الموت الذي لا أحد يحيط به علمًا، يتكشف سر من أسراره في بلاد الظلم المسترسل. وفي عواصم كتب عليها أن تكون شاهدًا على الصراع بين الحق والباطل، يشهد الموت بكل أمانة لمن قالوا كلمتهم ومضوا. ومثلما فعلوا يفعل، فيقول كلمته فيهم، ويمضي خفيفًا، وبما جاء يرجع، دون أن يختطف الفكرة والقضية.
يكشف الموت للشعوب سرًّا عزيزًا، ولكن أي موت هذا؟ أهو العادي، أم الموت الذي هو قدر أصحاب الموقف؟ لا ريب أنه موت آلاء الصدّيق وأشباهها قبل وبعد، إنه الحقيقة المتمايزة عن الموت المألوف، والفارق بينهما تملؤه المسافة الشاسعة بين السماء والأرض.
فالموت في حالة هؤلاء شهادة ميلاد ثانية، لا تستصدَر من السلطات الحاكمة، وإنما تنبثق عن سلطة أقوى هي بقايا الراحل نفسه، كلمته، وفعله.
الموت الذي ختم حياة آلاء الصدّيق مجازًا، هو نفسه الموت الذي يخلد الذكرى ويحفظ الأسماء ويثبت السير في الوعي الجمعي، وهو نفسه الموت الذي ينور الوجوه ويعطر الأجساد ولا يفنيها.
ترحل آلاء التي قالت “لا” للظلم، وقد سبقها كُثر، وسيلحق بهم مثلهم، والمفارقة أن موتهم ما هو إلا نفخ في الصور، ليلتفت الجميع إلى مشهد مهيب يرى فيه إنسانًا عربيًّا مناضلًا قد صار رمزًا بعد إذ رحل، فليس الموت ها هنا إلا سطوع نجم ظن خصومه أنه يومًا بالموت يأفل.
آلاء الصدّيق في ضمير من لم يعرفها
19 حزيران 2021، تاريخ طوى الصفحة على 33 عامًا عاشتها آلاء الصدّيق، جراء حادث سير في بريطانيا. خبر يشبه مئات الأخبار الواردة يوميًّا على امتداد العالم العربي. الطبيعي جدًّا عقب حادثة كهذه أن تحزن عائلة آلاء وأصدقاؤها ومعارفها. أما غير الطبيعي ألا يحزن سواهم، وهذا ما لم يحدث.
آلاء الصدّيق، إماراتية المولد، صارت يوم ماتت ابنة كل البلاد العادلة التي تنسجها في مخيلتها الشعوب العربية.
آلاء الصدّيق، المناضلة عن حق والدها الشيخ محمد، المغيّب في معتقلات الرأي الإماراتية منذ العام 2012، صار يوم ماتت والد كل حر يرفض ظلم أبيه بفطرته السليمة.
رفضت أن تحسب عليها سقطات أخلاقية ووطنية ودينية، فرفضت تطبيع حكومة بلادها، وصار رفضها كلمة مشرفة تحسب لها.
آلاء الصدّيق، صوت جميع المنسيين خلف قضبان أبوظبي ثمنًا لمناداتهم بالإصلاح السياسي والتشريعي، صار جميع الشرفاء صوتها يوم ماتت.
آلاء الصدّيق، التي لجأت وعائلتها إلى بريطانيا بعد تضييق السلطات الإماراتية، رجعت عقب موتها إلى مسقط رأسها صداعًا يؤرق نظام بن زايد، بعدما فضح رحيلها سوءات الدولة.
آلاء الصدّيق، الناشطة الحقوقية ومديرة مؤسسة “قسط”، قضت العقد الأخير من حياتها في الدفاع عمن قالوا “لا” في وجه سلطان إماراتي، فصارت يوم ماتت رمزًا لكل “لا” واقفة بعز وشموخ في حلق كل جائر.
آلاء الصدّيق، التي رفضت أن تحسب عليها سقطات أخلاقية ووطنية ودينية، فرفضت تطبيع حكومة بلادها، وصار رفضها كلمة مشرفة تحسب لها بعد موتها.
صارت هي كلها بما قالته وفعلته رمزًا، ليس فقط عند من عرفها وكان على تماس معها في قضية معتقلي الرأي، وليس فقط عند النخبة المفكرة، وإنما عند الشارع العربي الغارق في البحث عن الخبز والماء وسرير في مشفى، لكنه يوم يسمع بموت ابنة له مقاومة، فإنه يذكرها ويحفظ اسمها ويصيّرها رمزًا بطلًا.
هذا الشارع راح يغرّد باسمها #آلاء_الصديق، ويلعن من حرمها صوت والدها 8 أعوام، ويعود إلى أرشيف كتاباتها ونشاطاتها، وينشر قصتها ويتبنى قضيتها، ويألم لفقدها، هو الذي لم يسمع بها من قبل ولو همسًا، لكنه موت المناضل وهذا سره.
الساروت، شهيد يزفّه كل يوم محبون جدد
“يا يما بتوب جديد زفيني جيتك شهيد”، ولا يزال الثوب جديدًا على الرغم من انقضاء أعوام على أنشودة الدم. وما كان بالإمكان أن يحفظ ثوب الشهيد بريقه لو لم يكن الموت هو الموت الآخر غير الذي يجيء كل يوم، الموت الذي يقصّ على الأحياء حكايات الخلود وأسراره.
إنها حكايات عجب، يخرج الساروت حرًّا عزيزًا من حصار مروع، دام زمنًا تحمل فيه الحرة وتضع حملها وتفطمه. وسيظل الشهيد يخرج على الناس بعد موته حرًّا عزيزًا يذكرهم بأكثر ما كان يحن إليه، فيقول: “حانن للحرية حانن”، كي لا ينسوا أن يحنّوا.
ولم ينسوا أبدًا، فصوت الساروت لا يزال صوتًا بكرًا في آذانهم، وسمرة الساروت لا تزال سمرةً بكرًا في وجوههم، وسلاح الساروت لا يزال جمرًا بكرًا في سواعدهم.
فالساروت لم يمت إلا ليحيا، ولم يلحق الساروت بقوافل الشهداء إلا ليعرج بها في البلاد. يمر في حمص ودرعا وإدلب وحماه، يقطع سوريا كلها مشيًا على قلبه، ويرفع أصابع نصر فوق القصر كما أراد، فتراه الأمة من قريب ومن بعيد يصدح فوق موته وموت أخوته ورفاقه، فتحبه وهي التي لم تكن تعرفه، فالأمة تحب من لا يخاف، ومن استقبل عدسة الكاميرا بوجهه يوم كان الجمع خائفًا.
قال الساروت يومًا في مقابلة معه وهو يروي انضمامه إلى الثورة في بداياتها: “بما أني رياضي ومتعود على الجماهير، قمت على الكتاف فورًا”، وما زال إلى اليوم محمولًا على الأكتاف.
ارتقى الساروت، فعلمت الأمة أن على هذه الأرض كان ثمة الساروت. ارتقى الساروت بعد سنوات على انسحابه من فريق نادي الكرامة التابع لنظام الأسد، ورفضه المساومة على موقفه مقابل أي مغريات وعروضات، فعلمت الأمة أن في الثورة السورية كان ثمة حارسها وحامي أسوارها والأمين عليها.
ارتقى الساروت صاحب الصوت الجبلي المبحوح، فعلمت الأمة أن في الثورة السورية كان ثمة بلبلها، الذي ما انفك يلهب حماسة السوريين ويفرحهم ويبكيهم.
8 أعوام قضاها الساروت ممتشقًا سلاحه، منشدًا بديع ما يقال في مقام الرباط. انضم للثورة وهو في الـ 19 من عمره، واستشهد قبل أن يكون الرجل الثلاثيني، ارتقى عشرينيًّا ليكبر في عين الأمة جمعاء، ويكون رجلًا بالنيابة عن كل من عمروا، عمروا ولكن ليس إلى فوق. أما الساروت فارتقى إلى عُلا، وبقي ينشد للثورة ويفتح بيت النار على من قتل شعبه وشرده.
لم يمت الساروت يوم مات، بل مات آخر احتمال لاندثاره. استشهد الساروت في ريف حماه بموطنه سوريا، وما هي إلا ساعة فقط حتى صار رمزًا في ضمير الأمة من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، صار فلسطينيًّا في أحياء القدس القديمة مع “جنة يا وطنا”، وصار جزائريًّا وهو يتغنى بثورتها، وصار سودانيًّا، ومصريًّا، وصار كل عربي وهو ينشد آخر ما أنشد محذرًا الطواغيت: “نسيوا إذا الشعب انغلب ما عاد سيف يفيد”.
قال الساروت يومًا في مقابلة معه، وهو يروي انضمامه إلى الثورة في بداياتها: “بما أني رياضي ومتعود على الجماهير، قمت على الكتاف فورًا”، حصل هذا قبل 10 أعوام، وحتى اللحظة لا يزال الساروت محمولًا على الأكتاف، والعجيب أن ملايينًا ممن يحملون الساروت اليوم ويألمون لفقده لم يعرفوه وهو حي يرزق، ولم يستمعوا لأناشيده قبل استشهاده، ولم يقرأوا كلمة واحدة عن الثورة السورية وتفاصيلها ومحطاتها العسكرية، لكنه موت المناضل وهذا سره.
باسل الأعرج، يحفظ وصيته من لم يلتقِ به
الموت موتان، موت ساكن لا يشعر به من يجلس معه في غرفة واحدة، وموت كالبركان ينفجر فتصل حممه إلى أقصى أقاصي القرية النائمة.
وما أكثر من كانوا نيامًا يوم كان المثقف يشتبك مع جيش الاحتلال مدبرًا غير مقبل، قبل أن يستفيقوا جميعًا على صوت موته الهدار قرب بيت لحم.
الصيدلاني الثلاثيني كان قد فطن مبكرًا لأنجع دواء للاحتلال، فدأب على أن يصل إلى الفلسطينيين كافة، ليقول لهم: “بدك تصير مثقف، بدك تصير مثقف مشتبك، إذا ما بدك تكون مشتبك، لا منك ولا من ثقافتك”، ثم عمل بما قال فاشتبك وارتقى.
وباستشهاده وصل إليه جميع الناس، ورأوا كيف تكون غرفة الاشتباك صغيرةً جدًّا إلا على بارودة، كُتب، دم، حذاء في وجه الاحتلال والتنسيق الأمني، ووصية أعادوا قراءاتها مئات المرات حتى حفظوها عن ظهر قلب.
استشهد باسل قبل 4 أعوام، دون أن يغيب، فمقالاته ومدوناته وتوثيقه الشفوي لمراحل الثورة الفلسطينية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وصولًا إلى قيام الاحتلال، كلها صارت مزارًا للفلسطينيين في الفضاء الإلكتروني داخل الأراضي المحتلة وفي الشتات، ولأحرار الأمة العربية والعالم.
فعلوا هذا بعد رحيله، بحثوا عن اسمه وتاريخ مولده وتاريخ استشهاده، وتخصصه وصوره وكلماته ورحلاته السياحية التثقيفية، عرفوه كما يجب أن يعرفوا مثقفًا مشتبكًا، وفهموا رسالته على الوجه الذي أراده منهم، حين ختم وصيته متحدثًا عن أسئلة الشهادة بـ”وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهور طويلة، إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أجيب أنا عنكم، فلتبحثوا أنتم”، فيبحثون كما أمرهم ويجتهدون، لأن باسل استحال رمزًا في قلوبهم وعقولهم لسمي سماه هو “المثقف المشتبك”، وهم الذين لم يلتقوا به قط، لكنه موت المناضل وهذا سره.