يناضل المقدسي في حي البستان بشكلٍ يومي للدفاع عن حقه في الوجود والبقاء في منزله المهدد بالهدم بين ليلةٍ وضحاها، نضالٌ استمر لأكثر من خمسة عشر عامًا، بهدف مواجهة الهجمة الاستيطانية الشرسة على الحي، وعلى الوجود الفلسطيني في القدس، الذي تسعى مخططات الاحتلال وسلطاته إلى دحضه والتقليل منه، تماشيًا مع أهدافه التهويدية الواضحة، بإنشاء الحديقة القومية.
بالتزامن مع انتهاء المهلة التي حددتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، لهدم منازل المقدسيين في حي البستان ببلدة سلوان الواقعة جنوبي أسوار البلدة القديمة مباشرة، يسعى هذا المقال ضمن سلسلة “أحياء القدس” للتعرف على حي البستان تاريخيًا وجغرافيًا وديموغرافيًا.
يتمركز حي البستان في قلب بلدة سلوان مجاورًا للمسجد الأقصى من الجهتين الجنوبية والجنوبية الشرقية، ويبعد عن السور الجنوبي قرابة 300 متر، ويمتد على مساحة 70 دونمًا ويسكن في الحي نحو 1550 نسمةً، وتعود تسمية الحي بـ”البستان”، كونه كان فيما مضى أرضًا لزرع الأشجار المثمرة خاصة أشجار التين ذات الطعم الاستثنائي، التي اختفت بالتدريج منذ احتلال القدس عام 1967.
سعت سلطات الاحتلال منذ عام 2005 لهدم الحي بحجة بناء حديقة قومية مكانه، إلا أن عائلات الحي ومن ورائهم المقدسيين خاضوا مواجهات مع قوات الاحتلال لمنع ذلك.
متى بدأت القضية؟
يعرف المخطط العمراني المخصص لبلورة العلاقة بين الصيانة والتطوير في حوض البلدة القديمة، حي البستان كمنطقة مفتوحة يمنع البناء فيها، ولم يسمح في المخطط ضم أي منازل لأهالي الحي، باستثناء مبانٍ معدودة كانت قائمة فيه عند التصديق عليه عام 1976.
على مر السنوات، عانى الأهالي من مشاكل في تصديق الخرائط الهيكلية، ونجحت بعض المحاولات في مناطق محددة من سلوان، إلا أنها لم توفر منطقة لازمة لتوسع الحي ولم تزد من حقوق البناء فيه، ومع تزايد الاكتظاظ في سلوان، بدأ السكان البناء في الحي مجبرين.
تلقت الغالبية العظمى من الـ90 منزلًا الموجودين في المنطقة “الخضراء/المفتوحة” أوامر بالهدم، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2004، قررت بلدية الاحتلال في القدس، هدم منازل المقدسيين في حي البستان بحجة البناء دون ترخيص، ومطلع العام الذي تلاه بدأت بتوزيع أوامر هدم على سكان الحي، وهدمت خلال العام نفسه بيوتًا تابعةً لعائلتيْن فيه.
إثر ضغوطٍ دولية، وافقت بلدية الاحتلال عام 2006 على تعليق قرارات الهدم، لحين قيام السكان بـ”ترخيص” منازلهم، وعند قيامهم بتقديم مخطط هيكلي للحي رفضته سلطات الاحتلال بدعوى ضرورة الحفاظ على تلك المنطقة على أنها “مفتوحة”.
عام 2009 اقترحت بلدية الاحتلال إجلاء السكان من منازلهم طواعيةً إلى منطقةٍ أخرى، إلا أنهم رفضوا ذلك بشكلٍ قاطع، فقدمت بلدية الاحتلال عام 2010، مخططًا جديدًا لإقامة متنزه سياحي “حديقة الملك” في حي البستان، ليكون استمرارًا مباشرًا للحديقة الوطنية لمحيط أسوار القدس، وما يشبه توسيعًا لها.
وورد في كتيب عشية الإعلان عن الحديقة الوطنية، التي تسمى باسم “حديقة الملك”، تخلد وتحفظ المكان الذي كان حسب الترويج الصهيوني، “بستانًا للملك داوود”، وصفًا للرؤيا المتمثلة وهي تحويل حديقة الملك إلى حديقة مزهرة إلى جانب حي سكني تنشط فيه المطاعم وورش الفنانين وحوانيت التذكارات والفنون المحلية وغيرها.
وجاء في المخطط أنه يجب هدم المباني القائمة غربي الحي (22 منها على الأقل) من أجل تطوير الحديقة، فيما سيجري تأهيل المباني التي في شرق الحي (نحو 66 مبنى)، وسيجري توسيع حقوق البناء في هذه المنطقة، ومن المفترض بهذا التوسيع أن يمكّن السكان الذين سينقلون من غربي الحي، من بناء منازلهم الجديدة فوق المباني القائمة في القسم الشرقي، أو على أراض خصوصية إلى جانبها، لكن المخطط لا يذكر كيفية حدوث هذا الأمر على أرض الواقع.
إضافةً إلى ذلك، تقرر إقامة مبنى عام يحوي مدرسةً ورياض أطفال ومركزًا رياضيًا وغيرها، وتنظيم البنى التحتية في الحي للطرقات والمياه والمجاري والكهرباء، وصادقت اللجنة المحلية على مخطط البلدية في يونيو/حزيران 2010، وهذا لا يدع مجالًا للشك أن المخططات الإسرائيلية وضعت خدمةً للسائح اليهودي، متناسيةً وجود مواطنين قاطنين في ذات المكان.
بين قانون كامينتس والهدم الذاتي
كانت بلدية الاحتلال قد أمهلت مطلع يونيو/حزيران الحاليّ، 13 عائلةً من الحي من أصل 17 ينطبق عليها قانون “كامينتس”، 21 يومًا لهدم منازلها ذاتيًا أو تتحمل تكاليف ذلك في حال اضطرت البلدية لإرسال طواقمها وجرافاتها لتنفيذ تلك الأوامر.
فقانون كامينتس دخل حيز التنفيذ في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2017، بعد سنه من كتل اليمين المتطرف في الكنيست الإسرائيلي، وهدفه المعلن “محاربة البناء غير المرخص”، لكن هدفه الحقيقي محاربة البناء العربي وهدم منازل العرب ووقف عملية التمدد العمراني للفلسطينيين.
وبسن هذا القانون تضاعفت المخالفات على البناء غير المرخص 6 أضعاف، إذ أعطى الصلاحية الكاملة لمفتشي البناء التابعين لبلدية الاحتلال في القدس بتحرير مخالفات إدارية بمئات آلاف الشواكل دون الحاجة إلى التوجه للمحكمة التي سحبت منها أيضًا الصلاحية في تأجيل تنفيذ أوامر الهدم.
وبناء على هذا القانون، ينعدم أي مسار قانوني يمكن سلوكه لتأجيل أو منع الهدم للمنازل التي بنيت منذ عام 2017 فصاعدًا.
صمود في وجه آلة التهجير
اتخد أهالي حي البستان قرارًا بالتصدي والتصعيد لمواجهة جرافات الاحتلال وحماية منازلهم من الهدم بطرقٍ قانونية ودبلوماسية، منها: الضغط على المؤسسات الدولية وحشد الرأي العام العالمي مع قضية حي البستان، وازداد التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي بوسم #انقذوا_سلون #أنقذوا_حي_البستان.
كما شرع سكان الحي بإقامة خيمة اعتصام ثابتة من أجل مواجهة قرار الهدم الجماعي، يقيمون فيها فعالياتٍ منددةٍ بالهدم، كما يقيمون فيها صلاة الجمعة، ويشاركهم أهالي القدس بشكل عامٍ وفلسطينيو الداخل.
تشكل نسبة الأطفال في الحي 63% اليوم، ما ينذر بتعرضهم لنكبةٍ جديدة وطرد وتهجير، رغم مخالفة هذه الإجراءات للقانون الدولي، لكن الاحتلال يصر على فرض وقائع جديدة على القدس وإحلال المستوطنين، إذ يتبع الاحتلال وسلطاته في حي البستان سياسة الهدم الجماعي، إلى جانب الهدم الفردي الموجود بشكل شبه يومي في أحياء القدس.
يسعى الاحتلال إلى تهويد المدينة المقدسة بشتى الطرق والوسائل، لإقامة مشروعه “القدس الكبرى”، فلم تعد تنطلي حجة “البناء غير المرخص” على المقدسيين أو غيرهم، فالهدف الأساسي ليس التنظيم والتخطيط إنما استمرار عجلة التهويد وتغيير معالم المدينة المقدسة وإنشاء الحدائق التلمودية وإفراغ المدينة من سكانها الأصليين.