السياسات الاقتصادية المصرية.. مخالفة دستورية وغياب لفقه الأولويات

البرلمان المصري

تخضع السياسات العامة للدولة، لا سيما الاقتصادية منها – أو هكذا يفترض – إلى حزمة من المستجدات والظروف الراهنة التي تؤثر تأثيرًا محوريًا في الملامح العامة لتلك السياسات ومخرجاتها، إذ تتشكل أضلاعها وفروعها استجابةً للوضعية العامة في ذلك الوقت، وعليه قد نرى خططًا أو برامج استثنائية في بعض الأحيان في حال وجود طارئ يتطلب إعادة النظر والهيكلة معًا.

وتكشف الموازنة السنوية العامة جزءًا كبيرًا من رؤية الدولة للواقع المعاش وفرضياته من جانب، وملامح أجندة أولوياتها المستقبلية، على الأقل خلال عام كامل، من جانب آخر، ومن ثم فإن الأرقام التي تتضمنها الموازنات السنوية تجيب عن الكثير من التساؤلات التي تدور برأس المواطنين والمتابعين معًا بشأن الرؤية العامة للنظام والحكومة حيال القضايا التي تهم الشارع.

ونظرًا للظروف الاستثنائية التي مر بها العالم – ولا يزال – خلال العام الماضي، حيث أزمة كورونا التي فرضت – بتداعياتها الاقتصادية الكارثية – نفسها على صانعي القرار خلال وضع الموازنة العامة للدولة، جاءت تلك الخطط في كثير من الدول ذات طابع خاص تماشيًا مع المستجدات التي فرضتها الجائحة.

الوضع في مصر ربما يكون مغايرًا نسبيًا لما هو عليه في معظم دول العالم، رغم أن البلاد لم تكن بعيدة عن مخاطر الأزمة، التي كشفت الكثير من أوجه النقص والقصور في قطاعي الصحة والبحث العلمي، فضلًا عن التداعيات المجتمعية الخطيرة التي أحدثها تفشي الوباء، ما دفع بالملايين إلى مستنقعات الفقر والعوز، الأمر الذي كان من المفترض أن ينعكس في الموازنة القادمة.

يناقش مجلس النواب المصري (البرلمان) الأيام الحاليّة الموازنة العامة القادمة للدولة للعام المالي 2021-2022، التي تضمنت الكثير من المفاجآت في عدد من البنود الخاصة بأوجه النفقات والمخصصات المالية، بعضها يخالف الدستور بشكل واضح، والآخر يتلاعب بلغة الأرقام لتمرير الخطة برلمانيًا، فيما عكست المؤشرات العامة للموازنة رؤية الدولة لما هو قادم وموقع محدودي الدخل من دائرة الاهتمام الرسمي.

الدين العام.. نصيب الأسد

يحتل الدين العام في الموازنة التي يبلغ حجمها نحو 2.4 تريليون جنيه، نصيب الأسد، كما هو الحال في موازنة العام الماضي، إذ خصص 593 مليار جنيه سداد للقروض المحلية والأجنبية، فيما بلغت إجمالي المصروفات 1.8 تريليون جنيه.

ويبلغ حجم الدين العام في مصر 84% من الناتج المحلي، وهو رقم كبير للغاية، لكنه غير مقلق، إذ تعاني معظم اقتصادات العالم من تلك الأزمة، وهناك الكثير من الدول تتفوق على مصر في حجم ديونها، كاليابان مثلًا التي تبلغ ديونها 238% من الناتج المحلي،  لكن المشكلة تتمحور في إدارة هذا الدين وكيفية التعامل معه.

ما يقرب من 1.1 تريليون جنيه تم تخصيصها في الموازنة السابقة لخدمة الدين العام، تشمل أقساط الدين والفوائد التي تبلغ قرابة 579.5 مليار جنيه (8% من الناتج المحلي)، غير أن في الموازنة القادمة من المقرر أن يتزايد هذا العبء خاصة أن هناك زيادة مقترحة في حجم الاقتراض الخارجي بنسبة 79 مليار جنيه، ليصل إجمالي ما يفترض أن تقترضه الحكومة المصرية بحسب الموازنة الجديدة 1.06 تريليون جنيه.

هناك إصرار كبير لدى السلطات الحاليّة على المضي قدمًا في نفس المسار الخاص بالتركيز على الاستثمارات والمشروعات القومية التي تصب في صالح حفنة قليلة من الشعب، يصاحبها دعاية سياسية للنظام، في مقابل تراجع القضايا الحياتية والمعيشية للمواطنين عن دائرة الاهتمام

وفي المجمل فإن إجمالي مدفوعات الدين في موازنة العام القادمة تمثل قرابة 32% من المصروفات العامة، هذا الرقم ربما يكون أقل من العام الماضي، لكن ليس ذلك بسبب تراجع مدفوعات الدين قدر ما هو زيادة في حجم المصروفات، التي أثارت مخصصاتها الكثير من الجدل والتساؤلات لدى رجل الشارع والاقتصاديين.

تساؤل يفرض نفسه: أين تذهب القروض المتوقع أن تقترضها مصر خلال العام الجديد بحسب الموازنة؟ من المتوقع أن يذهب الجزء الأكبر من هذه الأموال لتمويل دفع الفوائد والقروض على الدين العام، أما الجزء الآخر فيتم تخصيصه لتمويل حزمة من المشروعات والاستثمارات.

وهنا تساؤل آخر: ما طبيعة تلك المشروعات التي ستستحوذ على جزء كبير من القروض؟ الملاحظ أن النسبة الكبرى من المتبقي من القروض ستوجه إلى عدد من المشروعات الكبيرة التي تخدم عدد محدود من السكان، وهو ما يعكس التوجه العام للدولة بعيدًا عن قائمة أولويات متوسطي ومحدودي الدخل وهم السواد الأعظم من المصريين.

هناك 3 مشروعات فقط (المونوريل – قطار العاشر العاصمة وقطار الجلالة – العلمين الجديدة) تبلغ كلفتها قرابة 64 مليار جنيه، لا تخدم إلا حفنة من رجال الأعمال والمستثمرين والنخبة، مقارنة بحجم الاستثمارات الموجهة إلى السكك الحديدية التي تخدم الشريحة الكبرى من محدودي الدخل، التي لا تتجاوز 27 مليار جنيه.

الصحة والتعليم.. التلاعب بالأرقام

يفترض أن يحتل قطاعا الصحة والتعليم مكانة مميزة في موازنة العام الجديد، تلك الموازنة التي أسماها البعض “موازنة كورونا”، إذ أجهز الوباء على قدرات مصر الصحية وأضعف إمكاناتها بعد الضغوط المتواصلة التي تعرضت لها على مدار أكثر من عام ونصف.

المؤشرات الأولية تذهب إلى تخصيص 108.8 مليار جنيه، لقطاع الصحة، بما يمثل 5.9% من المصروفات المتوقعة، بزيادة بلغت نسبتها 16.27% مقارنة بالعام المالي الحاليّ، وتعد تلك الزيادة هي الكبرى بين معدلات الزيادة في بقية القطاعات الأخرى.

فيما بلغت مخصصات التعليم 172.6 مليار جنيه، أي نحو 9.4% من المصروفات، بنسبة زيادة تقدر بـ9.56% عن العام الحاليّ، وعليه بلغ الإنفاق الفعلي على الصحة نحو 1.55% من الناتج المحلي، ومخصصات التعليم تقدر 2.47%.

القراءة الأولية لتلك الأرقام تشير إلى نمو نسبي مقبول في معدلات الزيادة في قطاعي الصحة والتعليم، يتماشى مع التطورات والمستجدات الأخيرة، لكن يبقى السؤال: هل تعكس تلك الأرقام دلالة الاهتمام الرسمي بتلك القطاعات الحيوية؟ وهل التزمت الحكومة بما يقوله الدستور في هذا الشأن؟

رغم التبعات الاجتماعية للجائحة على السواد الأعظم من المصريين من محدودي ومتوسطي الدخل، فإن ذلك لم يترجم في الموازنة الجديدة

ينص الدستور المصري على أن “تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي”، وبحسب الأرقام السابقة فإن ذلك لم يحدث (1.5% من الناتج المحلي للصحة و2.4% للتعليم)، ما يعني أن الموازنة لم تراع الحد الأدنى من نسب المخصصات حسبما جاء في الدستور.

هناك معضلة أخرى تجعل من تلك الزيادة – رغم أهمية تلك الخطوة – قليلة التأثير والقيمة، ففي 2016 أقر البرلمان مفهوم “الناتج المحلي” (قيمة الإنتاج داخل البلاد) في إقرار الموازنة بدلًا من “الناتج القومي” (إنتاج المصريين خارج حدود البلاد، شاملًا الاستثمارات المصرية في الخارج)، وهو ما يعني أن نسبة الـ1.5% من الناتج المحلي المخصصة للصحة أقل بكثير من نفس النسبة حال حسابها قياسًا للناتج القومي.

الجهات السيادية.. أزمة شفافية

شهدت المخصصات المالية للجهات السيادية طفرةً كبيرةً في الموازنة الجديدة المقترحة، فقد بلغت موازنة الداخلية (المدرجة تحت باب النظام العام وشؤون السلامة) 88.1 مليار جنيه، بما نسبته 4.8% من المخصصات العامة في الموازنة، وبزيادة 10% عن العام الماضي بواقع 8 مليارات جنيه.

قطاع القضاء (المحاكم وديوان عام وزارة العدل) شهد هو الآخر نقلة نوعية في الموازنة الجديدة، فقد ارتفعت المخصصات إلى 25 مليار جنيه، هذا بخلاف العوائد المحققة من الصناديق الخاصة والنسب المخصصة من الرسوم المالية، وهي المنافذ غير المعلومة لأحد، التي تعاني من ندرة واضحة في المعلومات.

أما قطاع الدفاع والأمن القومي (وزارتا الدفاع والإنتاج الحربي) فبلغت ميزانيته المقترحة 86 مليار جنيه تقريبًا بزيادة 10 مليارات عن العام الماضي، وبنسبة زيادة 12% تقريبًا، مع الوضع في الاعتبار تجاهل المخصصات الأخرى التي تتميز بها فروع هذا القطاع التي تعد الأكبر على مستوى الجمهورية.

الملاحظ في موازنات تلك الجهات السيادية الثلاثة أنها تفتقد للحد الأدنى من الشفافية “بالإضافة لمشكلات أخرى أهمها الصناديق الخاصة والإنفاق من خارج الموازنة الذي يهدم مبدأ أساسي في الموازنة العامة للدولة والمتعلق بشمولية الموازنة” على حد وصف صفحة “الموقف المصري” المستقلة على فيسبوك.

الدعم الاجتماعي.. في ذيل قائمة الاهتمامات

رغم التبعات الاجتماعية للجائحة على السواد الأعظم من المصريين من محدودي ومتوسطي الدخل، فإن ذلك لم يترجم في الموازنة الجديدة، حيث جاءت مخصصات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية في ذيل أولويات الحكومة مقارنة بالقطاعات الأخرى التي ربما كانت أقل تضررًا.

وقد تسبب انتشار الوباء في إلغاء 225 مليون وظيفة دائمة، وتقليص عدد ساعات العمل عالميًا بواقع 8.8%، وهي النسبة التي فاقت التراجع في عدد ساعات العمل إبان أزمة الاقتصاد العالمي في أواخر 2008، بحسب التقرير الصادر عن منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة 2020.

وتحت عنوان “التداعيات المحتملة لأزمة كورونا على الفقر في مصر” توقع معهد التخطيط القومي (حكومي) في دراسة له أن تتسبب أزمة جائحة كورونا في ارتفاع معدل الفقر بين الشعب المصري، ليتراوح بين 5.6 إلى 12.5 مليون مواطن خلال العام المالي 2020-2021 وفقًا لسيناريوهات مختلفة.

ورغم ذلك فقد تراجعت مخصصات الدعم الاجتماعي في الموازنة الجديدة إلى 321.3 مليار جنيه، بنسبة 17.5% من إجمالي مصروفات الموازنة العامة للدولة، مقارنة بـ326.2 مليار جنيه العام الحاليّ، بانخفاض قدره 5 مليارات جنيه عن موازنة العام الماضي 2020/2021.

من الواضح أن هناك إصرارًا كبيرًا لدى السلطات الحاليّة على المضي قدمًا في نفس المسار الخاص بالتركيز على الاستثمارات والمشروعات القومية التي تصب في صالح حفنة قليلة من الشعب، يصاحبها دعاية سياسية للنظام، في مقابل تراجع القضايا الحياتية والمعيشية للمواطنين عن دائرة الاهتمام، علمًا بأن فقراء الشعب هم من يتحملون كلفة السداد، سواء الخاصة بالديون الخارجية أم دفع ثمن الخدمات المقدمة لهم عشرات الأضعاف.