تشهد الساحة الشرق أوسطية الأيام الأخيرة سيولة سياسية ربما تؤثر في ديناميكية المشهد وتعيد تشكيل خريطته التحالفية بما يتمايز بشكل أو بآخر عن الوضع المستقر نسبيًا على وتيرة واحدة خلال السنوات الأربعة الماضية، وهو ما أعاد الاجتهادات والتكهنات للأضواء مرة أخرى بعد فترة سبات عميق.
حدثان فرضا نفسيهما على المنطقة هذا الشهر، الإطاحة بأطول رئيس وزراء في حكومة “إسرائيل” بنيامين نتنياهو واختيار حكومة ائتلافية جديدة تعاني من أوجه قصور عدة، ثم انتخاب المحافظ إبراهيم رئيسي رئيسًا لإيران خلفًا للإصلاحي حسن روحاني، سبقهما انتخاب الديمقراطي جو بايدن رئيسًا لأمريكا بعد الخسارة المدوية التي تلقاها الرئيس المثير للجدل دونالد ترامب.
3 تطورات من المتوقع أن يكون لهم تأثير بالغ في تحديد هوية المنطقة خلال السنوات الأربعة القادمة على أقل تقدير، وإن تفاوت حجم ومنسوب هذا التأثير بين أبطال تلك المؤثرات وأنظمة الحكم بها، وانعكاسات سياساتهم على شعوب ودول الشرق الأوسط وقضاياها وملفاتها الإقليمية.
وفي الجهة الأخرى ربما يمتد هذا التأثير إلى حكومات الدول الثلاثة، وفي المقدمة منهم الحكومة العبرية، التي قد تجد نفسها في وضعية حرجة بعد فوز رئيسي بالانتخابات الإيرانية، والتوجه الأمريكي الجديد بشأن فتح قنوات اتصال مع طهران لإحياء مسار الاتفاق النووي مرة أخرى.
الخطوات السريعة التي تخطوها واشنطن للإسراع بمسار المفاوضات غير المباشرة مع الإيرانيين في مباحثات فيينا تمثل نقطة محورية في استمرار حكومة بينيت – لابيد، وتحدد في ثناياها – وما يمكن أن يتمخض عنها من نتائج – مستقبل تلك الحكومة التي تعاني من شكوك واضحة في قدرتها على التعاطي مع بعض الملفات الحساسة.
خط أحمر
في محاولة منه لتقديم أوراق اعتماده للشارع اليميني الإسرائيلي أكد نفتالي بينيت أن ملف “الاتفاق النووي الإيراني” خط أحمر، مشددًا على استمرار حكومته في السير على نهج حكومة نتنياهو في تضييق الخناق على طهران ومناهضة أي تحركات لها في المنطقة.
بينيت وقبيل منح البرلمان الثقة لحكومته قال: “العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران خطأ سيعطي الشرعية مرة أخرى لواحد من أعنف وأشد الأنظمة في العالم”، منوهًا أنه لن يسمح لها بامتلاك الأسلحة النووية، قائلًا: “إسرائيل ليست طرفًا في الاتفاق النووي، وستحافظ على حرية التصرف الكاملة”.
رئيس الحكومة العبرية يعتبر أن الاتفاق النووي الموقع عام 2015 هو ما منح إيران الشرعية الدولية ومليارات الدولارات التي أنفقتها على بناء “بؤر إرهابية في سوريا وغزة ولبنان واليمن” على حد وصفه، منوهًا إلى ضرورة منع أي تحركات من شأنها أن تعيد هذا الاتفاق مرة أخرى بعد الانسحاب الأمريكي منه في 2018.
يسير التحالف الحكومي الجديد على ذات المنهجية التي كان يتبعها نتنياهو خلال السنوات الماضية، حيث توظيف الخطاب الشعبوي الذي يغازل التيار اليميني المتطرف داخل دولة الاحتلال، الذي كان لأعوام عدة حائط الصد الأقوى في مواجهة أي انتقادات داخلية أو خارجية تتعلق بالقصور في الأداء وخلل السياسات.
المواقف المتشددة والحاسمة والجدلية إزاء الفلسطينيين وطهران ربما يكون الإستراتيجية الوحيدة التي يحاول بها الائتلاف الحكومي سحب البساط من تحت أقدام المعارضة اليمينية
فوز رئيسي.. قلق وترقب
أحدث فوز إبراهيم رئيسي في الانتخابات الأخيرة قلقًا كبيرًا لدى دوائر صنع القرار في الدولة العبرية، لما لذلك من مؤشرين كبيرين: الأول يتعلق بأن فوز المرشح المحافظ سيخلق حكومة متماسكة (معظمها من أبناء هذا التيار)، وقادرة على إضفاء حالة من الاستقرار على الوضع السياسي الداخلي، إذ من المرجح أن تتوحد الحكومة وكل مؤسسات الدولة على كلمة واحدة، ما يقلل نسبيًا من الفجوة بين الإصلاحيين والمحافظين التي كانت سببًا في إشعال الاضطرابات السياسية خلال السنوات الماضية.
الثاني: أن الموقف المتشدد للسلطة الجديدة إزاء الاتفاق النووي والتصعيد المحتمل في التعاطي مع بعض الملفات، ربما يمثل ضغطًا كبيرًا على القوى الدولية، الأمر الذي قد يدفع بعضها للرضوخ أمام الرغبة الإيرانية، وهو ما قد ينعكس سلبًا على النفوذ الإسرائيلي في المنطقة.
وتخوفًا من تلك المؤشرات، استبقت حكومة الاحتلال الأمر بشن حملة تشويه ممنهجة ضد رئيسي عقب إعلان فوزه، البداية كانت مع الخارجية الإسرائيلية التي وصفت الرئيس الإيراني الجديد بأنه “الأشد تطرفًا” بين رؤساء إيران السابقين، لافتة إلى أن انتخاب رئيسي “يثير قلقًا بالغًا لدى المجتمع الدولي” .
بينيت هو الآخر مارس هوايته في الهجوم على رئيسي حيث وصفه بـ”القاتل المجرم”، في محاولة للضغط عليه من خلال تأليب الرأي العام العالمي ضده، هذا بخلاف حشد اللوبي الصهيوني في الداخل الأمريكي لممارسة أقصى أنواع الضغط الممكن على إدارة بايدن للاستمرار في سياسة تضييق الخناق التي كان يتبعها ترامب، والحيلولة دون عودة واشنطن للاتفاق النووي مرة أخرى.
حكومة هشة.. البحث عن انتصار زائف
تواجه الحكومة الائتلافية العبرية الجديدة انتقادات حادة بشأن تماسكها وقوتها وقدرتها على التعامل مع العديد من الملفات الحيوية، داخلية كانت أم خارجية، فالحكومة التي خرجت من رحم الاضطرابات السياسية والمزايدات الحزبية والمدعومة بثمانية أحزاب، تعاني من انقسامات واضحة في العقلية الأيديولوجية والحاضنة السياسية لها، حيث لا يجمع بينها إلا الرغبة في إزاحة نتنياهو بعيدًا عن المشهد الذي تربع عليه قرابة 15 عامًا.
حالة الهشاشة التي تعاني منها تلك الحكومة سيعزز فرص المعارضة اليمينية بقيادة نتنياهو الحالم في العودة إلى السلطة مرة أخرى، في الانتقام والثأر، فقد وجد في الملف الإيراني فرصته التاريخية لإسقاط هذا الائتلاف الجديد في أقرب وقت ممكن.
نتنياهو في تصريحه الأخير قبيل المصادقة على الحكومة الجديدة أمام الكنيست، ألمح إلى أن بينيت لا يملك “المكانة الدولية أو المعرفة أو الحكومة أو ثقة الشعب التي يجب أن تؤخذ على محمل الجد عند محاربة التهديد الإيراني”، مضيفًا “يجب أن يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي قادرًا على أن يقول لا لرئيس الولايات المتحدة في الأمور التي تعرض وجودنا للخطر”، محذرًا من أن إيران تحتفل بحكومة “إسرائيل” الضعيفة الجديدة، مضيفًا بالإنجليزية: “سنعود قريبًا”.
وفي ظل تلك الوضعية الحرجة، ليس أمام بينيت وحليفه لابيد إلا البحث عن أي انتصارات خارجية من شأنها تعويض العجز الداخلي والانقسامات التي تعاني منها حكومتهما، ولتفويت الفرصة على المعارضة المتوقع أن تكون قوية، وعليه فلا مجال إلا المزيد من التصلب في السياسة الخارجية.
المواقف المتشددة والحاسمة والجدلية إزاء الفلسطينيين وطهران ربما يكون الإستراتيجية الوحيدة التي يحاول بها الائتلاف الحكومي سحب البساط من تحت أقدام المعارضة اليمينية، ومن جانب آخر كسب دعم وتأييد التيارات المتشددة في الداخل ونظيراتها في أمريكا.
الاتفاق النووي ومستقبل التحالف
تواصل حكومة بينيت جهودها وضغوطها لأجل الإبقاء على الاتفاق النووي الإيراني في منطقته الرمادية، لا اعتراف كامل ولا انسحاب كامل، ما قد يدفع الرئيس الإيراني المتشدد للانخراط في مواجهات صدامية مع الغرب، وهي المواجهات التي سيكون لها ارتدادات عكسية على موقف طهران الدولي، وهو ما تريده إسرائيل ويصب في النهاية في صالح الائتلاف الجديد الذي قد يعتبر ذلك انتصارًا ينسبه لنفسه ويروج له داخليًا فيقطع الطريق على مخطط المعارضة في الإطاحة به.
لكن يبقى السؤال: ماذا لو نجحت المفاوضات الأمريكية في إحياء الاتفاق مرة أخرى؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال تجدر الإشارة إلى أن المخطط الذي يتبناه بينيت ربما يتعارض بشكل كبير مع الجهود التي تبذلها واشنطن في هذا المسار، وهو ما قد يقود إلى صدام مرتقب بين الطرفين، رغم العلاقات القوية التي تجمع بينهما والتأييد الكامل الذي أبدته الإدارة الأمريكية الجديدة حيال الدفاع عن مصالح الدولة العبرية.
نجاح واشنطن وطهران في الوصول إلى اتفاق -لاوإن طال أمده نسبيًا – سيدفع الحكومة الإسرائيلية إلى تبني مواقف خارجية أكثر تطرفًا تجاه سوريا وفصائل المقاومة الفلسطينية وحزب الله، وهو الباب الأكبر لنشوب خلافات حادة مع أمريكا، ما قد يعجل بسقوط تلك الحكومة
الإدارة الأمريكية لم يعد أمامها إلا العود إلى اتفاق 2015 كونه الوسيلة الوحيدة لمنع طهران من تصنيع كامل للسلاح النووي في ظل الخطة المرحلية التي تتبناها فيما يتعلق بنسب التخصيب ومعدلات الانسحاب من الالتزامات السابقة، وإن كان التلكؤ خلال المرحلة الأخيرة للحصول على أكبر قدر من الالتزامات الإيرانية في ظل الحكومة الإصلاحية فإن الوضع الآن اختلف كثيرًا مع ولاية رئيسي المتشدد.
نجاح واشنطن وطهران في الوصول إلى اتفاق – وإن طال أمده نسبيًا – سيدفع الحكومة الإسرائيلية إلى تبني مواقف خارجية أكثر تطرفًا تجاه سوريا وفصائل المقاومة الفلسطينية وحزب الله، وهو الباب الأكبر لنشوب خلافات حادة مع أمريكا، ما قد يعجل بسقوط تلك الحكومة، خاصة في ظل تربص المعارضة الداخلية بها وتوظيف كل تلك التطورات لصالح أجندتها الداخلية في الإطاحة بهذا الائتلاف كما تعهدت سابقًا.
وفي المجمل.. فإن العودة للاتفاق النووي مسألة تحتاج إلى مزيد من الوقت، لا سيما مع وجود السلطة الإيرانية الجديدة التي ربما تتجرد من كل الضغوط الداخلية التي كانت تُمارس على حكومة روحاني، وأيًا كانت السيناريوهات فإن مخرجات عملية التفاوض بشأن هذا الملف ستغير شكل المنطقة بصورة كبيرة، وليس الحكومة الإسرائيلية وفقط.