تضرب جذور الفن المقاوم عميقًا في تاريخ النضال الفلسطيني التحرري، فقد كان مرافقًا للمقاومة المسلحة التي انطلقت لحماية الأرض الفلسطينية من العصابات الصهيونية التي هبطت على البلاد، بهدف التهامها وتكوين إمبراطورية استعمارية لاستقطاب يهود العالم إليها.
فالمقاومة بمعناها الواسع تتخذ وجوهًا عدة، لكنها في نهاية المطاف تنبع من هدف واحد، يتمثل في إرادة التحرير التي تتشكل من رفض الاحتلال والتمسك الصلب بالجذور والمواقف الوطنية.
ومن هنا فإن أي شكل من أشكال المقاومة يلعب دورًا مهمًا في عملية التحرير، وبالتركيز على الفن المقاوم أو المقاومة بالفن، فإن هذا الشكل من النشاط التحرري لا يقل قيمةً عن المقاومة المسلحة، لما له من أهمية في تكوين الوعي المجتمعي وبناء الثقافة الوطنية.
إذ يرتكز الفن المقاوم في جوهره على مبادئ الحق والعدالة والحرية والكرامة، بما في ذلك مقاومة الظلم أيًا كان مصدره، والدفاع عن الأرض والكرامة الوطنية تجاه أي قوة خارجية غازية.
وفي هبة مايو/أيار 2021 التي شملت الكل الفلسطيني، وانطلقت احتجاجًا ورفضًا لتهجير الفلسطينيين من حي الشيخ جراح في مدينة القدس، واقتحام قوات الاحتلال والمستوطنين المسجد الأقصى، رأينا أن الفن المقاوم سار يدًا بيد مع المقاومتين السلمية والمسلحة، اللتين شهدتهما أراضي فلسطين التاريخية.
الجرافيتي “جدران مقاومة”
أخذ فن الجرافيتي (الرسم والكتابة على الجدران) في الوطن العربي بُعدًا تحرريًا مقاومًا للسلطة الظالمة والمستبدة، فانتشر استخدامه بشكل واسع في الثورات العربية، خاصة المصرية والسورية، فبات سلاحًا يؤرق السلطة، كما تؤرقها التجمعات الرافضة لها في الميادين، أما في فلسطين فإن الجرافيتي رافق مسيرة نضالها الشعبي، فكانت الجدران مكانًا للتحشيد الجماهيري ونشر ثقافة رفض ومقاومة الاحتلال منذ الحكم العسكري الإسرائيلي للبلاد حتى اليوم، لكن بوتيرة متفاوتة وبتباين جغرافي، حيث نراه أكثر انتشارًا بصورته المقاومة على جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، ويقل كثيرًا في منطقة الداخل الفلسطيني.
لكن مع انتفاض الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية كافة، في هبة مايو/أيار 2021، ظهر الجرافيتي المقاوم في كثير من الأحياء الفلسطينية، وحتى في المناطق التي تسمى مختلطة – يسكنها فلسطينيو 48 واليهود – وهذا ما أثار حفيظة الاحتلال واستدعى طواقمه لإزالتها، خاصة أن هذه الرسومات تحمل شعارات وطنية فلسطينية يجرم الاحتلال رفعها كعلم فلسطين الذي رسمه الفلسطينيون على جدران كثيرة في فضاءات متعددة، لكن أبرز جرافيتي شكل انتشارًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي كان لجملة “لن نرحل” التي كتبها المقدسي نبيل الكرد على سور منزله المهدد بالتهجير القصري منه، هذه الجملة التي خطت باللون الأصفر، أصبحت شعارًا ورمزًا لقضية الشيخ جراح، وصار التقاط الصور التذكارية بجانبها هدفًا وروتينًا لكل زائر ومتضامن مع الحي وأهله.
ولم تبق هذه الجملة الجرافيتية أسيرة للحائط الذي كتبت عليه بل توسع تأثيرها وإلهامها، فوجدناها انتقلت إلى الصحف عن طريق رسومات كاريكاتورية، والى حلي الزينة، بنفس شكلها الذي رسمت به على حائط العم نبيل، وذلك لما شكلته هذه الجملة وغيرها من تأثير جامع وموحد للكل الفلسطيني، فهذه الرسوم والكتابات الجرافيتية عبرت بشكل أساسي عن روح الفلسطيني ورسالته التي نادى بها حتى قبل أن يعد أقلية غير مرغوب بها في بلده.
ويلجأ الفلسطيني إلى الكتابة والرسم على الجدران لعلمه أثر الجرافيتي في نفس الاحتلال الذي أخذ يحاول ترسيخ ملكيته على أرضه منذ أكثر من سبعين عامًا، فبالجرافيتي المقاوم يبين الفلسطينيون للاحتلال فشل مخططات أسرلتهم وتهويدهم ودمجهم في المؤسسة الإسرائيلية.
وأثار فن الجرافيتي حفيظة الاحتلال، فشنت أذرعه من مستوطنين وبلديات ومتعاونين حملات لإزالته ومنع الفلسطينيين من رسمه، كما شاهدنا في حي الشيخ جراح وسلوان والناصرة وبلدات فلسطينية أخرى، وهو ما يؤكد أثره وأهميته.
وردًا على إزالة الاحتلال للجرافيتي عن جدران البيوت الفلسطينية خاصة في حي الشيخ جراح، أطلق فلسطينيون حملة “27027”، التي تهدف إلى رسم خريطة فلسطين في كل المدن الفلسطينية وعلى مساحتها الكاملة البالغة 27027 ألف كيلومتر، وشهدت تفاعلًا واسعًا.
الفنان الفلسطيني تقي سباتين شارك في رسم لوحات جرافيتية عدة على جدار العزل العنصري، في بيت لحم، كان أبرزها لوحة بعنوان “إذا لم أسرقها سيأتي أحد آخر ويهدمها”، وهذا العنوان مستوحى من جملة المستوطن يعقوب، الذي استولى على بيت عائلة الكرد في حي الشيخ جراح، حيث قال لمنى الكرد صاحبة البيت عند سؤالها له عن سبب سرقته لمنزلها: “إذا لم أسرقه أنا فسيسرقه غيري”، لكن مع بعض التحوير الذي يدل على أن الاحتلال الإسرائيلي يحاول أن يتفوق ديموغرافيًا في فلسطين، وذلك من خلال سرقة بيوت الفلسطينيين وإسكان المستوطنين مكانهم، وإذا لم يفلح بذلك فيهدم بيوتهم حتى لا يتمكنون من البقاء أو التوسع في أرضهم.
ولوحة أخرى لجندي إسرائيلي مقنع بقناع منظمة “kkk” العنصرية يقف بكامل عتاده، أمام طفل فلسطيني أعزل يحمل جرة فيها سمكة صغيرة، في إشارة إلى الطفل الغزاوي أحمد الذي قصف الاحتلال الإسرائيلي منزله خلال العدوان الأخير على قطاع غزة، في مايو/أيار الماضي، واستطاع هو وأخته إنقاذ بعض أسماك الزينة التي كانا يربيانها في نزلهما.
وهذه اللوحة تحمل دلالة عظيمة، إذ يشير الفنان سباتين فيها إلى وحشية الاحتلال الذي يمارس أبشع الجرائم ضد الفلسطينيين العزل، إذ شبه جنود الاحتلال بأعضاء منظمة “kkk” التي ارتكبت جرائم إرهابية في أمريكا ودعمت النازيين بناء على نزعات قومية.
قال الفنان سباتين خلال حديثه مع “نون بوست”: “الفن الجرافيتي يعد أداة من أدوات الإشباع الثقافي للثورة، والتعبير عن القضية الفلسطينية بطريقة يفهمها الجميع بمختلف ثقافاتهم ولغاتهم”، وأضاف أن الفن والثقافة هما ظل البندقية، يعملان ويشتبكان معها في كل معركة، ويستمران في النضال حتى بعد التهدئة، لأنهما صوت الثورة الذي لا يهدأ.
وعن رسم الجرافيتي على جدار العزل العنصري قال سباتين: “الرسم على الجدار يحمل رسالة هدفها الترويج لعنصرية الجدار، ودعوة لهدمه ووقف التهامه للأراضي الفلسطينية، وهذه الرسالة تتقاطع مع رسائل الفلسطينيين الذين رسموا الجرافيتي بمناطق مختلفة في هبة مايز/أيار، إذ أرادوا وقف تهجير الفلسطينيين من منازلهم ووقف العدوان على غزة وإنهاء الاحتلال”.
الغناء الثوري المقاوم
يشكل الالتزام دافعًا كبيرًا في الإنتاج الغنائي الفلسطيني، فيكاد لا يخلو تاريخ المغنيين الفلسطينيين من غناء أغانٍ وطنية، ولا نحصر الأغاني الوطنية بشكل أو نوع غنائي معين، ففي هبة مايو/أيار رأينا انتشارًا واسعًا للراب الوطني الفلسطيني جنبًا إلى جنب مع الأغاني الوطنية التقليدية.
ولمسنا في هبة مايو/أيار انتشارًا غير مسبوق للراب لما حمله من تجديد في كلماته وأسلوب عرضها، وكان من أبرز أغاني هذه الفئة أغنية “إن أن” لضبور وشب جديد، التي حملت معانٍ وطنية شكى فيها المغنيان واقع البلد المرير الذي “اختل ميزانه” كما قالت الأغنية، لكنهما لم يتوقفا عند ذلك، إذ بينوا أن شباب الوطن على استعداد دائم وبجهوزية كاملة، لإعادة ميزان الوطن، فهم مستعدون للتضحية بدمائهم، وهدم الجبال في سبيل تحقيق ذلك، إذ إنهم لا يخافون من الموت أو السجن، فحتى أسرى الاحتلال على استعداد للخوض في المعارك القادمة، كونهم في معركة الحق لا يخافون أحدًا حتى السجن، فهم سياسيًا لا يتبعون أحد وهم قائدة الشارع، ومن يتحكم بمسيرة النضال التي يخططون لها على الهدأ.
وأكملت أغنية الراب التي تحمل اسم “الشيخ جراح” لضبور فكرة أغنية “إن أن”، فبما أن أغنية “إن أن” تتحدث عما يمكن للفلسطيني أن يفعل إن آن أوان المعركة، فإن أغنية “الشيخ جراح” تتحدث عن العمليات الفدائية التي يمكن أن يقوم فيها الفلسطيني، كإطلاق النار أو دهس للمعتدين على الفلسطينيين وأملاكهم، إذ جاءت هذه الأغنية في سياق محاولة الاحتلال تهجير 28 عائلة فلسطينية من بيوتها في حي الشيخ جراح بالقدس.
وأتت أغنية الفنان الفلسطيني كفاح زريقي ذات الشكل التقليدي التي تحمل عنوان “الشيخ جراح” لتؤكد فكرة الثبات في الوطن مهما اشتدت غطرسة الاحتلال ومستوطنيه، يقول الفنان زريقي لـ”نون بوست”: “الأغاني الوطنية الفلسطينية هي رافد من روافد الثورة الفلسطينية، وهي جزء أساسي في ميدان النضال الفلسطيني، كونها تشحذ الهمم وتجمع الناس حول قضيتهم”، ويضيف أن أغنية الشيخ جراح جاءت صرخة دفاع عن مدينة القدس وأهلها المهددين بالتهجير القسري، وبيان معاناتهم.
وفي حديثه عن الفن الفلسطيني المقاوم قال رزيقي إن مهمة الفنان الفلسطيني إيصال قضيته إلى العالم، كلٌ في مجاله على صعيد الغناء أو الرسم أو النحت أو غيرها، فبرأيه كل فنان هو سفير لقضيته يعرف بها بطريقته.
ويعود الانتشار الواسع لمثل هذه الأغاني أن كلماتها جاءت قريبة جدًا من أسلوب حديث الشباب الفلسطينيين دون تنميق، كما أن أسلوبها تحفيزي ثورجي لا يخلو من الفخر والاعتداد بالنفس، ما يعطي للفلسطيني أملًا وحماسًا، يحتاج لهما في ظل الواقع الراهن الذي تحالفت فيه الحكومات العربية مع عدوهم، وما زاد من انتشار هذه الأغاني أن كلماتها جاءت مرافقة لموسيقى جديدة وحماسية.
الكاريكاتير.. سخرية مُقاوِمَة
لم يغب الكاريكاتير عن المشهد اليومي الفلسطيني، وأخذ بالتطور شيئًا فشيئًا حتى تدخل في غالبية مناحي الحياة، سواء الاجتماعية أم الاقتصادية أم الثقافية أم السياسية، إذ يعد الكاريكاتير جزءًا من مشروع التحرر الوطني كما قال رسام الكاريكاتير علاء اللقطة في حديثه مع “نون بوست”، فهو نوع من أنواع المقاومة الناعمة التي يؤيدها كثير من الناس خاصة في المجتمع العالمي.
ويعمل فن الكاريكاتير على صعيدين بتناغم كامل، كما يرى الفنان اللقطة، فهو من ناحية يعزز صمود الفلسطيني، بإبراز نقاط القوة في مسيرة النضال الفلسطيني، كما حدث في هبة مايو/أيار الأخيرة، فقد أظهر الفلسطيني بصورة القوي الثابت القادر على تحرير أرضه واختراق الترسانة الإسرائيلية التي يروج الاحتلال على أنها لا تخترق، ويعمل من ناحية أخرى على تثبيط الدعاية الصهيونية والرد عليها.
فصور الفنان اللقطة في إحدى رسوماته الكاريكاتيرية في عدوان الاحتلال على غزة 2021، القبة الحديدية على أنها بويضة، وصور صواريخ المقاومة بالحيوانات المنوية التي اخترقتها، فسينمائيًا نستطيع القول إن هذه اللوحة تحمل معنيين، الأول قوة وفاعلية صواريخ المقاومة التي استطاعت اختراق القبة الحديدية، فعلميًا نعلم أن الحيوانات المنوية القوية والصحية هي فقط من تستطيع الصمود في طريق الوصول إلى البويضة، أما المعنى الثاني فيدل على ضعف القبة الحديدية، إذ نرى في الصورة أن صواريخ المقاومة اخترقتها من أماكن عدة، وعلميًا نعلم أن البويضة الصحية لا يمكن اختراقها إلا من حيوان منوي واحد، وهو ما يدل على ضعفها مقارنة بقوة صواريخ المقاومة.
وعن مشاركة فلسطينيي الداخل المحتل بهبة مايو/أيار، رسم الفنان اللقطة كاريكاتيرًا معبرًا ينسف كل ما روج الاحتلال له طيلة سنوات احتلاله لأرض فلسطين التاريخية، من تعايش بين فلسطينيي 48 والمستوطنين، ومن نجاح لأسرلة الفلسطيني الذي نجح في البقاء في أرضه، فرأينا الفلسطيني في كاريكاتير اللقطة يخترق العلم الإسرائيلي من وسطه لابسًا الكوفية الفلسطينية وحاملًا العلم الفلسطيني ورافعًا إشارة النصر، في دلالة على أن الفلسطيني لم ينس أصله وانتماءه، ولم يخف في إظهار هويته الحقيقية، في قلب الدولة اليهوية، وهو ما يدل على إضعاف أمن الاحتلال من ناحية أخرى، فمن قلب كيانه خرج من يطالب بالتحرر.
لا ينفك الفن الفلسطيني عن كونه أداةً مقاومةً يستخدمها المناضلون للدفاع عن وطنهم وقضيتهم، فطريق المقاومة والمشروع التحرري لم يكن يومًا دربًا واحدًا، بل دروب متعددة تفضي في نهايتها إلى ذلك الهدف الكبير، وهو استعادة الوطن.