تمسخ المعارك وجه البلاد، تحيله وجهًا غير معروف، وتضع الإنسان في سوريا بوجه أبشع أنواع المعارك، من الكيماوي إلى البراميل إلى طوابير الذل أمام الأفران ومحطات البنزين.
الخاسر يعيد بناء البلاد، ما جعل البلاد تفرز طبقات جديدة، حيث دمرت 10 سنوات من الحرب كل المألوف من عادات السكان الاستهلاكية، وظهرت مهن جديدة واندثرت أخرى.
بينما ينشغل معظم السوريين اليوم في امتحانات الشهادة الثانوية، ينشغل أحمد، شاب يقطن في جرمانا، بإصلاح غسالته. أحمد هو المعيل الوحيد لعائلته بعد وفاة والده من أكثر من 10 سنوات، يقول: “أي عطل صغير كفيل بأن يجعلني أقطع علاقتي بكثيرين نتيجة ضيق أحوالي، لا يوجد أحد يستطيع أن يقوم بهذه المهمة عني”، وتبقى قضية الغسالة تعرقل حياة أحمد حتى يستطيع، وهو مطور مواقع عبر شبكة الإنترنت، أن يجمع ما يكفيه لتسديد قسط الصيانة.
ويستمر أحمد في العيش على مبدأ أمه التي تردد: “لا ثياب نظيفة ولا حياة ماشية”.
في مأساة السوري الاقتصادية اليوم، لا بد أن يكون هناك مجال للسخرية حتى تستطيع النفوس أن تمتص مرارة العيش.
طبقًا للقاموس المالي، تتألف الطبقة الكادحة عادة من الأشخاص الذين ليس لديهم المهارات أو تعليم مناسب لكسب وظائف ذات رواتب عالية، ومن أشخاص غير قادرين بالمرة على العمل.
وبما أن أحمد منشغل بتأمين قسط الصيانة، فهو لا يعطي بالًا للتعريفات ولا لكونه بات تحت تصنيف الطبقة الكادحة، بل حتى لا يعطي بالًا لأي تصنيفات، فالوضع السوري أحال معظم الخبراء وأصحاب المهارات العالية إلى أصحاب أجور دون المستوى حتى، فماذا لو تحدثنا عن الكفاية المادية؟
إعادة تدوير الممتلكات
عاد السوري إلى أساليب اقتصادية قديمة جدًّا، تشبه ما كان سائدًا في عصور ما قبل استخدام العملة بشكلها المعروف حاليًّا، ومنها أسلوب المقايضة لكن على مستوى أكبر من استبدال بيضة بكمية من الحليب، أو استبدال كمية من الأرز بمجموعة من ألواح الصابون.
فالمواطن الذي لا يملك أي موارد مالية تأتيه من الخارج، بات اليوم مضطرًّا إلى أن يبيع بيتًا لكي يشتري بيتًا آخر، أو أن يبيع سيارة مقابل قطعة أرض في أحد الأرياف، وقس على ذلك معظم اقتصاد السوريين اليوم، الذي يقوم على استبدال ملكية ممتلكاتهم القديمة بأخرى بطريقة بدائية.
يقول المهندس أيهم: “يبدو أنه بات من المستحيل اليوم أن يشتري سوري يعيش في الداخل منزلًا من دخله الشهري، أو من الاقتراض من البنوك أو من ما يُعرف بالجمعيات التي تنظمها نساء الحي، فقد زادت أسعار العقارات بشكل جنوني مع انهيار قيمة الليرة، وإقرار حكومة النظام عددًا من القوانين التي تنظم عمليات البيع والشراء وتحديد قيم متر البناء، إضافة إلى زيادة الضريبة على كل عملية بيع وشراء يقوم بها السوري الراغب في الحصول على بيت”.
يقدر سعر متر البناء داخل مدينة جرمانا في ريف دمشق، وهي مكان مزدحم تندر فيه الخدمات الجيدة، بأكثر من مليون و800 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 600 دولار، ما يعني أن سعر شقة تصلح لسكن شاب أو شابة يصل إلى أكثر من 20 ألف دولار.
يقول أبو محمد، وهو سمسار عقارات مهم في منطقة الكسوة، إن هذه الأسعار توضع على أساس دخل البلاد من المغتربين، أي أن الشخص الذي يعمل خارج البلاد يرى هذه الأسعار عادية بالمقارنة مع فرق العملة الكبير.
ويقول صافي، شاب في منتصف الثلاثينيات من عمره، ويعمل كمهندس اتصالات: “تخليت تمامًا عن فكرة امتلاك منزل، ليس لي القدرة المادية على تحمل مجرد التفكير بالأمر، وأتعامل مع الحياة داخل البلاد على هذا الأساس”.
التنقل بورصة نشيطة في بلاد متعطلة
في مأساة السوري الاقتصادية اليوم، لا بد أن يكون هناك مجال للسخرية حتى تستطيع النفوس أن تمتص مرارة العيش.
تصعد إيمان في سيارة الأجرة، وتسأله: “قديه الأجرة اليوم؟” فيجيبها السائق عن السؤال، ويتبع إجابته بجملة: “إن شاء الله نضل هيك”، وتسير السيارة.
صار على إيمان أن تعتاد على واقع تتغير فيه تسعيرة سيارة الأجرة كل يوم، وأن أجرة تنقلها ضمن شوارع المدن المهترئة تتحكم بها مجموعة كبيرة من العوامل، التي تنال من جيب الإنسان السوري الممزق.
وفي السياق نفسه، لكن الحديث سيكون هذه المرة عمّن يملكون السيارات، يعاني أصحاب السيارات الخاصة من ذوي الدخل المحدود من حالة مزمنة من عدم الأمان الاقتصادي، مع ارتفاع أسعار البنزين وجنون أسعار الصيانة.
حيث تستهلك السيارة الخاصة النقود في حال استخدمتها أو لم تستخدمها، ويجد السوري نفسه يتكلف أكثر من 50 دولارًا على سيارته في الشهر، بينما لم يستفد منها فعليًّا، بل العكس تمامًا، حيث يقضي الشخص أكثر من 4 ساعات وسطيًّا في الشهر على محطات الوقود، متحملًا عبء الانتظار غير المجدي، وارتفاع أسعار الوقود وقلة جودته أيضًا.
التعليم
لا تتسع مادة صحفية للحديث عن مشاكل التعليم في بلد أنهكته الحرب مثل سوريا، أو عن نظم تعليمية ومناهج بالية سعى النظام عبر سنوات وسنوات لتكريسها.
يتحدث مازن، وهو مصور وكاتب، عن خطة الإنفاق على التعليم الذي يضعها كل عام دراسي لابنته الصغيرة، حيث يقسم مجموع رواتبه هو وزوجته إلى 3 أقسام، 4 أشهر نفقات لمدرسة ابنته، 4 أشهر بدل إيجار للمنزل، والـ 4 أشهر المتبقية معيشة في الحدود الدنيا.
يضيف مازن أنه من غير المجدي ضمن هذه البلاد ترك الأطفال في مدارس حكومية، ومع أن تجربة التعليم الخاص غير جيدة، لكنها تبقى إنقاذًا لابنته من الفوضى التي تجتاح المؤسسات التعليمية الحكومية.
مازن هو مثال لكثيرين من ذوي المداخيل المتدنية، الذين يكدحون لتعليم أبنائهم ليضمنوا مستوى عيش جيد فيما بعد.
لا يعلم إلا الله كيف يعيش السوري داخل بلاده، فمعدل رواتب الموظفين في القطاع الحكومي لا تزيد عن 30 دولارًا (رسميًا: راتب رئيس الوزراء ووزراء الحكومة هو 200 ألف ليرة، ما يساوي 62 دولارًا)، وهي في الواقع لا تكفي لأي شيء، لأي شيء حرفيًا، ومعدل أجور موظفي القطاع الخاص ليست أفضل حالًا بكثير، أما أصحاب المهن والأعمال الحرة “فاللي بيعرف بيعرف، واللي ما بيعرف بيقول كف عدس”. قسط كبير من السوريين يعتمدون على مداخيل يرسلها لهم أولادهم وأقربائهم في الخارج، أما من لا يحظى بمعارف خارج بلاده، فيمضي يومه يقلب كفيه، وتضج في داخله نداءات: “يا الله مالنا غيرك يا الله”.