمركز حياة التابع لمركز الأبحاث والاستشارات القانونية للمرأة، في محاولة منها للحصول على الدعم النفسي خلال تلك الفترة، حيث كان يعمل المركز بنظام الطوارئ.
وتقول ليندا أبو مرسة، الأخصائية الاجتماعية بالملتقى الأسري التابع للمركز: “بعد إعلان الإغلاق التام في غزة، اضطررنا للعمل بنظام الطوارئ، حيث لم يكن ممكنًا التوقف عن العمل بشكل نهائي، وقد تلقينا عشرات الاتصالات من النساء، وكان لا بد من تعديل خططنا لتوائم تلك الحالة الطارئة”.
وتضيف: “فيما يخص المشاهدة، بالطبع توقفنا عن عقدها في المركز، وفكرنا بطرق بديلة توائم الوضع الحالي، حيث لجأنا في المركز كفريق من الأخصائيات بعقد مشاهدات من خلال الإنترنت على تطبيق واتساب”.
مكملةً: “بدأنا بالتواصل مع أهالي الأطفال، بعضهم استجاب وآخرون رفضوا، بالطبع تفهمّنا خوفهم على أبنائهم ورفضهم لإرسالهم للمركز، لكن رفض التواصل على الإنترنت ظهر كأنه تصفية حسابات قديمة”.
استمرت أبو مرسة وزميلاتها بالتواصل مع الأهالي لإقناع الرافضين منهم، بعضهم عاد عن قرار رفضه واستجاب، وآخرون أصروا على رفضهم، حيث تقول: “تواصلت مع أحد الأزواج الرافضين، وأخبرني أن طليقته كانت حرمته من التواصل مع أبنائه خلال عدوان سابق على غزة، والآن الأبناء في حضانته ويريد أن تذوق ما أذاقته إياه سابقًا”.
وتشير إلى استغلال بعض الأطراف توقف عمل المحاكم، وتوقف عمل الشرطة القضائية، بحيث يتوقف التنفيذ الجبري لقرارات المحكمة السابقة، ورفضهم للوساطات الودية، وكل ذلك انعكس سلبًا على نفسية الأمهات اللواتي نحاول من خلال المركز تنفيذ برامج دعم نفسي لهن من وقت الى آخر، ليتجاوزن صدمة البعد عن الأبناء.
“أنا دفعت الثمن”
سوزان (33 عامًا) هي الأخرى تعيش الكابوس ذاته، فقد باتت معلقة في منزل عائلتها منذ سنة و4 أشهر، حيث حرمت هي الأخرى من مشاهدة أطفالها الستة طيلة الفترة الماضية، بسبب مشكلة لا علاقة لها بها، سوى أن شقيقها متزوج شقيقة زوجها، وبينهما مشاكل دفعت زوجها بعد ضغوطات من عائلته الى طردها لبيت أهلها، وحرمانها من مشاهدة أبنائها.
دفعت ثمن مشاكل لا علاقة لها بي، وطردت من منزلي وحرمت من رؤية صغاري، وهم أيضًا حرموا من حضني ولا ذنب لي في كل ذلك.
تقول سوزان: “تدخلت عدة وساطات ومخاتير لحل المشكلة، لكن لم يستطع أحد التأثير على زوجي وعائلته، وبعد معاناة، وافق على إرسال الأطفال مرة واحدة أسبوعيًّا لعدة ساعات فقط لبيت أهلي لأراهم لكنه عاد وامتنع”.
وتضيف: “أنا دفعت ثمن مشاكل لا علاقة لها بي، وطردت من منزلي، وحرمت من رؤية صغاري وهم أيضًا حرموا من حضني، ولا ذنب لي في كل ذلك”.
تواصلت سوزان مع الأخصائية أبو مرسة، التي حاولت بدورها التدخل والحديث مع زوجها للسماح لها برؤيتهم، لكنه تحجج بخوفه عليهم من الإصابة بفيروس كورونا، كما أنه رفض أن تتواصل معهم هاتفيًّا أو عن طريق الإنترنت.
المشاهدة أون لاين
خلال فترات الاغلاق المتقطعة، واجهت أخصائيات الملتقى الأسري في مركز حياة العديد من الصعوبات والمعوقات، سواء في إقناع أحد الطرفين بالمشاهدة من خلال الإنترنت، أو التحجج بانقطاع الكهرباء لساعات طويلة، أو ضعف في شبكات الإنترنت.
إلا إنهن استطعن تحقيق النجاح مع العشرات من الحالات، في سبيل تمكين الأطفال من مشاهدة الأبوين ولو بالوسائل البديلة، وهو ما كلفهن بذل الكثير من الوقت والجهد، بحسب أبو مرسة.
وتقول: “تعثُّر اللقاء بسبب ظروف كورونا دعتنا للتفكير في بدائل، فكان الحل الأفضل هو الإنترنت والمشاهدة أون لاين، رغم محاولة كثير من الآباء التهرب والتحجج بأنه لا يتوفر لديهم إنترنت، لكننا كنا وبمساعدة الشرطة نضغط لأقصى حد حتى تتوافر المشاهدة الأسبوعية على الأقل”.
الجميل في الأمر، بحسب إفادة أبو مرسة، أن كثيرًا من الأزواج المنفصلين عادوا لبعضهم بسبب المشاهدة عبر الإنترنت، حيث فتحت مجالًا للحديث بينهما، وعاد الجو الأسري حتى لو عن بُعد، ما دفعهم للتفكير مرة أخرى في موضوع الطلاق، حتى قرروا العودة، وهذه تعتبر من قصص النجاح للمشاهدة الإلكترونية، لأنه في المشاهدات الطبيعية يلتقي الآباء أو الأمهات بالأبناء مع غياب الطرف الآخر، لكن في المشاهدة الإلكترونية كان هناك فرصة للالتقاء مرة أخرى.
تدخل قانوني
“نحن يهمنا في المقام الأول مصلحة الطفل، فهو أكثر المتضررين من الحرمان من المشاهدة، لذلك لو رفض أحد الأطراف مشاهدة الطرف الآخر للأبناء فنحن لدينا تدخل قانوني عبر الجهات المختصة”، تقول تهاني قاسم، مديرة مركز حياة.
وتشير إلى أن الشرطة القضائية تتابع شكاوى النساء أو الرجال في المحاكم، وكانت دائمًا جاهزة للتعاون مع محاميات المركز في الضغط على الطرف المتعنت ليسمح بالمشاهدة، وإلا فانه يتم السير بإجراءات قضائية عبر المحكمة.
وتضيف: “كثير من العلاقات الأسرية تحتاج إلى تدخل قانوني، خصوصًا بعد الانفصال في قضايا مثل النفقة والمشاهدة أو الاستزارة، وهذه النزاعات منظورة أمام المحكمة أو صدر بها قرارات وتحتاج إلى متابعة من التنفيذ القضائي، وهنا يأتي دورنا في الدوائر القانونية، أن نتابع تنفيذ هذه القرارات”.
وتؤكد قاسم أن فيروس كورونا بات أمرًا واقعًا، واللجوء إلى الإغلاقات الكاملة من وقت لآخر ليس بالأمر المستبعد، لذلك يطلَب من الجهات القانونية والقضائية المختصة، فرض بدائل عاجلة وسريعة على من يتأخرون أو يماطلون في تنفيذ الأحكام القضائية الأسرية، سواء المتعلقة بالمشاهدة أو النفقة أو الحماية من العنف بكافة أشكاله.