تسير الأمور الخاصة بمفاوضات سد النهضة إلى مزيد من التعقد والتأزم، وذلك بعد التحول المفاجئ في الموقف السوداني والقبول -المبدئي- باتفاق ينص على موافقة الخرطوم على ملء السد وفق الخطة الزمنية المقررة سلفًا، والتي تقضي ببدء الملء الثاني في الأول من يوليو/ تموز القادم.
وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي، أعلنت أن بلادها قد تلقت من الكونغو مقترح اتفاق مرحلي -تدعمه الأمم المتحدة والولايات المتحدة- لتعبئة سد النهضة، وأنها “قبلت -بشروط- مبدأ الاتفاق المرحلي بشأن سد النهضة، وأن حكومتها اشترطت أن تكون مدة الاتفاق 6 أشهر، وأن يكون توافقيًّا وبضمانات دولية”.
تأتي الخطوة السودانية بعد ساعات قليلة من التصريحات الاستفزازية المثيرة للجدل، الصادرة عن مدير إدارة الهندسة في وزارة الدفاع الإثيوبية، الجنرال بوتا باتشاتا ديبيلي، التي قال فيها إن مصر والسودان لن تستطيعا تدمير السد باللجوء للخيار العسكري، “فهم لن يحاولوا مهاجمة السد، ولكن حتى إن حاولوا مهاجمته فلن يستطيعوا تدميره بقنابل الطائرات المقاتلة، وهم يعرفون أن السد متين”.
وأضاف أن بلاده مستعدة للسيناريو العسكري حال اللجوء إليه، مؤكدًا أن هذا الخيار سينتهي بصورة رسمية بنهاية الملء الثاني، مضيفًا أنه “سيأتي الجميع لبحث مقترحات تقسيم المياه، وحينها ستحمي مصر والسودان السد لأن تدميره سيتسبب في طوفان يقذف بمصر والسودان إلى البحر المتوسط”، وفق تصريحاته لقناة “روسيا اليوم” عقب مشاركته في مؤتمر موسكو التاسع للأمن الدولي.
الموافقة السودانية على الملء الثاني -أيًّا كانت الشروط الموضوعة والتي لم يتم الاتفاق بشأنها مع القاهرة-، جاءت بعد مساعي دولتَي المصب لتدويل القضية من خلال الرسائل المرسلة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة هذا الملف، ما قد يتسبب في إرباك الحسابات المصرية برمتها، ويزيد من تأزيم موقفها في هذا الماراثون الممتد لأكثر من 10 سنوات.
اتفاق جزئي بشروط
ينتاب الاتفاق المزمع هالة من الغموض وندرة المعلومات الخاصة بتفاصيله، ما أثار الكثير من التكهنات والشكوك معًا، فيما كشف مسؤول سوداني رفض ذكر اسمه في حديثه لـ”الأناضول”، أن بلاده تسلمت هذا الاتفاق الجزئي من الكونغو الأسبوع الماضي.
أما العضو السابق في الفريق الممثل للسودان في مفاوضات سد النهضة، أحمد المفتي، فحاول استشراف بعض المعلومات حول المقترح المقدم، قائلًا إن “السودان وافق على الاتفاق المرحلي (مقترح من قبل إثيوبيا) بعد مراعاة عدة شروط، وهي: وجود ضمانات سياسية وقانونية مباشرة من المجتمع الدولي، وأن يستمر الالتزام الجزئي من قبل إثيوبيا حتى الوصول لاتفاق شامل وقانوني ملزم”.
وأضاف المفتي أن من بين الشروط “ألا يشمل الاتفاق الجزئي اتفاق تقاسم المياه، بجانب وضع مدى زمني للتوصل إلى اتفاق شامل حول أزمة السد لا يتعدى 6 أشهر، والتوقيع على كل ما تم الاتفاق عليه في الفترة السابقة”، موضحًا أن مصر “ستكون جزءًا من المبادرة الإثيوبية والتفاوض حول الملء الثاني والتشغيل لسد النهضة”.
ردّ مصري
لم يصدر عن القاهرة أي رد رسمي بشأن الخطوة السودانية تلك، فيما أكدت الخارجية المصرية على التمسك بموقفها بشأن رفض أي محاولة لفرض الأمر الواقع بالقوة، مشددة على ضرورة تدشين اتفاق شامل يضمن حقوق مصر المائية، قبل إبداء أي موافقة أولية بخصوص عملية الملء الثاني المقرر له بعد أيام.
وكان وزير الخارجية المصري، سامح شكري، قد عبّر أول أمس عن استنكاره لتصريحات مدير إدارة الهندسة في وزارة الدفاع الإثيوبية، والتي وصفها بـ”الادعاءات” التي تستهدف “التهرب والتنصل من الالتزامات”، مؤكدًا أن بلاده لديها “القدرة على الدفاع عن مصالح شعبها”.
شكري خلال مداخلة هاتفية له مع عمرو أديب، في برنامج “الحكاية” المذاع عبر فضائية “إم بي سي مصر” السعودية، اتهم المسؤولين الإثيوبيين بإطلاق “تصريحات استفزازية عن العمل العسكري، لصرف الأنظار والتهرب من الاتفاق”.
كما أكد أن إثيوبيا رفضت استئناف المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي في كينشاسا، “وما زالت المفاوضات مجمدة بسبب التعنت الإثيوبي”، وفق تعبيره.
وشدد على أنه في حالة وقوع الضرر على المصريين بسبب السد، فإن الدولة المصرية لن تتهاون “في الدفاع عن مصالح شعبها، سواء كان حجز المياه في العام الحالي ليس بالشكل الكامل أو ما لدينا من مياه في السد العالي، فهذا أمر والدفاع عن حقوقنا أمر آخر”.
تغير يربك حسابات القاهرة
استندت القاهرة في تعزيز موقفها الدولي على الدعم السوداني والاصطفاف في خندق واحد في مواجهة التعنت الإثيوبي (بعد سنوات طويلة من الميل إلى الرؤية الإثيوبية على حساب نظيرتها المصرية)، وكان ذلك مثار قلق للإثيوبيين، وتعميقًا للضغوط السياسية التي تمارسها الدولة المصرية على حكومة آبي أحمد.
وعليه فإن قبول السودان بهذا الاتفاق، الذي يسمح بالملء الثاني للسد، يعدّ “تحولًا لافتًا” يعزز الموقف الإثيوبي ويضعف نظيره المصري، خاصة أن السودان كان قد اتفق في الأسابيع الماضية مع مصر على ضرورة أن يكون “الاتفاق شاملًا”، ما يشير إلى ردة واضحة في الموقف حتى لو كانت هناك شروط، كما يحاول أن يبرر السودانيون.
الموقف السوداني ومن قبله التصريحات الاستفزازية الإثيوبية، أحدثت حالة من الجدل والقلق لدى الشارع المصري، الذي أعاد الحديث مجددًا عن “الخيار العسكري”
هناك حالة من السيولة الدبلوماسية في الرؤية السودانية، تنسجم بشكل واضح مع التوجه الإثيوبي رغم الخلاف الظاهري بين البلدين، والذي تعمق مؤخرًا بسبب النزاعات الحدودية التي تعد “مربط الفرس” في خارطة التوتر بين الجارتين، وأن تباين وجهات النظر بشأن سد النهضة كانت نتاجًا لهذا التوتر وليس سببًا له.
العضو السابق في الفريق الممثل للسودان في مفاوضات السد، أحمد المفتي، في تبريره على هذا التحول، وردًّا على التخوفات المثارة بشأن الملء الثاني وانعكاسات ذلك على بلاده، قال: “لن تحصل كارثة ومفاجآت”، و”القيامة لن تقوم بالملء الثاني لسد النهضة كما يتصور السودانيون”.
الموقف السوداني ومن قبله التصريحات الاستفزازية الإثيوبية، أحدثت حالة من الجدل والقلق لدى الشارع المصري، الذي أعاد الحديث مجددًا عن “الخيار العسكري” كحلّ وحيد للدفاع عن حقوق مصر المائية، التي باتت مهددة بالفعل حال الانتهاء من الملء الثاني، كما أكد خبراء متخصصون في الموارد المائية، وذلك بعد تراجع زخم هذا الخيار خلال الفترة الماضية، في ضوء ضعف الموقف القانوني المصري بعد اتفاقية إعلان المبادئ عام 2015، وتجنب الخطاب الرسمي القاهري الحديث عن أي حلول غير دبلوماسية في هذا المسار.
وتمارس القاهرة حملة ضغوط دبلوماسية مكثفة خلال الأسابيع الماضية، لتكوين رأي عام عالمي داعم للموقف المصري والحفاظ على حقوق الـ 100 مليون مواطن المائية، غير أن الأوضاع تزداد تأزمًا يومًا تلو الآخر، لتبقى الأيام المقبلة مفتوحة على كافة السيناريوهات.