مليلية مدينة مغربية لا تزال تحت السيادة الإسبانية إلى يومنا هذا، تقع في شمال شرق المغرب على ساحل البحر الأبيض المتوسط قرب الحدود الجزائرية، قبالة الساحل الجنوبي لإسبانيا، تبلغ مساحتها حوالي 12 كيلومترًا مربعًا، ويشكّل المغاربة نسبة تزيد عن 40% من تعداد سكانها البالغ حوالي 80 ألف نسمة، حسب التقديرات.
بالنظر إلى أن مليلية تبعُد 500 كيلومتر عن السواحل الإسبانية، ولوقوعها ضمن قارّة أفريقيا، فهي أكثر تأثرًا بالثقافة المغربية، وعدد المغاربة الذين يعيشون فيها أكثر من أولئك الذين يعيشون في سبتة، التي تعيش ظروفًا مشابهة لكونها مدينة مغربية تحت السيادة الإسبانية كذلك.
ومن الجدير بالذكر أن كلًّا من مليلية وسبتة تتمتعان بحُكم ذاتي، وحسب الدستور الإسباني فإنهما تُعتبران جزءًا من تراب إسبانيا، ويوجد لهما ممثلون في البرلمان.
نظرة على تاريخ المدينة
تحتلُّ إسبانيا مدينتَي مليلية وسبتة منذ قرون، ويعود تاريخ سقوط مليلية إلى القرن الخامس عشر، وبالتحديد عام 1497، أي بعد ما يُعرف تاريخيًّا باسم “سقوط غرناطة” بسنوات قليلة.
فبعد سيطرة الملوك الكاثوليك على غرناطة، بدأت الدولة الإسبانية بجمع المعلومات حول المناطق الواقعة على طول البحر الأبيض المتوسط، بنيّة التوسُّع فيها وحماية حدودها، عن طريق إرسال جواسيس وعملاء ميدانيين لاستطلاع أحوال مليلية، وقد زاد من أطماعهم تردّي الأوضاع في ساحل شمال أفريقيا بشكل عام.
كانت مليلية في ذلك الوقت تقع على الحدود بين مملكة فاس ومملكة تلمسان، ما جعلها هدفًا سهل المنال؛ حيث ساهم التناحُر بين المملكتَين على ملكيّتها بتأزُّم الوضع في المدينة.
وعلى إثر طرد السكّان المحليين لسلطان فاس وتجريده من سلطته، قام الإسبان باستغلال الفوضى التي دبّت داخل مملكة فاس، وبتأييد من إيزابيلا ملكة قشتالة، وفرديناند ملك أراغون آنذاك، احتُلّت مليلية في 17 سبتمبر/ أيلول 1497 بسلاسة ودون أي عنف، حسبما تذكر المصادر التاريخية، حيث تورد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية أن عدد الجنود الإسبان الذين قاموا باحتلال المدينة، لم يتجاوز الـ 500 جندي.
قام المغاربة بالكثير من المحاولات من أجل استرجاع مليلية، أهمّها كانت محاولة السلطان محمد بن عبد الله عام 1774، الذي قام بحصارها إلى جانب سبتة، إلا إن سيطرة الأسطول الإسباني على البحر ضمنت تموين كلا المدينتَين، بالإضافة إلى نجاحه في الحيلولة دون وصول الذخيرة والعتاد إلى المغرب من الخارج، وهكذا باءت جميع محاولات استرجاع مليلية على مرّ القرون بالفشل.
تواصلت المحاولة بشراسة في القرن العشرين من خلال مقاومة أبناء الريف المغربي، فيما يُعرف باسم ثورة الريف التي قادها الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، إلا أنه لم ينتج عنها استعادة مليلية حتى بعد استقلال المغرب عام 1956، وبقيت قانونيًّا خاضعة للسيطرة الإسبانية، وبحسب الأمم المتحدة فإنها لا تقع ضمن الأراضي المحتلة كحال شقيقتها سبتة.
بعد مرور قرونٍ على احتلال مليلية، ومرور 65 عامًا على استقلال المغرب، ما زالت المملكة المغربية تعتبر مليلية وسبتة مدينتَين مغربيتَين محتلتَين، وقد كان أبرز احتجاج للمغرب على احتلال المدينتين عام 2007، على إثر زيارة الملك الإسباني حينها خوان كارلوس لمليلية وسبتة.
وقوبل الأمر بانتقاد من الملك محمد السادس، حيث استدعى المغرب سفيره من مدريد للتشاور، فضلًا عن عقد البرلمان المغربي جلسة مشتركة للردّ على إسبانيا، إلا إن الدفء سرعان ما عاد إلى العلاقات المغربية الإسبانية.
يُذكر أن الحكومة الإسبانية كانت قد ألغت زيارةً لملك إسبانيا فيليب السادس، إلى مدينتَي مليلية وسبتة العام الماضي، بعد رفع حالة الطوارئ الصحّية التي فرضتها جائحة كورونا، خوفًا من ردّ فعل غاضب من الرباط حسب صحف إسبانية.
سياج يفصل المغاربة عن بعضهم
يعطي مركز مليلية انطباعًا بوجود مدينة أوروبية، يعكس رفاهية عيش سكانها، إلا إن هذه المظاهر تخفي وراءها فصلًا عنصريًّا واضحًا بمجرد السير نحو الحدود، فحدود مليلية مرسومة بسياج مزودج من أسلاك شائكة ارتفاعه 4 أمتار بطول 6 كيلومترات، يحيط بها من جميع الجهات، ومزوَّد بأجهزة استشعار إلكترونية للحركة وكاميرات مراقبة، تم إنشاؤه عام 1998 من قبل الإسبان، بهدف منع الهجرة غير الشرعية وعمليات التهريب.
يفصل هذا السياج مليلية المغربية عن المملكة المغربية، ويفصل كذلك السكان الأصليين والعائلات عن بعضها، إذ يشعر المغاربة في مليلية بأنهم داخل سجن كبير، فحدود مدينتهم تقع بين البحر وسياج الفصل العنصري.
يُسمح لبعض المغاربة في الشمال المغربي الدخول بإبراز الهوية فقط، كحال سكان مدينة الناظور المجاورة لمليلية، دون السماح لهم بالإقامة هناك، فيما يحتاج باقي المغاربة جواز سفر وتأشيرة شنغن لدخول مليلية عبر معابر السياج الفاصل.
وما يعزّر فكرة الفصل العنصري، هي المعاملة السيئة وأساليب التفتيش التي تمارسها شرطة الحدود الإسبانية على العابرين المغاربة، وفي بعض الأحيان قد يتعرضون للضرب أثناء ذلك.
مشهد يومي شهدته الكثير من نساء القرى المجاورة لمليلية، على مدار السنوات الماضية، واللاتي لجأن لما كان يسمى بـ“التهريب المعيشي” لسدّ رمق أُسرهنّ، وفيه مشهد مؤلم لنساء يحملن أوزانًا ثقيلةً من البضائع على ظهورهنّ، تصل إلى 100 كيلوغرام في بعض الحالات، ويتعرضن أثناء عبورهن للمعبر للكثير من الإهانات اللفظية والجسدية من قِبل شرطة الحدود، عدا الساعات الطوال التي يقضينها لحين السماح لهنّ بدخول المدينة.
من الجدير بالذكر أن إسبانيا كانت تسمح بهذه الممارسات لدفع عجلة الاقتصاد داخل مليلية، فهي المستفيد الأول من عمليات التهريب هذه، رغم الظروف السيئة التي تحيط بها، إذ فقدت العديد من النساء حياتهنّ نتيجة حوادث تدافُع عند المعبر.
يُذكر أن السلطات المغربية قد أغلقت المعبر في محاولةٍ منها لإيقاف التهريب المعيشي في مارس/ آذار العام الماضي، إلّا أن هذا خلقَ أزمةً اقتصادية في مدن الشمال المغربي، لعدم وجود حلول بديلة لممارسة استمرت عقودًا، وكانت الدخل الوحيد للآلاف من الأسر.
ملامح الفصل العنصري داخل المدينة
داخل المدينة، تجد المغاربة يسكنون أحياءً من الظاهر للعيّان فقرها، مقارنةً بمناطق المدينة الأخرى، فقد ظلَّ المغاربة مواطنين من الدرجة الثانية، ولم يتمّ منحهم الجنسية الإسبانية إلا بعد الانتفاضة الشعبية ضدّ قانون الأجانب عام 1985، ورغم ذلك لم تحلّ الجنسية الكثير من مشاكلهم، فهنالك طرق ممنهجة لإبعاد توظيف الشباب المغربي، ولذلك نسبة البطالة هي الأعلى بين صفوف سكان المدينة المغاربة.
بحسب تقرير مفصّل نشرته الجمعية المغربية للحريات الدينية، فإن بعض الفئات المجتمعية تعاني من ممارسات تحدُّ من إكمال المغاربة لتعليمهم العالي، ما يشكّل بدوره أحد أسباب البطالة المرتفعة بين السكان الأصليين، هذا فضلًا عن القوانين الخاصة بالعمل، التي تفرض بدورها ضرائب باهظة على العمّال المغاربة الحاصلين على رخصة عمل، إذا ما قورنت بالضرائب المفروضة على الإسبان.
جدارية عنصرية وسط مدينة مليلية
تروِّج السلطات الإسبانية لوجود تعايُش ديني بين سكان مليلية المسيحيين والمسلمين، ومحاربتها العنصرية بجميع أشكالها، إلا إن وجود جدارية عنصرية وسط مدينة مليلية تعكس زيف هذه الادّعاءات.
تظهر في هذه الجدارية الملكة إيزابيلا، وكأنّها تمسك مسلمًا بهيئة شيطان وتهم بقتله، ما يتمّ اعتباره دليلًا واضحًا على استهداف المغاربة بهويتهم الإسلامية، والذين يشكّلون جزءًا لا يستهان به من سكان المدينة.
لا بدّ من التأكيد في النهاية، أنّه وعلى الرغم من محاولات إسبانيا المستمرّة منذ عقود في جعل معالم المدينة أكثر انسجامًا مع الجو الإسباني الأوروبي، ومحاولتها طمس الهوية المغربية في المدينة، إلا إن الواقع يكشف تمسُّك المغاربة بهويتهم وأرضهم، ومناهضتهم للاحتلال الذي ما زال قائمًا، أملًا بعودة مليلية وشقيقتها سبتة للتراب المغربي.