فلتان أمني، عمليات اغتيال وحملات اعتقال.. هذا ما تعيشه محافظة درعا جنوبي سوريا، منذ سيطرة نظام الأسد على الجنوب السوري خلال يوليو/ تموز 2018، بعد اتفاق عُرف آنذاك بـ”التسوية”، برعاية روسية وتخلٍّ دولي عن فصائل المعارضة السورية، التي كانت تسيطر على المنطقة.
كما تواصُل قوات نظام الأسد والميليشيات المتواجدة في محافظة درعا، رغم اختلاف الجهات التي تتبع لها، تضييق الخناق على الأهالي الذين ثبتوا في منازلهم، وأجروا تسوية مع نظام الأسد وفق بنود عديدة تضمّنها الاتفاق برعاية روسية، دون تقيُّد النظام بتنفيذها في اغلب الأحيان، وبتغاضٍ روسي مقصود عن انتهاكاته.
في 24 يونيو/ حزيران الجاري فرضت قوات نظام الأسد طوقًا أمنيًّا على منطقة درعا البلد، من خلال إغلاقها لكافة الطرق والمداخل المؤدية إليها، عقب رفض لجنة درعا المركزية المطالب الروسية الجديدة التي تحاول فرضها عنوة على أهالي المحافظة، بينما حلّق الطيران الروسي على علو منخفض في سماء منطقة درعا البلد، مهددًا شن عملية عسكرية في حال عدم انصياع الأهالي للمفاوضات الروسية.
مطالب روسية.. مرفوضة!
جاء التصعيد على خلفية طلب جنرال روسي، عُيّن مؤخرًا في منطقة الجنوب السوري، من اللجنة المركزية في درعا البلد، تسليم 200 قطعة سلاح فردي خفيف، و20 قطعة سلاح نوع BKC يملكها الأهالي، ومقاتلين كانوا في صفوف الجيش السوري الحر سابقًا، لكنهم أجروا تسوية مع النظام من أجل البقاء في منازلهم.
وقدم الجنرال الروسي عرضًا مقابل تسليم السلاح، وهو إخراج اللجان المحلية التابعة للأجهزة الأمنية من مواقعها في حي المنشية وحي سجنة وجمرك درعا القديم، المسؤولة عن عمليات الاغتيال بحق معارضين سابقين شاركوا في مؤسسات المعارضة العسكرية والمدنية، وانتهاكات كبيرة بحق الأهالي.
كما حملت المطالب إجراء تسوية جديدة وفتح معبر درعا البلد القديم، وإنشاء نقاط روسية في درعا البلد وتسليح مجموعة محددة من المقاتلين، لكن تلك المطالب قوبلت بالرفض لعدم الالتزام أساسًا بالشروط السابقة، ما دفع النظام لإغلاق الطرقات والتلويح بعصا العمليات العسكرية مدعومًا من روسيا، وسط حالة ترقب وتوترات أمنية.
في حديثه لموقع “نون بوست”، قال الناطق باسم تجمع أحرار حوران أيمن أبو نقطة: “طلب الجنرال الروسي أيضًا السماح لقوات نظام الأسد بالدخول إلى أحياء درعا البلد، وإجراء عمليات تفتيش ومعاينة، في حين رفضت اللجنة المطالب المقدمة”.
وأكد: “السبب الرئيسي للرفض هو أن السلاح ملك خاص للشباب، ولا يتبع لأي فصيل سابق في درعا البلد لأنها سلمت سلاحها الثقيل والمتوسط الذي يتبع للفصائل خلال اتفاق التسوية، والذين يملكون السلاح يستخدمونه لحماية أنفسهم فقط خشية عمليات الاغتيال”.
بيان اللجان المركزية والأهلية في محافظة درعا حول الضغوط الروسية على #درعا_البلد #فكوا_الحصار_عن_درعا_البلد pic.twitter.com/XxBzhimw6B
— أحمد أبازيد (@abazeid89) June 27, 2021
ما علاقة الانتخابات؟
يرجّح ناشطون أن أسباب عملية التصعيد ضد الأهالي في محافظة درعا، تعود إلى فترة الانتخابات السورية التي جرت خلال شهر مايو/ أيار، حيث رفض الشارع في درعا الانتخابات الرئاسية السورية ولم تشهد المحافظة أية عمليات اقتراع، وهذا التصعيد بمثابة انتقام تنفذه قوات نظام الأسد.
وهذا ما أكده الصحفي باسل غزاوي لموقع “نون بوست”، في قوله: “جاء التصعيد الأخير تجاه درعا البلد على خلفية رفضها للانتخابات الرئاسية، من خلال حراك سلمي وإضراب الأهالي، ومطالبتهم بإسقاط النظام، ما أثار قلق النظام مجددًا بعد سعيه الدؤوب لجعلها منطقة موالية”.
النظام يعاقب أهالي درعا البلد بالحصار بعد رفضهم المطالب الروسية
وأضاف: “بدأ نظام الأسد بعد الانتخابات الرئاسية، بأخذ إجراءات انتقامية من خلال التضييق على درعا البلد وعزلها عن مركز المدينة، بعد اجتماع مع قيادات أمنية وسياسية في مقر قيادة حزب البعث في حي المطار بدرعا، من أجل العبث في استقرار المنطقة من خلال الخلايا الأمنية”.
في غضون ذلك اعتبر الأهالي أن اتفاق التسوية الذي جرى عام 2018، لا ينص على تسليم السلاح الخاص، وإنما نصَّ على تسليم السلاح الثقيل والمتوسط الذي تعود ملكيته للفصائل في الجنوب السوري.
تغاضٍ روسي عن بنود التسوية
قال أيمن أبو نقطة، في حديثه لموقع “نون بوست”: “إن الأهالي لا يثقون بروسيا لأنها لم تفرض على النظام تنفيذ البنود الخاصة به في اتفاق التسوية، في حين يشكل إغلاق كافة الطرقات المؤدية إلى درعا البلد حصارًا لمحاولة الضغط على الأهالي، في ظل رفضهم للمطلب الروسي”.
وعلى الرغم من رعاية روسيا لتنفيذ كافة بنود الاتفاق، إلا أنها كانت تتغاضى عن مماطلة نظام الأسد فيما يتطلب منه، مع تهميشه المتواصل للبنود التي تحدث عنها الأهالي، ومنها إخراج آلاف المعتقلين المغيبين في السجون.
حيث إن رئيس شعبة المخابرات العسكرية، محمد محلا، قال خلال زيارته إلى درعا بعد اتفاق التسوية، إنه لا وجود لمعتقلين قبل عام 2014، وهذا ما قد يعني أن نظام الأسد مسؤول عن مقتل الآلاف من أبناء المحافظة في أقبية سجونه.
وبين حين وآخر يطلق نظام الأسد سراح عشرات المعتقلين الذين احتجزتهم الأفرع الأمنية في الأشهر الأولى ما بعد التسويات، حيث يحاول من خلال ذلك خداع المجتمع الدولي في تنفيذه لمطالب الأهالي وبنود التسويات، إضافةً إلى إعادة الموظفين والعاملين في القطاع العام إلى رأس أعمالهم، وإعادة الخدمات في منطقة درعا، وإيقاف عمليات الملاحقة الأمنية والاعتقالات التعسفية، وإزالة الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش.
لماذا يغيب الاستقرار؟
تسعى روسيا ونظام الأسد إلى زعزعة الأمن والاستقرار في محافظة درعا، لفرض السيطرة الفعلية على كامل المحافظة، إلا أن كثرة الميليشيات المحسوبة على جهات متنوعة منها تتبع لروسيا والنظام وإيران و”حزب الله”، جعلتها تفشل في تحقيق ذلك، وفي الوقت ذاته يحاول نظام الأسد إبقاء درعا خارج الدائرة التي قد تسبب له إحراجًا أمام المجتمع الدولي، نتيجة عدم وفائه بتعهداته والتزاماته فيما يخص بنود التسوية.
حول الموضوع، أوضح الصحفي باسل الغزاوي: “إن الاستقرار لدى نظام الأسد يكمن في عدم خروج تظاهرات مناهضة له في محافظة درعا، في حين ترى اللجان المحلية التي شُكّلت عقب التسويات من وجهاء المنطقة وقادة فصائل سابقين، أن الاستقرار يكمن في إخراج المعتقلين، وإعادة الجيش للثكنات العسكرية ما قبل عام 2011، والكشف أيضًا عن مصير المغيبين وإيقاف عمليات الاغتيال التي ترعاها قوات نظام الأسد”.
وأكد الغزاوي: “أن اتفاق التسوية لم ينجح لأن الأفرع الأمنية تتحكم بمصير الناس، مع غياب مؤسسات الدولة التي يمكن الوثوق بكلامها، وهذا يوضحه ما يجري في درعا الآن من إلغاء بنود والاستغناء عن بعضها من قبل أشخاص محسوبين على الجهات نفسها، لذلك لا يزال الجنوب السوري يشهد فلتانًا أمنيًّا”.
ويرى الغزاوي أن نظام الأسد يحاول جعل الجنوب السوري منزوع السلاح، حتى لو كلفه ذلك القيام بعملية عسكرية، لأنه يريد الانتقام ردًّا على رفض الانتخابات، وإسقاط الرمزية الثورية للمحافظة التي ما زالت محافظةً عليها، على الرغم من سيطرة قواته عليها.
توترات أمنية وحالة ترقب في درعا
عمليات اغتيال واعتقال
تشهد محافظة درعا كاملةً توترات أمنية متواصلة لم تغب عنها منذ اتفاق التسوية، حيث لا يمضي يوم دون عملية اغتيال واعتقال. وتختلف الغاية من عمليات الاعتقال في الجنوب السوري، التي تطال شبّانًا عملوا في مؤسسات المعارضة السورية سابقًا، المدنية والعسكرية والإغاثية.
وقال عضو مكتب توثيق الشهداء في درعا، محمد الشرع، خلال حديثه لموقع “نون بوست”: “إن أسباب الاعتقال التي تنفذ مختلفة ومتنوعة، منها لإجراء التحقيقات ومنها جنائي أو لأمور أخرى حصلت ما قبل التسوية، ومعظم المستهدفين هم من المدنيين والناشطين الإغاثيين وعناصر الفصائل الذين أجروا تسويات مع نظام الأسد”.
وتنفذ عمليات الاعتقال أفرع النظام الأمنية (الأمن الجنائي، الأمن العسكري، المخابرات الجوية وأمن الدولة)، وميليشيات أخرى محسوبة على نظام الأسد.
وأكد الشرع “أن عدد المعتقلين بلغ الـ 1900 معتقل، ضمنهم تم الإفراج عنهم على دفعات متتالية منذ التسويات، و145 شخصًا اعتقلوا منذ مطلع يناير/ كانون الثاني 2021 وحتى الآن”.
وعن عمليات الاغتيال التي تطال المدنيين ومسؤولين وعناصر سابقين في فصائل المعارضة، قال الشرع: “إن الجميع معرضون للاغتيال في محافظة درعا، وغالبًا ما تكون الجهات المنفذة مجهولة لأن غياب الأدلة لا يمكّننا توجيه اتهامات لجهة معينة، فمنها من تنفذها ميليشيات النظام ومنها من ينفذها مجهولون”.
وأصدر مكتب توثيق الشهداء في درعا في وقت سابق، إحصاءً لعمليات الاعتقال خلال عام 2020 وحده، حيث طالت أكثر من 750 شخصًا، موزعين على العديد من الأفرع الأمنية التابعة للنظام، بينهم 17 سيدة و5 أطفال، وتم الإفراج عن 201 معتقلًا في وقت لاحق من العام نفسه.
ووثّق المكتب أيضًا 409 عملية ومحاولة اغتيال، أدت لمقتل 269 شخصًا وأصابة 102 آخرين، بينما نجى 38 شخصًا من محاولات اغتيالهم، في حين تتواصل عمليات الاغتيال بحق مدنيين وعسكريين.
ويعيش المدنيون في الجنوب السوري على وقع الفوضى الأمنية وغياب المؤسسات الخدمية التابعة للدولة، في ظل سطوة الميليشيات التي تتحكم بكامل أنحاء المحافظة، وسط ضغط روسي ومطالب عديدة تفرض على السكان من أجل تطويعهم وإعادتهم عنوة تحت قبضة نظام الأسد، فهل تشهد المدينة انفراجه؟