إنها ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤول عراقي عن الفساد، لكنها المرة الأولى التي يخرج فيها التصريح من رئيس الجمهورية برهم صالح بأرقام محددة عن حجم الفساد المريع الذي وصل إلى 150 مليار دولار منذ 2003، وهو رقم يكفي لإعادة البنى التحتية المدمرة في البلد مرتين!
آثار الفساد، تعدت الاقتصاد لتصل إلى الناحية الاجتماعية، ما صنع أمراضًا لا يمكن حلها بسهولة حتى مع افتراض حل المشكلة الاقتصادية لاحقًا.. فما أبرز هذه الآثار؟
الفقر: نحو مجتمع محطم
يُعرف الفقر بأنه تدني مستوى المعيشة للأفراد أو الأسر، أو بعبارة أخرى الحرمان المادي الذي تتجلى أهم مظاهره في انخفاض استهلاك الغذاء كمًّا ونوعًا، وتدني المستوى الصحي والتعليمي والوضع السكني، وكذلك الحرمان من امتلاك السلع المعمرة (أو الدائمة) والأصول المادية الأخرى، وفقدان القدرة على مواجهة الحالات الصعبة كالمرض والإعاقة والبطالة والكوارث والأزمات.
أما خط الفقر، فهو القيمة الاقتصادية المحددة لتصنيف الشخص فقيرًا من عدمه، وهو المبلغ اللازم إنفاقه يوميًا على الاحتياجات الضرورية للإنسان العادي، حدد البنك الدولي 1.9 دولار كقيمة يومية للفرد الواحد للإنفاق في مجالات الصحة والتعليم والمعيشة، لكن مؤسسة أوكسفورد حددت عام 2010 نوعًا آخر من الفقر، وهو الفقر متعدد الأبعاد ويشمل معايير التغذية وسنوات الدراسة ووفيات الأطفال ووقود الطهي والتحاق الأطفال بالمدارس والصرف الصحي والمياه والكهرباء وسقف المسكن وملكية الأصول.
في العراق، امتد الفقر لفترات طويلة – وإن كان بنسب متفاوتة – منذ الحصار الاقتصادي المفروض على البلد عقب غزو الكويت
وبناءً على هذه المعطيات، وصلت نسبة الفقر في العراق عام 2020 بحسب تقرير الأمم المتحدة إلى 40%، أي ما يعادل 16 مليون مواطن.
يؤدي الفقر بالنتيجة إلى آثار مدمرة تظل في المجتمع تتناقلها الأجيال، وفي العراق، امتد الفقر لفترات طويلة – وإن كان بنسب متفاوتة – منذ الحصار الاقتصادي المفروض على البلد عقب غزو الكويت عام 1990، وبعد عام 2003، أُضيف إلى هذا العامل، عنصر غياب الاستقرار الأمني وضعف سيطرة الدولة والأجهزة الأمنية، كل هذه العوامل أدت لظهور الكثير من الآفات التي تنخر المجتمع وتقضي على هويته نفسها.
الطلاق
في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، سجل العراق أعلى معدل شهري لحالات الطلاق وبلغت 8245 حالة، بالمجمل سجل العام الماضي أرقامًا مهولة كما تقول فاتن الحلفي، عضو مفوضية حقوق الإنسان (مؤسسة حكومية)، إذ شهد تسجيل 10 حالات طلاق في الساعة الواحدة، بينما بلغت الأرقام الشهر الماضي 62 حالة طلاق في الساعة بواقع 375 حالة في اليوم.
يرى النائب في لجنة حقوق الإنسان البرلمانية قصي عباس أن حالات الطلاق هذه تعود لجملة أسباب في مقدمتها تردي الوضع الاقتصادي وتفشي البطالة، فضلًا عن أسباب اجتماعية وعادات غريبة على المجتمع، ما ساهم بحصول مشكلات أسرية وانحلال اجتماعي لدى بعض شرائح المجتمع.
يتفق المحامي سعيد مرتضى مع الرأي القائل بالتركيز على الظروف الاقتصادية المتردية، خاصة أن طبيعة المجتمع تجعل الزواج فعلًا أوتوماتيكيًا يطلب من الرجل والمرأة القيام به حتى إن كانت ظروفهما غير مناسبة، يقول مرتضى: “لا توجد لدينا إحصاءات عن أسباب الطلاق وأكثرها شيوعًا، لكن يمكنني الجزم أن للأحوال الاقتصادية يدًا في أكثر من 70% من حالات الطلاق”.
التعليم
بحسبب إحصاءات الأمم المتحدة، يستفيد من خدمات هذا القطاع ما نسبته 60% من سكان العراق، أي أن 40% من السكان دون خدمات تعليمية، وتشكِّل هذه النسبة نحو 16 مليون عراقي يفتقر للخدمات التعليمية، يؤدي وجود شريحة كبيرة غير متعلمة إلى آثار سيئة خاصة حين تغيب سيطرة الدولة في كثير من المناطق.
أول آثار هذه المشكلة هو الاحتكام للأعراف العشائرية، ما يفضي بدوره لتغول دور القبيلة وأعرافها في الحياة اليومية، فأصبح من الطبيعي رؤية الفصول العشائرية وما يُسمى “الدكة العشائرية”، كما أصبحت الاشتباكات المسلحة بين القبائل أمرًا طبيعيًا بعد أن اختفت سلطة القانون تقريبًا من البلد.
تختلف نسبة هذه الظاهرة بالطبع بين منطقة لأخرى، ففي المناطق الحضرية التي تعتبر أكثر تعليمًا، تنحسر الظاهرة أكثر وتظهر بصورة واضحة في الأرياف، حيث يكون الفقر متجليًا أكثر وانعدام التعليم كذلك.
خلال عام 2020، سجلت وزارة الداخلية 15 ألف حالة عنف أسري ضد الزوجات أو الأبناء، ويرى مراقبون أن الحالات على أرض الواقع أكبر بكثير من هذه الأرقام
العنف الأسري
خلال عام 2020، سجلت وزارة الداخلية 15 ألف حالة عنف أسري ضد الزوجات أو الأبناء، ويرى مراقبون أن الحالات على أرض الواقع أكبر بكثير من هذه الأرقام بسبب الطبيعة المجتمعية في عدم اللجوء إلى القانون وتغليب الأعراف القبلية والتقصير الحكومي أيضًا، فضلًا عن الضغوط العائلية التي تجبر النساء على القبول بالصلح.
في تحقيق أجراه موقع الحرة، التقى خلاله مجموعة من الناشطين في منظمات المجتمع المدني والباحثين عن ظاهرة العنف الأسري، وجد التقرير أن قلة التعليم والأزمة الاقتصادية تسببا بمثل هذه السلوكيات بحق الشرائح الأكثر ضعفًا في المجتمع مثل النساء والأطفال.
“أدت ثقافة العنف داخل المجتمع العراقي وسيطرة مشاعر اليأس والصعوبات الاقتصادية وحالة الحجر الصحي وصغر أحجام المنازل بالنسبة للعوائل الفقيرة وتكدس أفراد العائلة في أماكن ضيقة إلى ازدياد تسجيل حالات العنف، المقلق هو أننا نرى رأس جبل الجليد فقط، قال أحد الناشطين المدنيين إن ثقافة عدم التعامل مع الأطفال بعنف “غير شائعة” في المجتمع العراقي، مضيفًا أن إحدى مراجعاته سألته عن العمر المناسب للبدء في ضرب الأطفال لأنها تعتقد أن التعنيف اللفظي غير كافٍ بحقهم” يقول التقرير!
الانتحار
ربما يكون الانتحار من أكثر الظواهر وضوحًا نتيجة للفقر المستشري في العراق، فقد كشفت مفوضية حقوق الإنسان في العراق، ارتفاع الوفيات جراء الانتحار عام 2020 بنسبة 8.5% على أساس سنوي، في تصاعد متكرر للعام الرابع على التوالي.
فاضل الغراوي، عضو المفوضية (وهي مؤسسة رسمية مرتبطة بالبرلمان)، قال: “المفوضية سجلت تصاعدًا في حالات الانتحار بالعراق خلال 2020، فبلغت 644 حالةً، مقارنة بـ594 حالة في 2019، فيسجل العراق ازديادًا في حالات الانتحار للعام الرابع على التوالي، إذ سجلت البلاد وفاة 519 شخصًا بسبب الانتحار في 2018، و422 حالة في 2017.
أما عن أهم أسباب الانتحار لفت الغراوي إلى أنها تنوعت بين الأسباب الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، إضافة لعامل الفقر وتداعيات الحروب وتدهور واقع حقوق الإنسان، ويجب اتخاذ إجراءات عاجلة لتعزيز وحماية حقوق الإنسان وتوفير فرص العمل وتأمين الخدمات والعيش الكريم والسكن الملائم لدرء خطر الانتحار.
يقول موقع المونيتور في تحقيق له عن علاقة الفقر بالانتحار في العراق “التعقيدات السياسية وظروف البلاد والسلطات الحاكمة التي تدير البلاد دون تحقيق رفاه المواطنين أو حماية حقوقهم كلها ظروف تؤدي إلى الانتحار، وبالتالي، هناك حاجة إلى مرحلة سياسية قادرة على تبديد هذه الأسباب”.
تؤكد تقارير مؤسسات الدولة العراقية أن الشباب هم الفئة الأكبر بين حالات الانتحار، وتشير إلى أن الأسباب عادة ما تكون البطالة وعدم وجود أمل في إصلاح حقيقي من شأنه تحسين أوضاعهم في البلاد.
لا يقتصر الانتحار على فئات اجتماعية معينة، فهو يشمل الجميع، ففي 8 من سبتمبر/أيلول أعلن مسؤول لواء سنجار بمحافظة نينوى محما خليل انتحار أربعة شبان نازحين خلال الأيام الأولى من الشهر، قال أستاذ علم النفس السياسي في جامعة صلاح الدين في أربيل فارس كمال نظمي: “المؤشرات المتوافرة تشير إلى أن هناك زيادة حديثة في عدد الحالات، خاصة بين الشباب في المحافظات التي شهدت احتجاجات واسعة النطاق منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019 دون تحقيق أي منها.
كانت المطالب تتعلق بالتغيير السياسي واستعادة الأمة الموحدة وغرس قواعد العدالة الاجتماعية، وأضاف نظمي “الوضع بشكل عام كارثي مع عدم وجود ضوء في نهاية النفق، التغيير مستحيل، شباب العراق عاجزون عن السيطرة على مصائرهم ومصير بلدهم، يعتقدون أنهم تعرضوا للخداع والخيانة والقمع من النظام السياسي، لقد فقدوا القدرة والإرادة على المثابرة والمواجهة، ونتيجة لذلك، فإنهم يعانون من مشاكل نفسية عميقة عن معنى الحياة نفسها، وبالتالي ينتحرون كحل”.
الانحدار السياسي والاقتصادي ينعكس بصورة كبيرة على المجتمع وسلوكياته
عدة أجيال من أجل التغيير
ليس كل المجتمع العراقي فقيرًا وأميًا ويمارس العنف الأسري ويفكر بالانتحار بالطبع، لكن هذه الظواهر أصبحت جلية في البلد أكثر من البلدان المجاورة، رغم توافر الكثير من الموارد غير الموجودة هناك. تكمن المشكلة في هذه الآفات أنها تأخذ وقتًا طويلًا لاقتلاعها من المجتمع، فاللجوء إلى العشيرة مثلًا أمر مستفحل منذ أواخر الدولة العثمانية، وبقي موجودًا في كثير من الأزمنة حتى حين كان العراق يشهد تنمية اقتصادية وعلمية خلال السبعينيات، بل وحتى حين كان العراق تحت القبضة الأمنية في الثمانينيات والتسعينيات.
ظاهرة العنف الأسري كذلك، فلن يتغير سلوك المعنفين بمجرد تغير الأوضاع الاقتصادية – على فرض أنها ستتغير مباشرة -، يحتاج الأمر إلى سنوات عديدة من البناء في أجواء بعيدة عن الحرب والاحتقان السياسي لظهور جيل متعلم مؤمن بسيادة القانون لا أعراف العشائر!
يشير الواقع على الأرض للأسف إلى عكس ذلك، فالانحدار السياسي والاقتصادي ينعكس بصورة كبيرة على المجتمع وسلوكياته، ومحاولة إنكار ذلك بالحديث عن عراقة المجتمع وتاريخ العراق ليس إلا محاولة لحجب الشمس بغربال، نعم لا تزال هناك قيم مجتمعية يمكن البناء عليها، لكن تلك القيم في تناقص إلى حد الانقراض.
الفئات التي تقوم بعملية الإصلاح نفسها تعاني إما من الاضطهاد وإما أنها ليس لديها ما تقدمه للجيل الجديد الذي يتربى على مشاهدة كل هذه التشوهات المجتمعية، فيما تنشغل شريحة ثالثة بنقاشات تاريخية عقيمة تعود إلى 1400 عام، ولت وانقضت حتى من كتب التاريخ، ولم تبق إلا في عقول من يعتاشون عليها بخداع البسطاء، وبين هذا وذاك، ينحدر القطار المجتمعي بسرعة نحو الهاوية، بينما ينشغل البعض بطمر الفضيحة والتغطية عليها.. تمامًا كما يحصل مع كل امرأة تُضرب ظلمًا، ومع كل إنسان ينتحر، كذلك يكون التشوه المجتمعي: فلا هي أخلاق الإسلام ولا مروءة الجاهلية!