غادرت الفنانة والمنتجة المصرية اعتماد خورشيد، الحياة، أمس الأحد، عن عمر ناهز الـ86 عامًا، بعد تعرضها لوعكة صحية بسبب نقص حاد في الأكسجين وفشل في وظائف الرئة، نقلت على إثرها لمستشفى النزهة الدولي بالقاهرة، حسبما نشر نجلها إيهاب خورشيد.
وتعد الفنانة الراحلة واحدة من أكثر أبناء الوسط الفني المصري جدلًا في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد شهادتها التاريخية التي وثقتها في كتابها الشهير “اعتماد خورشيد: شاهدة على انحرافات صلاح نصر” الصادر عام 1989، الذي يعد الخطوة الأولى باتجاه فضح فساد جنرالات عهد جمال عبد الناصر.
فرضت خورشيد نفسها خلال العقود الثلاث الماضية على منصات الإعلام، داخل مصر وخارجها، بعدما تحولت إلى “شاهد عيان” على جرائم تلك الحقبة الحساسة من تاريخ الدولة المصرية، وهي الفترة التي مهدت إلى نكسة 1967 الشهيرة التي ارتدى خلالها قادة الجيش والسياسة معًا أدوار البطولة دون منازع.
ورغم محاولات التشكيك المستمر في شهادة الفنانة الراحلة، التي أسقطت القناع عن رموز الدولة في تلك الحقبة، فإن الشهادات اللاحقة سواء من بعض ضحايا هذا النظام، ممن زُج بهم في معتقلات ناصر، أم المتعاونين معه من الفنانيين والساسة تؤكد صدق ما جاء في معظم تلك الشهادة التي تحولت إلى “فضيحة” هزت عرش ناصر وكانت سببًا في زيادة حدة الغضب والاحتقان ضد حقبته السياسية.
وكانت خورشيد المولودة في أغسطس/آب 1935 قد أسست شركة إنتاج سينمائي مع صلاح رمسيس ولبنى عبد العزيز شاركت في إنتاج عدد من الأفلام خلال الفترة من أواخر الخمسينيات وحتى السبعينيات، من أبرزها: “أولاد الملجأ وجمعية قتل الزوجات الهزلية، هذا بخلاف مشاركتها في مونتاج أعمال أخرى مثل “العزاب الثلاثة والمغامرة الكبرى والحسناء والطلبة”.
زواج بالإكراه
تزوجت اعتماد بداية الأمر من مدير التصوير السينمائي المعروف في ذلك الوقت أحمد خورشيد، وكان يكبرها بـ28 عامًا، ليبدآ معًا مسيرة فنية حافلة بالأعمال والنشاطات التي لفتت أنظار الجميع آنذاك، بما فيهم رئيس جهاز المخابرات صلاح نصر، الجنرال المقرب من جمال عبد الناصر وصديقه وزير الدفاع المشير عبد الحكيم عامر.
جذب جمالها أنظار مدير المخابرات الذي خطط للإيقاع بها، خاصة أن ذلك الأمر كان معتادًا لديه، وفي إحدى الحفلات التي دعاها إليها في منزله، دعاها لعلاقة معه، لكنها رفضت – حسب شهادتها في أكثر من لقاء متلفز – وألقت بالكارت الشخصي له على الأرض، وهو ما أثار حفيظة نصر الذي أمر حراسه بطردها من منزله، متوعدًا إياها بالعقاب والتنكيل.
وبعد فترة ليست بالقصيرة، وأمام رفض اعتماد محاولات نصر الاقتراب منها، استغل الأخير نفوذه مهددًا زوجها بتطليقها فورًا أو الزج به في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية (المجانين) كما فعل مع صديق سابق له، وما كان من الزوج أمام هذا التهديد والخوف على أبنائه إلا أن يرضخ للأمر، وعلى الفور طلق زوجته.
وصل جبروت نصر أنه لم يكتف بتطليق خورشيد لزوجته أمام عينيها وبحضورها ليتزوجها هو فقط، بل أجبره أن يكون شاهدًا على عقد الزواج العرفي الذي كتبه وقتها، وكان معه وزير الداخلية كشاهد ثانٍ، وهو ما أكدته اعتماد خلال نشرها لصورة من هذا العقد الموقع من طليقها والوزير.
ليالي السمو الروحاني
في كتابها الذي طُبع 6 طبعات خلال ثلاثة أشهر وحقق مبيعات خرافية لم يحققها أي مطبوع آخر، وإن تم منعه وسحبه من الأسواق بحكم قضائي من إحدى المحاكم المصرية، استعرضت فيه الفنانة الراحلة بعض المحطات المهمة في حياة زوجها، رجل الاستخبارات الأول في الدولة، كاشفة النقاب عن تركة ثقيلة من الفضائح وجرائم الفساد التي كانت تتم بزعم حماية الوطن من الأعداء والمتربصين.
اعتماد روت في كتابها كيف كان يستغل زوجها في بيته الفتيات والفنانات اللائي يتم استدراجهن والسيطرة عليهن، حيث الجلسات التي كانت تجمعهن ورجال السياسية والأعمال، وكيف كانوا يقضون لياليهم الحمراء، بدءًا بشرب الخمر بكثافة ثم مشاهدة الأفلام الجنسية ثم ممارسة الجنس وشتى الموبقات، التي كان يسميها “ليالي السمو الروحاني” على حد قولها.
كانت تلك الممارسات تتم بزعم وطني بحت، فالدولة التي تتعرض لمؤامرات داخلية وخارجية في ذلك الوقت، كما كان يروج لذلك جهاز الاستخبارات، تحتاج إلى جهود أبنائها المخلصين للتخلص من تلك المؤامرات عبر الإيقاع بمن يطلقون عليهم “المتآمرين” من خلال الابتزاز الجنسي بديلًا للتصفية الجسدية.
وقد لجأت الفنانة المصرية في كتابها إلى الإشارة بالأحرف الأولى لضحايا جنرالات المخابرات في ذلك الوقت، وكان أغلبهم فنانون وراقصات ورجال اقتصاد وسياسة، وهي الأحرف التي سرعان ما كشف النقاب عنها لاحقًا بعد صدور هذا الكتاب وكان أبرزهم: برلنتي عبد الحميد ونجوى فؤاد وسعاد حسني وشريفة ماهر ورجل الأعمال المعروف عثمان أحمد عثمان، مؤسس شركة المقاولون العرب، الذي كانت مهمته تجهيز السهرات وإمدادها بالخمر كما جاء في الكتاب.
هجوم وتشكيك
أثار الكتاب حملة انتقادات شرسة ضد الفنانة المصرية التي اعتبر البعض اقترابها من تلك المنطقة “خطًا أحمر” لا يمكن السكوت عنه، فتعرضت لهجوم كبير من أنصار الحقبة الناصرية وأبناء المؤسسة العسكرية رغم أن صلاح نصر أدين من نظام ناصر نفسه لتورطه في النكسة وحكم عليه بالمؤبد قبل أن يفرج عنه الرئيس أنور السادات بعد توليه الحكم.
البعض كان يرى أن شهادة اعتماد ليست إلا محاولة لتصفية حسابات قديمة مع رئيس المخابرات الأسبق والجرائم التي ارتكبها بحقها، وأن ما تطرق إليه الكتاب بعيدًا تمامًا عن أرض الواقع، لا سيما أن معظم أبطال وشخوص تلك الوقائع قد رحلوا، ولا سبيل لإثبات صحة المعلومات التي تناولها الكتاب.
لكن في الجهة الأخرى جاءت الشهادات والأحاديث التي أدلى بها بعض الفنانيين، ضحايا صلاح نصر ونظامه، لتؤكد بشكل أو بآخر صحة ما روته اعتماد، ومن ثم تغير الوضع تدريجيًا، ليعاد تسليط الأضواء على كتابها الشهير رغم منعه من الأسواق بأمر قضائي.
في فبراير/شباط 2015 اعترف الفنان الراحل عمر الشريف، بأن مخابرات نصر كلفته بعملية “قذرة”، تبدأ بإقامة علاقة مع فتاة – فنانة شهيرة – تمهيدًا للوصول إلى والدها وتصفيته، لأنه كان من خصوم الدولة الناصرية، بحسب حديث له مع قناة “العربية” السعودية.
استعراض الشريف تفاصيل تجنيده بتلك العملية لافتًا إلى أنه استدعي لمقابلة ضابط مخابرات في السفارة المصرية في لندن، وعرض عليه المهمة، بزعم أن هذا الرجل المستهدف يضر المصلحة العليا للبلاد ولا بد من إسكاته، وما كان أمام عمر إلا قبول العملية ابتداءً، مبررًا ذلك بقوله “سمعة الاستخبارات حينها كانت مقرونة بالتصفية والترويع”.
وبالفعل شرع الفنان المصري في تنفيذ الخطة، مبتدئًا إياها بإيهام المستهدف بأنه ضد نظام عبد الناصر، فقام بسبه أكثر من مرة أمامه لإقناعه أنه على خلاف معه من أجل التقرب منه والإيقاع به، لكن عمر تراجع في اللحظات الأخيرة حين أُبلغ أن الأمر سينتهي بقتله وتصفيته.
حاول عمر الاعتذار بشكل يليق حتى لا يتعرض للإيذاء أو التنكيل من المخابرات، فتحجج أمام الضابط فيما بعد بأن إقامته علاقة مع امرأة أخرى غير فاتن حمامة، زوجته حينها، ستهدد استقراره الأسري تمامًا، وهي الحجة التي قبلها الضابط ليتم تنحية الفنان عن مهمته الموكلة إليه.
الانتقام من الخصوم السياسيين
يتصدر كتاب الفنانة الراحلة قائمة الأعمال الموثقة لجرائم وفساد الحقبة الناصرية، الذي يتناول بالأدلة كيفية استغلال هذا النظام للنفوذ والسلطة من أجل التنكيل بالشعب والتلاعب بمقدراته، ففي إحدى روايتها تصف اعتماد ما رأته في واحدة من الفلل المخصصة لإقامة زوجها رئيس المخابرات.
تقول إنها وجدت حمام سباحة (مسبح) به مياه تغلي، يسمونها “الغلاية” يوضع بها المعارضون فتغلي أجسادهم وتمزق، كما رأت شخصيات معلقة رؤوسها داخل مشانق وتعذب بشكل لم تره من قبل، وهو ما قذف في قلبها الرعب وتوقعت أن تذهب إلى نفس المصير حال مخالفتها رغبات نصر.
الأمور لم تقتصر على الابتزاز الجنسي فقط، بل تجاوز ذلك إلى حياكة المؤامرات للانتقام من الخصوم السياسيين، وعلى رأسهم الإخوان المسلمين وقتها، فتشير إلى أن وزير الحربية، آنذاك، شمس بدران، هو من دبر مؤامرة التنكيل بالجماعة من خلال القول إن الإخوان لديهم تنظيم مسلح لقلب نظام الحكم، وراح ضحية هذه المؤامرة المئات من المصريين فيما عُذب آخرون أبرزهم سيد قطب وزينب الغزالي بجانب شخصيات شيوعية ورجال أعمال بدعوى القضاء على الإقطاع.
وفي شهادة أخرى كشفت أن المخابرات المصرية حاولت اغتيال الملك فاروق في منفاه، وذلك من خلال وضع السم في المحار الذي يأكله في مطعم شهير بروما، وتم ذلك بالتعاون مع مدير المخابرات الإيطالية آنذاك، وهي المحاولة التي لم يكتب لها النجاح، لكنها كانت شاهدة على بطش النظام في مواجهة خصومة، حتى من تركوا مجال المنافسة.
هذا السجل المشين بالتنكيل والفساد لم يغلق حتى بعد رحيل صلاح نصر، الذي أورث هذا الفكر إلى تلامذته وعلى رأسهم صفوت الشريف، الذي سار على درب معلمه لعدة سنوات، قبل أن يفتضح أمره بعد نشر عدة شهادات توثق تورط ضابط المخابرات المقرب من حسني مبارك في تلك الفترة في تلك الجرائم.
كما كانت اعتماد ضحية صلاح نصر، فإن أبناء زوجها الأول (طليقها لاحقًا) كانوا ضحية صفوت الشريف كذلك، الذي اتهمته العائلة بأنه السبب وراء مقتل الفنان عمر خورشيد في مايو/آيار 1981، وعليه وبعد وفاة الشريف في يناير/كانون الأول الماضي، أعلنت الأسرة تقبلها العزاء في وفاة الفنان الراحل بعد مرور 40 عامًا على رحيله.
ورغم رحيل الشاهدة الأشهر على فضائح الكبار في منظومة عبد الناصر، التي امتدت إلى عصري السادات ومبارك، فإن شهادتها وكتابها وما تلاها من شهادات ضحايا تلك الحقبة، ستظل باقية، لتكشف النقاب عن حجم الفساد واستغلال النفوذ الذي كانت عليه مصر في ذلك الوقت.