ترجمة حفصة جودة
كانت أشجار النخيل هي القشة التي قسمت ظهر البعير، حيث كانت في التصميم الفائز لمسابقة اليونسكو لإعادة ترميم أشهر معالم مدينة الموصل، اشتكى معماريو العراق من أن أشجار النخيل وهذا التصميم على الطراز الخليجي ليسوا أصليين في هذه المدينة التاريخية.
لم يكن عقد التصميم النهائي – الذي تموله الإمارات العربية المتحدة وحصل عليه فريق معماريين مصري – والجائزة البالغ قدرها 50 ألف دولار فقط على المحك، بل فخر واعتزاز ثاني أكبر مدينة في العراق، التي تقوم من تحت الأنقاض بعد معركتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لأربع سنوات.
يقول إحسان فتحي أحد أشهر معماريي العراق عن مسابقة مشروع مسجد النوري: “بصراحة، إنه فشل تام، الأمر كله مأساة مروعة بالنسبة لنا”، كان لدى السيد فتحي واتحاد المعماريين العراقي شكاوى أكثر جوهرية بشأن الفوز بدخول مجمع المسجد الجديد من أشجار النخيل المزروعة، بما في ذلك عناصر يجدونها معادية للإسلام وعدم وجود موقف للسيارات، يقولون إن ذلك يخون التراث المعماري للمدينة التاريخية.
هناك شعور عام بالاستياء في بلد يفخر بتاريخه المعماري الذي احتضن رفعت الجادرجي الذي يعد أبو المعمار الحديث في العراق، وأيقونة التصميم زها حديد، ففي العقود السابقة كانت العمارة مهمة جدًا في العراق حتى إنه كلف المعماري الفرنسي الشهير لو كوربوزييه ببعض مبانيه وبتخطيط من المعماري الشهير فرانك لويد رايت.
أصدرت الجمعية العراقية للمهندسين التي تشرف على اتحاد المعماريين، بيانًا تعارض فيه المشروع، كما رفضت جمعية الحفاظ على التراث المعماري العراقي التصميم الفائز بالمسابقة واعتبرته معيبًا للغاية، وقالت إن التصميم يقدم مفاهيم غريبة كثيرة ستغير الموقع بشكل لا يمكن التعرف عليه، وطالبت رئيس الوزراء العراقي بالتدخل.
إنه ليس مجرد موقع لأي مسجد، يُعرف المسجد رسميًا باسم الجامع النوري الكبير، وهناك في 2014 أعلن أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” خلافته بعد أن سيطر مقاتلو الجماعة على مدينة الموصل بالإضافة إلى ثلت العراق وأجزاء من سوريا، بعد 3 سنوات قاتلت القوات العراقية بدعم أمريكي الجماعة الإرهابية، ففجر مقاتلو داعش المسجد ومئذنته الشهيرة عند انسحابهم.
دمرت الضربات الجوية والتفجيرات أجزاءً كبيرةً من المدينة القديمة للموصل وقتلت آلاف المدنيين بالإضافة إلى مئات من القوات الأمنية للعراق، يعد إعادة بناء المسجد أمرًا ضروريًا لإظهار فكرة أنه رغم الخسائر فإن المدينة المدمرة انتصرت على داعش.
يرجع تاريخ المسجد النوري الذي سُمي على اسم نور الدين محمود زنكي حاكم الموصل وحلب، إلى القرن الـ12، لكن بناءه اكتمل في أربعينيات القرن الماضي، سيرمم المشروع البالغ قيمته 50 مليون دولار كنيستين قريبتين تضرررتا بشكل بالغ وإصلاح المئذنة التي تعود للقرن الـ12 قرب المسجد وتعد رمزًا مهمًا للموصل حتى إن صورتها موجودة على ورقة النقود فئة 10 آلاف دينار عراقي.
في إعلانها عن المسابقة المعمارية، قالت الوكالة الثقافية للأمم المتحدة إن التصميم الجديد يهدف إلى تعزيز تماسك المدينة وتصالحها، لكن في العديد من الدوائر لم يحقق ذلك إلا إثارة الصخب بين المعماريين ومخططي المدن وبعض سكان مدينة الموصل الذين يقولون إنه يتجاهل تراث العراق.
ربما في إشارة إلى الإمارات العربية المتحدة – التي ستدفع الفاتورة – فإن التصميم الفائز يتميز بالحجر كريمي اللون ذي الزوايا المستقيمة الموجودة في الخليج، وذلك على النقيض من الأقواس وحجر المرمر المحلي ذي العروق الزرقاء وحجر الجير الذي يميز مباني الموصل.
يقول أحمد طحالة، محاضر بالهندسة المعمارية في جامعة الموصل: “لا تظهر لغة العمارة المحلية هنا، خاصة بالنظر إلى تلك المدينة التاريخية، فالخامات والألوان والعناصر والتناسب والتناغم والعلاقات بين العناصر، كلها من لغة أخرى غريبة”، ويقول فتحي: “يبدو مثل الإمارات تمامًا”.
لنكون منصفين فإن بعض المتطلبات كانت بتفويض من مجلس الوقف السني في العراق الذي يشرف على المساجد السنية في العراق، في أحد الأيام الأخيرة بموقع العمل، قال مدير مشروع الوقف السني ماهر إسماعيل: “إنه تصميم جميل”.
سيتضمن مجمع المسجد الواسع حديقةً عامةً ومدرسةً ثانويةً دينيةً ومركزًا ثقافيًا، أما المسجد والمئذنة فسيتم ترميمهم دون أي تغيير معماري، يقول إسماعيل إن انتقاد تصميم المجمع نشرته شركات معمارية غيورة، وأضاف “هناك بعض الأشخاص الذين أرادوا العمل على المسجد ولم يحظوا بالفرصة، فخلقوا بعض المشكلات لإيقاف العمل”.
بعد موجة الغضب، عقدت اليونسكو اجتماعًا مع اتحاد المعماريين العراقي، الذي أكد ضرورة استشارتهم منذ البداية، من بين الشكاوى الأساسية بجانب الشكاوى الجمالية كانت متطلبات المسابقة التي طالبت بمساحة مفتوحة بجوار المسجد تكون متاحة للعامة وقسم منفصل لكبار الزوار يتم بناؤه في شرفة تطل على قاعة الصلاة.
يقول فتحي: “هذا القسم المنفصل الخاص أمر بغيض في الإسلام”، وأضاف أن هيئة التحكيم بمن فيهم رئيس الهيئة – الذي يعد تلميذ سابق له – يفتقرون إلى الخلفية الضرورية في العمارة الإسلامية ليتمكنوا من اختيار التصميم الفائز بشكل مناسب.
هناك أيضًا مخاوف من أن موقف السيارات المخطط له لا يتسع إلا إلى 20 مكانًا – في مدينة لا تملك شبكة مواصلات عامة – وبالتالي لن يستخدم تلك الأماكن سوى موظفي المجمع، يقول إسماعيل إنه بدلًا من بناء قسم لكبار الزوار في قاعة الصلاة نفسها، فإنهم خططوا لبناء قاعة خاصة بجوار المسجد من أجل زيارات المسؤولين.
أشارت اليونسكو أيضًا إلى أن قواعد المسابقة تم تطويرها بالتنسيق مع وزارة الثقافة العراقية، وقالت إنه من المتوقع أن يقدم الفائز تفاصيل أكثر عن التصميم النهائي مع بداية البناء هذا الخريف.
قال بابلو فونتاني – مدير اليونسكو في العراق – إنه من الممكن القيام ببعض التغييرات في الخطط النهائية وهو أمر طبيعي في مسابقة للتصميم الأولي، وأضاف أن اليونسكو ستتشاور مع الخبراء والمعماريين المحليين.
توفي الشريك الرئيسي للشركة المصرية الفائزة صلاح الدين سمير هريدي بعد فترة قصيرة من إعلان نتائج المسابقة، كان هريدي قد توفي بسبب مضاعفات فيروس كورونا، لكن بعض المتعصبين العراقيين كتبوا على وسائل التواصل الاجتماعي أن لعنة سكان الموصل بسبب غضبهم من تصميمه هي التي قتلته.
في موقع البناء بقلب المدينة التاريخية للموصل على الضفة الغربية لنهر دجلة، أزال الطاقم نحو 6 آلاف طن من الأنقاض الناتجة عن تفجير الموقع، كما استعادوا ونظفوا 45 ألف طوبة ستُستخدم لإعادة بناء المئذنة، كما تم فرز قطع الرخام والحجارة من المسجد المتضرر لاستخدامها في الترميم، بينما يرمم النجارون المحليون الأعمال الخشبية المتضررة في المسجد تحت إشراف خبير إيطالي.
على جانب الطريق من المكان المخطط للمجمع، أقام النشطاء المحليون مقهى جديدًا يجاوره صف من المتاجر ذات الألوان الزاهية، وذلك بهدف المساعدة في إحياء هذا الجزء المدمر من المدينة.
يقول مبشر محمد واجد عن تصميم المجمع: “إنه حديث للغاية”، لكن واجد الذي كان يقف في مرسمه الفني الصغير على الجانب الآخر من المقهى حيث يعرض تصميماته لفن الخط، قال إنه بمجرد اكتمال المجمع سيسعد به سكان الموصل كثيرًا، وأضاف “عندما يشاهدون المباني بعد إعادة بنائها سيصبحون سعداء للغاية”.
المصدر: نيويورك تايمز