ترجمة وتحرير: نون بوست
في الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2019، قُتل العشرات من المتظاهرين في العاصمة العراقية بالرصاص، حيث تُلقي الروايات الرسمية باللوم على قنّاص مجهول. في المقابل، كشف التحقيق الذي أجراه موقع “ميدل إيست آي” البريطاني هوية القاتل الحقيقي.
جدّت الحادثة في وقت مبكر من صباح يوم الجمعة في الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2019 عندما ساد الهدوء أخيرًا في الشوارع بالقرب من النخيل مول الراقي شرقي بغداد. قبل ساعات، اجتاح مئات المتظاهرين الشوارع في اليوم الثالث من المظاهرات الحاشدة المناهضة للحكومة في العاصمة، في المدن الواقعة في الجنوب، مطالبين بإنهاء الفساد وتوفير المزيد من الوظائف وتحسين الخدمات العامة. وفي الوقت الراهن، ينام عشرات المتظاهرين تحت جسر محمد القاسم، بعد أن منعتهم قوات الأمن من الوصول إلى ميدان التحرير، مركز الحركة على مستوى البلاد.
على الساعة السادسة والنصف، توقفت عربة توك توك صفراء بالقرب من جدار الانفجار الذي أقامته قوات الأمن بالقرب من محطة وقود لإغلاق الطريق الرئيسي المؤدي إلى الميدان الذي كان يركبه ثلاثة أشخاص. غادر اثنان السيارة يحملان حقائب ظهر زرقاء صغيرة، ثم كسرا السلاسل المحيطة بالأجزاء المحيطة بالجدار الأسمنتي المتفجر.
على إثر الضجيج، تجمّع بعض المتظاهرين على أمل أن تتاح لهم الفرصة في الوقت الراهن للوصول إلى أصدقائهم وإلى الميدان بعد كسر السلاسل. لكنهم، لم يكونوا مدركين لما ينتظرهم بعد ذلك. فجأة، ألقى ركاب التوك توك زجاجات حارقة على الحائط وباتجاه قوات الأمن، قبل الفرار بسرعة من المكان. لم تكن لدى أغلب المتظاهرين، الذين كانوا نائمين، أدنى فكرة عما حدث حتى انفتحت “أبواب الجحيم”، كما وصفها أحد شهود العيان، وبدأ الرصاص يتطاير.
في هذا السياق، أوضح الناشط، طالب سعد، البالغ من العمر 27 سنة، الذي كان متواجدا على عين المكان قائلا: “كان إطلاق النار مكثفا ومستمرا، ولم يتوقف سوى لبضع ثوانٍ من وقت لآخر”. وأضاف سعد قائلا: “كنا نواجه الموت المحتوم. عندما توقف إطلاق النار لبضع دقائق، ركضنا للاحتماء في صالات عرض سيارات النهضة القريبة. وكان الرصاص يخترق جدرانها المصنوعة من ألواح السندويتش. واستمر إطلاق النار حوالي نصف ساعة. لقد كان من الواضح أنهم كانوا يطلقون النار علينا من رشاشات آلية. سقط أربعة متظاهرين أمامي. ولم تكن هناك فرصة لإجلائهم أو حتى التوقف لمعرفة ما إذا كانوا لا يزالون على قيد الحياة”.
انتشرت شائعات بين المتظاهرين مفادها أن القناصة المجهولين الذين تمركزوا فوق المركز التجاري كانوا يستهدفون المتظاهرين أثناء الفوضى. وفي هذا الصدد، أوضح مسؤولون عراقيون للجمهور أن قناصة مجهولين على أسطح المنازل استهدفوا قوات الأمن والمتظاهرين “لإثارة الفتنة”. ووفقا لتصريحات رسمية، لقي أربعة أشخاص، بينهم عنصرا أمن، مصرعهم في المنطقة الواقعة بين ميدان الطيران والنخيل المول.
في المقابل، لم تسرد الرواية الرسمية حول الهجوم ما حدث بالفعل. بالإضافة إلى ذلك، لم يقع الكشف عن العدد الجمليّ للضحايا وسبب مصرعهم هوية القتلة حتى اللحظة الراهنة. ولهذا السبب، أجرى موقع “ميدل إيست آي” مقابلات مع أكثر من 10 مسؤولين مدنيين وعسكريين سابقين وحاليين لديهم معرفة مباشرة بالتحقيق وفحصوا الوثائق الرسمية التي لم يقع الكشف عنها للجمهور.
خلُص موقع “ميدل إيست آي” إلى أن 32 متظاهرا ربما قُتلوا خلال الهجوم الذي جدّ بالقرب من النخيل مول. علاوة على ذلك، أثارت الأدلة التي اطلع عليها موقع “ميدل إيست آي” تساؤلات حول ما إذا كان الهجوم بالقرب من النخيل مول مجرد هجوم ممهنج من قوات الأمن في بغداد على مدار عدة أيام خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر. وبينما واصل المسؤولون الحكوميون إلقاء اللوم على قوات مجهولة، أخبرت المصادر موقع “ميدل إيست آي” أن المحققين الذين كلفهم رئيس الوزراء عادل عبد المهدي تمكّنوا في غضون 11 يومًا من معرفة المُخطّط عن هذا الهجوم.
خلف الأبواب المغلقة، وقع توجيه اللوم إلى الجناة وإرسالهم لقتال تنظيم الدولة في كركوك، حيث كان المسؤولون يأملون في أن يموتوا وتصبح الحادثة في طي النسيان. في الحقيقة، عرضت الحكومة بشكل سري تعويضات مالية لأسر القتلى في الهجوم، لكنها لم توضح مطلقًا من يقف وراء عمليات القتل.
في غضون ذلك، التزم المسؤولون الذين يعلمون ما حدث، الصمت. وفي عدة مراحل، أعاقوا عمل منظمات حقوق الإنسان ومحققي الأمم المتحدة لاكتشاف الحقيقة. من جانبها، ظلت عائلات المتظاهرين الذين قتلوا في ذلك اليوم، بالإضافة إلى الشعب العراقي الذي شهد حتى الآن مقتل حوالي 600 متظاهر منذ ذلك الأسبوع، غير قادرين على معرفة الحقيقة. في هذا الصدد، قال، عبد الرزاق عبد الله، الذي قُتل ابنه البالغ من العمر 17 سنة في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر بالقرب من المركز التجاري الذي أكد أن “ابنه قُتل، لكن لا يعلم حتى اليوم المُتسبّب في قتله”.
انفجار الجدران والقنابل النارية
خلال تشرين الأول/أكتوبر سنة 2019، كن العراق كان يسير على صفيح ساخن، حيث جاب عشرات الآلاف من الناس شوارع بغداد وثماني محافظات جنوبية، احتجاجا على سوء خدمات الحياة الأساسية والفساد المستشري في مؤسسات الدولة وارتفاع معدل البطالة. قبل ذلك، كانت هناك احتجاجات في جميع أنحاء العراق. فبعد تنامي الإحباط والسخط لسنوات دون وجود أي تحسن في حياتهم اليومية، انفجر المجتمع الشيعي في الشوارع ضد الحكومة التي يقودها الشيعة.
لم تكن الاحتجاجات مثيرة للقلق للحكومة بسبب حجمها فحسب، بل بسبب غضب الجماهير الشيعية ضد القوى السياسية الشيعية. وقد مثّلت العاصمة قلب الحركة الاحتجاجية ومصدر قلق بالغ لحكومة رئيس الوزراء وحلفائه. واحتشد شبان في ساحتي التحرير والخلاني وسط بغداد وحولها. لكن كان نهر دجلة هو الحاجز الوحيد الذي منع المتظاهرين عن المنطقة الخضراء المحصنة، مقرّ معظم الدوائر الحكومية العراقية والبعثات الدبلوماسية الدولية.
ردا على ذلك، أمّنت قيادة عمليات بغداد المواقع الحساسة من خلال تقسيم وسط المدينة إلى عدة كتل. وأشرفت الشرطة الفيدرالية المحلية لمكافحة الشغب وقوات الرد السريع وقوات الجيش العراقي ولواء الكوماندوز على قيادة عمليات بغداد والقوات الداعمة والأجهزة الأمنية الأخرى.
كانت الكتلة الممتدة من ميدان الطيران إلى تقاطع الحمزة المحاذي للنخيل مول، وهي منطقة تضم وزارات الداخلية والنفط والنقل، من أكثر المناطق حساسية. وقد أدت ثلاثة أيام من المواجهات الدامية بين قوات الأمن والمتظاهرين السلطات إلى قطع الطريق الرئيسي المؤدي إلى ميدان الطيران، على بعد حوالي 300 متر فقط من ميدان التحرير، بكتل خرسانية كانت بمثابة جدران متفجرة.
كان التوزيع الدقيق لقوات الأمن غير معروف، على الرغم من أن الطوق الذي بنوه كان واضحًا للجميع. لكن من المؤكد أن رجال الشرطة كانوا يتمركزون وراءه. لذلك، من المحتمل أن إلقاء ركاب التوك توك قنابل حارقة على الحائط، سيؤدي إلى سقوط ضحايا وحدوث خسائر. في هذا الصدد، أكد مسؤولون أمنيون لموقع ميدل إيست آي أن “عُنصرين من الشرطة قُتلوا وأُحرقت عدة مركبات عسكرية”.
الرواية الرسمية
لم يكن الهجوم الذي جدّ صباح الجمعة بالقرب من النخيل مول هو الاحتجاج الوحيد في الأسبوع الأول من تشرين الأول/ أكتوبر الذي أودى بحياة العديد من الأشخاص. قُتل وجُرح المئات من المتظاهرين في أنحاء بغداد والجنوب، حيث أشرفت الحكومة على حملة ممنهجة استخدمت فيها العنف ولجأت فيها إلى فرض حظر التجول وقطع الإنترنت وتقييد حركة التنقل.
لم يتمكّن معظم الصحفيين المستقلين ومراقبي حقوق الإنسان من الاقتراب من ساحات المدينة التي تمركز فيها المحتجون وحدثت فيها أغلب عمليات القتل والخطف والاعتقالات الواسعة النطاق. علاوة على ذلك، تنامت الضغوطات المحلية والدولية على عبد المهدي. في 12 أكتوبر / تشرين الأول، شكّل عبد المهدي لجنة وزارية عليا لتقصي الحقائق وأمر بإجراء تحقيق في عمليات القتل، بما في ذلك تلك التي حدثت بالقرب من النخيل مول.
بعد عشرة أيام، أعلنت اللجنة المعنية عن بعض النتائج التي توصلت إليها على قناة العراقية الفضائية المملوكة للدولة. وقد خلصت اللجنة إلى أن 149 مدنيا وثمانية عناصر أمن قتلوا في ثماني محافظات بسبب استخدام “القوة المفرطة والذخيرة الحية” لقمع الاحتجاجات.
كما أعلنت اللجنة أن المظاهرات في بغداد وحدها أسفرت عن مقتل 107 مدنيّا، معظمهم أصيبوا بجروح في الرأس. مع ذلك، لم يقدّم تقرير اللجنة مزيدًا من التفاصيل حول ما حدث في العاصمة، على الأقل بشكل علني. في المقابل، أصدر المحققون تقريرًا سريا مكوّنا من 14 صفحة تحصل عليه موقع “ميدل إيست آي” ووصف بأنه “سري للغاية” ومؤرخ في 21 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2019. ويؤكد التقرير أن أكبر عدد من القتلى في بغداد وقع في المنطقة المحاذية للنخيل مول.
وذكر التقرير أيضًا أن اللجنة عثرت على أدلة تثبت أن “نيران القناصة استهدفت متظاهرين من سطح مبنى يقع وسط بغداد. وأشار إلى وجود مؤشرات على “وجود موقع للقناصة في أحد المباني المقابلة لمحطة وقود وسط بغداد، وعند التفتيش في الموقع عُثر على عدة خراطيش فارغة من سلاح قنص”. ولم تُذكر مزيد من التفاصيل حول المبنى المزعوم، ولا عن عدد الخراطيش التي وجدها المحققون أو نوعها.
اطّلع موقع “ميدل إيست آي” على مسودة سابقة للتقرير السري تحتوي على فقرة توضح أن المبنى المشار إليه في التقرير النهائي يقع بالقرب من المنطقة التي جدّ فيها الهجوم. لكن ما تجنب المحققون ذكره حتى في المسودة الأولية للتقرير السري هو أن أدلتهم تشير فقط إلى قناص واحد.
وفي تصريح له لموقع “ميدل إيست آي”، قال وزير عراقي سابق وعضو رئيسي في لجنة تقصي الحقائق الوزارية العليا: “كان هناك قناص واحد فقط. هذا ما كشفه تحقيقنا.
وقد أشار إلى أن “الغريب في الأمر أننا لا نعرف بعد من وضع (القناص) هناك وإلى أي جهة ينتمي. ونفى جميع القادة الميدانيين أي صلة به أو إعطاءه أوامر بالتمركز هناك أو المشاركة في الأحداث”.
وحسب ما صرّحت به مصادر مطلعة على الهجوم لموقع “ميدل إيست آي”، فإن المسؤولين العراقيين وظّفوا نتائج اللجنة للترويج لفكرة أن قناصة مجهولين كانوا وراء عمليات القتل. وكان الفريق جليل الربيعي، قائد عمليات بغداد في ذلك الوقت، من بين أوائل الذين روجوا رسميًا لرواية القناصين المجهولين.
في اليوم التالي للهجوم، أخبر الربيعي زعماء قبيلة الكرخ بما يلي: “تمركز قناص في إحدى مناطق العاصمة واستهدف المتظاهرين الذين خرجوا للمطالبة بحقوقهم…حاولت المخابرات اعتقاله، لكنه تمكن من الفرار إلى جهة مجهولة”. وقد أكّدت أطراف أخرى نفس الرواية.
بعد أسابيع، قال وزير الدفاع السابق نجاح الشمري في مقابلة تلفزيونية: إن “طرفًا ثالثًا متورطا في قتل المتظاهرين”، مشيرًا إلى تورط فصائل مسلحة تدعمها إيران. وقال مسؤول أمني رفيع المستوى شاهد لقطات للهجوم أن هذه التفسيرات كانت وسيلة ناجعة لغلق ملفّ التحقيقات. كان المطلوب التستر على ما حدث، لأنّ إلقاء اللوم على قناصين مجهولين يعني التلميح إلى تورط طرف ثالث خارج المعادلة [المتظاهرين وقوات الأمن]. “كانت الأجواء مهيأة بشكل كامل لرواية تدخّل القناصين والمتظاهرين أنفسهم يردّدون هذه الرواية ويؤكدونها في إفاداتهم”. وأشار المسؤول إلى أن “الهدف كان إلقاء اللوم على الفصائل المسلحة [المدعومة من إيران]، لإلغاء أي مطالب بمحاسبة الفاعل الحقيقي”.
ما هي حقيقة ما حصل؟
إن المسلحين الذين قتلوا المتظاهرين في وقت مبكر من يوم 4 تشرين الأول/ أكتوبر لم يكونوا قناصين مجهولين، بل قوات الأمن العراقية المكلفة بحماية المنطقة، وذلك حسب ما قيل لموقع “ميدل إيست آي”.
وبعد أن ألقى ركاب التوك توك الزجاجات الحارقة على جدار العزل، رد الجنود بإطلاق نار محموم، حسب إفادة مسؤول أمني رفيع المستوى شاهد لقطات للهجوم مسجلة بكاميرا مراقبة. وفي حديثه عن ذلك قال: “عندما رأى بعض الجنود زملاءهم يحترقون في سياراتهم، فقدوا أعصابهم وبدأوا في إطلاق النار بشكل هستيري وعشوائي من رشاشات مثبتة على سياراتهم”.
أفاد المصدر ذاته: “لقد كانت مذبحة حقيقية. لم نتلقّ أوامر مسبقة باستخدام الذخيرة الحية، لكن ضابطًا غير كفء فقد أعصابه وبدأ في إطلاق النار، لذا تبعه البقية”.
وأضاف المصدر ذاته أن “القوات المنتشرة في الموقع تدربت على القتال في الحروب وليس لديها خبرة في الأمن الداخلي… بالتأكيد لم تكن مؤهلة للتعامل مع المتظاهرين”. وأوضح أن معظم المتظاهرين أصيبوا بنيران غير مباشرة مصدرها جندي كان متمركزًا فوق مركبة عسكرية مع مدفع رشاش متوسط المدى.
أكدّ هذه الرواية العديد من الشهود العيان وثلاثة ضباط ومسؤولان كانا على دراية بنتائج التحقيقات، وقد أخبروا الموقع أن نيران الأسلحة الآلية أطاحت بغالبية الضحايا. ولكن لم يكن إطلاق النار المحموم هو ما تسبب في وقوع مثل هذه الخسائر الكبيرة – وإنما الزاوية التي أطلقوا منها النار.
أخبر الضباط “موقع ميدل إيست آي” بأن أنواع المدافع الرشاشة التي تستخدمها القوات العراقية من شأنها “تمزيق الهدف” إذا تم إطلاقها مباشرة على حشد من الناس. وإطلاق النار صعودًا بزاوية تتراوح بين 60 و90 درجة، سيكون عاليًا بما يكفي لإخافة الحشود لكنه ليس قاتلاً.
وفقا لمسؤول أمني رفيع المستوى، فإنّ الجنود في 4 تشرين الأول/ أكتوبر لم يطلقوا النار مباشرة على المتظاهرين، وإنما كان ذلك بزاوية 30 إلى 45 درجة “ومع مرور الوقت، تتعب أيدي بعضهم وينخفض مستوى التصويب”.
وحسب ما صرح به مسؤول أمني لـ “موقع ميدل إيست آي” فإن “هذه هي زاوية إطلاق النار المثالية [30-45 درجة]”، موضحًا أن قوة الرصاصات عندما تصيب هدفها، ستكون بنفس القوة التي كانت عليها عندما تخرج من المدفع الرشاش “لذا ستكون قاتلة”. وهذا ما شهده المسؤول الأمني رفيع المستوى في تسجيلات الفيديو. وقد أقرّ بأنّ: “معظم الضحايا في ذلك اليوم سقطوا نتيجة الرصاص الطائش وليس بسبب النيران المباشرة”.
وتتطابق روايته مع النتائج المفصلة في التقرير الخاص للجنة الوزارية العليا لتقصي الحقائق، التي أشارت إلى أن نحو 70 في المئة من المتظاهرين المقتولين في بغداد أصيبوا في الرأس والصدر.
وأكد مفوض في المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق هذه التفاصيل استنادًا إلى شهادات الأطباء المتعاونين معهم، حيث قُتل ما لا يقل عن 18 متظاهرًا وجنديين، وأصيب العشرات على إثر انتهاء إطلاق النار. وحتى في هذه المرحلة سعى المسؤولون للتستر على ما حدث، على حد قول أقارب الضحايا والأطباء العاملين في غرف الطوارئ في بغداد.
وقد قالوا إن وزارة الصحة أعطت تعليمات صارمة للمستشفيات بضرورة عدم إخضاع الضحايا للتشريح، مما يعني أن التفاصيل التي تحدد سبب الوفاة لن تدرج في شهادات الوفاة. وقال المفوض إنهم كانوا على علم بوقوع مذبحة بالقرب من النخيل مول، لكنهم لم يتمكنوا من الحصول على أي “معلومات منسقة” حول ما حدث أو العدد الحقيقي للضحايا.
وأضاف المفوض أن “وزارتي الصحة والداخلية رفضتا تزويدنا بأي إحصائيات أو تفاصيل. لم يتم التعاون معنا في معظم الأوقات”. وتشير الأرقام الرسمية إلى أن أربعة أشخاص فقط قتلوا، بينهم اثنان من أفراد الأمن. لكن اتصل طبيب يعمل في مستشفى الكندي بالقرب من المنطقة ليخبرنا بأنهم استقبلوا في ذلك اليوم 18 جثة، معظمهم توفوا متأثرين بجراح خطيرة على مستوى الرأس والأجزاء العلوية من الجسم”.
فتحت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) – وهي بعثة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في العراق التي تم تشكيلها في سنة 2003 لدعم الحكومة العراقية وتقديم المشورة بناءً على طلبها – تحقيقًا في الحادث ولكنها لم تتمكن أيضًا من تحديد المزيد من التفاصيل.
في أيار/ مايو، نشرت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق تقريرها السادس حول انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت خلال المظاهرات في العراق، مشيرة إلى “مطلق النار أو الرماة المجهولين” الذين كانوا وراء الهجوم بالقرب من المركز التجاري.
أفادت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) بأن العدد الدقيق للضحايا غير معروف، لكن من بين 107 متظاهرين قتلوا في بغداد بين الأول والثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، سقط أكبر عدد من الضحايا حول المركز التجاري. وأقرّت البعثة دون تفصيل بأنها واجهت “تحديات كبيرة” في جمع المعلومات حول هجوم المركز التجاري والعديد من الأمور الأخرى “بسبب شعور الخوف المنتشر والسرية التي تحيط بهوية الجناة”.
اعتراف صريح
بينما سعى محققو الأمم المتحدة ومحققو حقوق الإنسان لتحديد هوية الجناة دون جدوى، كانت الحكومة قد وافقت بالفعل على تخصيص تعويضات لعائلات ضحايا الهجوم، حسبما ما قيل لموقع “ميدل إيست آي”.
في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وبعد أن أنهت لجنة تقصي الحقائق عملها، أصدر مجلس الوزراء القرار عدد 340 الذي صنف المتظاهرين الذين سقطوا بالقرب من المركز التجاري من بين آخرين قتلوا في ذلك الأسبوع على أنهم “ضحايا عمليات عسكرية خاطئة”، وذلك وفقًا لمسؤول في مؤسسة الشهداء، وهي دائرة حكومية مسؤولة عن ضحايا جرائم حزب البعث المحظورة والإرهاب والنشاط العسكري.
فعلى سبيل المثال، سبق أن قامت المؤسسة بتعويض القتلى من المدنيين وأصحاب المنازل الذين تضررت ممتلكاتهم بسبب قوات الأمن العراقية أو التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة خلال فترة القتال ضد تنظيم الدولة.
لوضع القرار رقم 340 حيز التنفيذ، زوّد قسم الطب الشرعي في وزارة الصحة العراقية المؤسسة بقوائم المتظاهرين الذين قُتلوا خلال الاحتجاجات التي استمرت شهرين بدءا من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وذلك “لأنهم مشمولون في تعويضات وامتيازات الشهداء”، بحسب مسؤول المؤسسة.
حصل موقع “ميدل إيست آي” على نسخ من تلك القوائم التي تغطي جميع الوفيات التي حدثت في بغداد في شهريّ تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر 2019. ووقع التحقق من صحتها من قبل عدة مصادر حكومية، بما في ذلك مؤسسة الشهداء ومكتب رئيس الوزراء. فهي تمثل الوثائق الرسمية الوحيدة التي ظهرت حتى الآن والتي تحتوي على تفاصيل تشمل عدد المتظاهرين الذين قُتلوا، مع مواقع وتواريخ حدوث ذلك، وسبب وفاتهم والأرقام التسلسلية لشهادات وفاتهم.
تظهر الوثائق أنه في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر، سُجل مقتل 32 شخصًا معظمهم في مناطق قريبة من النخيل مول في بغداد، وليس شخصين كما ادعت السلطات العراقية خلال السنتين الماضيتين، أو 18 شخص كما اعتقد مصدر أمني كبير في “ميدل إيست آي”. لكنها تثير المزيد من الأسئلة حول مقتل المتظاهرين في الأسابيع الأولى من تشرين الأول/ أكتوبر، خارج إطار هجوم النخيل مول.
كانت تعويضات الحكومة المقدمة لعائلات المتظاهرين القتلى بمثابة اعتراف صريح بقتلهم على يد قوات أمن عراقية
علاوة على ذلك، تشير القوائم إلى أن وفيات المتظاهرين المصنفين كضحايا لعمليات عسكرية خاطئة تعود إلى الأول من تشرين الأول/ أكتوبر، وهو اليوم الأول للمظاهرات. وارتفعت بشكل كبير من حالتين قتل في اليوم الأول إلى 24 في اليوم الثالث، لتصل إلى 32 في اليوم الرابع ثم 18 في اليوم الخامس. وكان سبب الوفاة الموثق لمعظم الضحايا يتمثل في رصاصات في الرأس أو في الأجزاء العلوية من الجسم.
في تلك الفترة، تعامل كل من مركز شرطة باب الشيخ ومركز السعدون، المسؤولان عن المنطقة الممتدة من ميدان التحرير وحتى محطة الغيلاني للوقود بالقرب من النخيل مول مع غالبية القتل. سرعان ما برزت تساؤلات عما إذا كان هجوم الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر بالقرب من النخيل مول بمثابة رد فعل منعزل على مقتل جنديين، أو مجرد لمحة عن العنف الممنهج الذي استمر لعدة أيام.
في هذا الشأن، يقول المسؤول الأمني الذي شاهد لقطات من هجوم النخيل مول إنه غير متأكد من موعد بدء القتل بالضبط، أو سبب اندلاعه. وأضاف: “التفسير الأقرب لما حدث بالنسبة لي هو أن الجنديين قد قُتلا في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر وليس الرابع كما أعلنت السلطات العسكرية حينها. ويعني ذلك أن مجزرة النخيل مول قد اندلعت في الثالث من الشهر واستمرت ثلاثة أيام في الواقع. ولا يمكنك تصور عدد الفاعلين الحكوميين وغير الحكوميين الذين تواطؤا للتغطية على هذا الحدث”.
كانت تعويضات الحكومة المقدمة لعائلات المتظاهرين القتلى بمثابة اعتراف صريح بقتلهم على يد قوات أمن عراقية لم يقع الكشف عن هويتها لأي أحد، بما في ذلك أقارب الضحايا.
من الفاعل؟
تجعل المجموعات المختلطة من وحدات الشرطة والفرق العسكرية التي كانت تجوب شوارع بغداد في ذلك اليوم من الصعب للغاية تحديد مصدر إطلاق النار بالقرب من المول. لذلك، سعى موقع “ميدل إيست آي” للحصول على تعليق رسمي يبين العدد الدقيق لضحايا حادث النخيل مول، والمزيد من التفاصيل من وجهة نظر الحكومة. إلا أن أكثر من عشرة من كبار المسؤولين الذين شاركوا في لجان التحقيق التي شكلتها حكومتا عبد المهدي وخليفته مصطفى الكاظمي رفضوا الإجابة على أية أسئلة أو زعموا أنه من غير المسموح لهم بالكشف عن أي تفاصيل.
لكن بعد إجراء مقابلات مع أكثر من عشرة من المسؤولين المدنيين والعسكريين السابقين والحاليين الذين لديهم معرفة مباشرة بالتحقيق، علم موقع “ميدل إيست آي” بأن المنطقة الواقعة بين ميدان الطيران والنخيل مول كانت تحت سيطرة قوتين رئيسيتين يوم الهجوم وهما فوج مغاوير قيادة عمليات بغداد ولواء المشاة 45 التابعان للفرقة 11 في الجيش العراقي، إلى جانب بعض الأجهزة الأمنية الأخرى.
بحسب هذه المصادر، فإن جنود فوج مغاوير التابع لقيادة عمليات بغداد كانوا يرتدون الزي الرسمي لقوات الرد السريع الذين لم يكونوا منتشرين في المنطقة. لكن الشهود، الذين ليس لديهم أي فكرة عن تغيير الزي، كانوا مقتنعين بأن قوات الرد السريع نفذت عمليات القتل، وهي تفاصيل لم يُكشف عنها في التحقيقات الرسمية حتى اليوم. في المقابل، علم موقع “ميدل إيست آي” بأن لجنة تقصي الحقائق التي شكلها عبد المهدي كانت على دراية تامة بالمشاركين خلف الأبواب المغلقة.
بعد 11 يومًا من التحقيق، أوصت اللجنة في 22 تشرين الأول/أكتوبر بما يلي:
- عزل 87 ضابطا من مناصبهم وتوثيق تورطهم في الهجوم في سجلاتهم
- إقالة قائد عمليات بغداد ومساعده الأمني وقائد لواء المشاة 11 التابع للجيش العراقي، وقائد الفرقة الأولى في الشرطة الاتحادية، وقائد لواء المشاة 45
- تنحية كل من قائد الفوج الثاني من لواء المشاة 45 وقائد فوج مغاوير الفرقة الأولى في الشرطة الاتحادية، مع إحالتهم على هيئات التحقيق العسكرية.
ما حدث في النخيل مول كان رد فعل طبيعي ومتوقع للغاية. يتعامل الجندي مع أي هدف أمامه على أنه عدو
آنذاك، سلّمت اللجنة معلومات وأقراص مدمجة تحتوي على أدلة إلى مجلس القضاء الأعلى توضح ما حدث بالضبط في بغداد ذلك الأسبوع، بما في ذلك في النخيل مول. لكن، ما لم يكشف عنه أي من أعضاء اللجنة – وما كانت هناك نية لإخفائه “بفعل تواطؤ غريب”، حسب مسؤول عسكري رفيع المستوى مطلع على التحقيق – هو أن الجنديين اللذين قُتلا كانا عضوين في اللواء 45 من فرقة المشاة 11 التابعة للجيش العراقي. وحتى الآن، لم يتم الكشف أيضا عن أن المتورطين في مجزرة النخيل مول كانوا من رفاقهم من اللواء نفسه.
علم موقع “ميدل إيست آي” بذلك من قبل ضباط وقع اطلاعهم على نتائج التحقيق في أسباب الارتفاع المفاجئ في عدد المتظاهرين الذين قتلوا في بغداد من قبل الفريق الركن عبد الأمير الشمري، نائب رئيس العمليات المشتركة الحالي والمفتش العسكري السابق لوزارة الدفاع العراقية، ثم أُكدت شهاداتهم من قبل أحد ضباط قوات الرد السريع وعضو رئيسي في اللجنة الوزارية العليا لتقصي الحقائق، الذي تحدث مع الموقع أيضا.
من جهة أخرى، قال وزير سابق وعضو رئيسي في لجنة تقصي الحقائق الوزارية لموقع “ميدل إيست آي” إنه “من الأفضل الإبقاء على سرية بعض المعلومات لأن الكشف عنها سيثير الفتنة. فالإعلان عن أمور كهذه لن يحل المشكلة، بل سيزيد من تعقيدها فحسب”.
كما أضاف أن “ما حدث [في النخيل مول] كان رد فعل طبيعي ومتوقع للغاية. يتعامل الجندي مع أي هدف أمامه على أنه عدو، فما الذي يمكن توقعه منه عندما يحترق أمامه اثنان من زملائه؟ ماذا نتوقع من جندي أحضرناه من الجبهات وقتال شرس مع تنظيم الدولة، لنضعه وجها لوجه مع أحد المتظاهرين الذي كان يرشقه بالحجارة وقنابل المولوتوف؟”
المحاسبة
وفقًا للمسؤول الأمني الذي شاهد لقطات المراقبة الأمنية للمجزرة، فقد اتُخذ إجراء آخر إلى جانب عمليات الإقالة والمذكرات التأديبية المضافة إلى الملفات. وأفاد بأن الفريق الركن عبد الأمير يار الله الذي كان نائب قائد العمليات المشتركة في ذلك الوقت، قد أمر بنقل اللواء 45 بأكمله إلى كركوك “كعقاب” لهم.
قال المصدر إن “يار الله قرر معاقبتهم بإرسالهم إلى جبهات القتال في كركوك لمواجهة الموت هناك في القتال ضد تنظيم الدولة مشيرا إلى أن قرار النقلة تسبب في “خلاف حاد” بين يار الله والفريق عثمان الغانمي، الذي كان رئيس أركان الجيش آنذاك، لأن “الغانمي رفض معاقبتهم بينما أصرّ يار الله على قرار نقلتهم”.
حسب مصادر موقع “ميدل إيست آي”، فقد نُقل اللواء إلى كركوك في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019. ولم يستجب أي من الغانمي ولا يار الله لطلبات الإدلاء بالتعليق. وأكد المصدر أن “قرار نقلهم كان يهدف إلى إبعادهم ودفع الرأي العام لنسيان الحادث، بدفعهم [جنود اللواء 45] نحو الموت”.
ختم ساخرًا: “هكذا نتعامل مع مشاكلنا في هذا البلد، بإعادة تدوير الموت وأسبابه”.
من جهتهم، ما زال أقارب القتلى يطالبون بالمزيد إذ قال العديد منهم الذين تحدثوا إلى “ميدل إيست آي” إنهم رفعوا دعاوى ضد الحكومة قُوبلت بالتجاهل التام. في هذا الصدد، قال عبد الرزاق عبد الله، الذي قُتل ابنه مقتدى في الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر: “رفعت دعوى ضد الحكومة ورئيس الوزراء السابق [عادل عبد المهدي] و [فالح] الفياض (رئيس هيئة الحشد الشعبي) وجميع أفراد العصابة”. وتابع: “لم يكن مقتدى سوى طفلاً ولا أدري ما الخطيئة التي ارتكبها ليقتل بهذه الطريقة البشعة”.
المصدر: ميدل إيست آي