في لندن عام 2002، تحدث المخرج أليخاندرو خودوروفسكي عقب عرض فيلمه Santa Sangre عن حرية صناعة الأفلام، ومدى تقييد الولايات المتحدة نفسها بالأنواع الفيلمية والتنميط الممارَس من شركات الإنتاج، حتى فيما يسمّى الأفلام المستقلة، التي من المفترض أن تحظى بحرّية كاملة.
ويواصل المخرج السريالي حديثه، مشيرًا إلى سينما شرق آسيا كمثال عن حرية صناعة الأفلام، مستنكرًا طبيعة السينما الأميركية ومتحيّزًا لنوع أفلام معيّن، يحرِّك في نفسه -خودوروفسكي- دهشة لا تتكرر، وهذا الذهول غير المعهود يثبّت الصورة أو الفيلم بحيث لا يمكن نسيانه مهما طال الزمن.
وقد استشهد خودوروفسكي عندما تحدّث عن سينما شرق آسيا، بالمخرج الياباني الشهير تاكاشي ميكي.
“تاكاشي ميكي هو أكثر إنسان مريض قابلته في حياتي”.. المخرج أليخاندرو خودوروفسكي
هذا الاستهلال ليس ذريعة لتبرير جنون المخرج تاكاشي ميكي، أو إيجاد مبحث جمالي داخل سينماه، لأن أفلامه ذات جودة عالية وتمتاز بكمٍّ هائل من التجريب، بالإضافة إلى ضمان أكبر قدر من المتعة؛ وهذا يغفر لها أي نوع من الخبل.
بَيد أن ذلك الاستهلال أكثر من مجرد إشارة أو توصية، بل تحيّة وتقدير من مخرج عبقري تجاوز الـ 90 عامًا، وعلامة على جودة أفلام تاكيشي، والحقّ أن ثناء أي مخرج على أفلام مخرج آخر، هو شهادة تقدير، خصوصًا أنه أتى من خودوروفسكي نفسه، العبقري الأكثر جنونًا.
سينما تاكاشي ميكي هي إشكالية في حد ذاتها، لا يمكن تصنيفها إلا تحت مظلة ما يسمّى بـ”اليابان الرائعة” (Cool Japan)، بَيد أن ذلك المصطلح شامل للسينما اليابانية بشكل عام، منذ ثورة أفلام الياكوزا على الشكل، بداية من سيجون سوزوكي مرورًا بكينجي فوكاساكو وتاكاشي كيتانو، ومخرجنا تاكاشي ميكي وصديقه شيون سونو، وغيرهم من المخرجين الذين يطوِّعون الشكل ويستحدثونه بمعالجات متطرِّفة عن الماضي، خصوصًا الحقبة المعاصرة بما خلّفته من أفلام ومشاريع شديدة التطرف، بحيث لا يمكن اختزالها في نوع فيلمي معيّن.
وهذا ما يجعل مناقشة سينما المخرج تفتقد للمرجعية المطلوبة، التي يقوم عليها أي نوع من النقد، لذلك يمكننا أن نقول ببساطة إن تاكاشي ميكي وجيله قد صنعا نوعًا من الأفلمة يمكن تمريره بمرونة بين الأنواع الفيلمية، بحيث يأخذ ملمحًا من كل فئة ويوظِّفها في سياق الحكي، بَيد أنه لا يقتبس لنفسه ملامح كاملة من أي نوع فيلمي مستقلّ، فيصبح صورة من ذلك النوع أو محاكاة إبداعية له.
ذلك من دون شك يجعل أفلامه لا منتمية، ولكنها على النقيض لا تفتقد إلى الأصالة التي تميّز الأفلام اليابانية بشكل خاص، بيد أن حضور تلك الأصالة يعكس منهجية مضادة لتلك الأصالة، بحيث تظهر العادات والتقاليد مجردة من قيمتها بل أكثر من ذلك، فتبدو ممسوخة، ورغم ذلك يضعها في سياقها الصحيح تمامًا، لذلك تبدو أفلامه كشيء حسّاس في داخله ضد المعتقدات والتقاليد والمجتمع الياباني، سواء القديم منه أو مجتمعات الياكوزا المنتثِرة.
تظهر تلك الحساسية في الكثير من أفلامه، أكثرها ظهورًا هي أفلام الساموراي ومعارك السيوف، التي تكشف جانبًا آخر من طبيعة شخصية الساموراي، كتابع خاضع لسيّده في كل الأوامر والمواقف، مهما كانت تلك الأوامر ضد عاطفته الإنسانية، ومهما كانت تلك المواقف مجحِفة وظالمة.
تتحول سيوف الساموراي في أفلام تاكاشي ميكي إلى أدوات قهر واستبداد، بدلًا من صورتها النمطية داخل أذهان المشاهدين، حيث عكسَ ملامحها في أشرطة السينما كأدوات لإذلال البشر والجور على حقوقهم، من أجل الغاية الأعظم وهي إرضاء السيّد، وهذا يحوِّل مقاتلي الساموراي النبلاء إلى حمقى بوجوه عابسة وعقيدة جوفاء صارمة.
الثيمات المروّعة
في مقابلة أخرى لخودوروفسكي مع الصحفي مارك بيلكنغتون، يقول:
“يمكن أن تجد شيئًا رائعًا في فيلم مروّع. بالنسبة إليّ، تاكاشي ميكي يكون عبقريًّا في بعض اللحظات، وفظيعًا في لحظات أخرى – إنه فظيع! بيد أنه في أوقات معيّنة يكون مدهشًا! أنا لا أحب تاكاشي ميكي بشكل كامل، ولكنني معجب بجزء من تاكاشي ميكي”.
كما يقول خودوروفسكي، في بعض الأوقات يكون تاكاشي فظيعًا إلى حدّ أن بعض المشاهدين يديرون وجوههم عن الشاشات، بيد أن الشيء الذي يجبرهم على مواصلة المشاهدة أنه مدهش في الوقت ذاته، لا يمكن تفسير حدوث ذلك ولكنه يحدث فعلًا.
ويمكننا القول إن تاكاشي ميكي يستظِهر لغةً جديدة، يمكن استهلاكها على المستويَين السطحي والعميق، حيث يمدّ في أفلامه الكثير من الخيوط التي يمكن أن يتشارك في حبّها أغلب المشاهدين في العالم.
وذلك ما يجعل سينماه تبدو كشيء ذي ثقافة عالمية (Multicultural)، يمزجها مع ثيمات أساسية تطبع أعماله بشكل أصلي، وهي العنف، والجنس، والسادية، والإفراط في الدماء، والسخرية من المجتمع، والافتقاد إلى المركزية المكانية أو مفهوم الوطن بشكله الحالي، والاضطراب الهويّاتي.
وبجانب ذلك إخراجه لعدة أنواع فيلمية لا ينتمي بعضها إلى الآخر، مثل أفلام الأطفال والأفلام الموسيقية وأفلام الـ Cult والأفلام المقتبسة من المانغا، بالإضافة إلى استخدامه عدة تقنيات سردية تنتمي إلى أكثر من مدرسة، منها البطيء التأمُّلي ومنها السريع الخفّاق، وهذا يحيلنا إلى مشكلة التصنيف ذاتها، كأنه يتحدى ميولنا وحاجتنا إلى تصنيف كل شيء.
في أحد لقاءاته الموثّقة مع قناة “بي بي سي”، سأله المحاوِر عن حرصه الدائم على إشعار المشاهد بتجربة قصوى داخل الفيلم، بما في ذلك تجربة العنف والدماء، وكان ردّه شخصيًّا متعلقًا بماضيه ونشأته:
“منذ الصغر، سبّبت العدوانية عقدة بالنسبة إليّ، لم تكن لدي الشجاعة الكافية لأضربَ شخصًا كان يعاملني بشكل سيّئ، وهذه العقدة لازمتني في كل حياتي، وأنا أؤمن أن هذه العقدة تظهر منعكسةً في أفلامي”.
تركت تلك العقدة الأثر الأكبر في نفس ميكي، وجعلته يروّع عوالمه، ويصبغه بعنف ودماء، ومع تعدُّد الأفلام تتعدُّد غايات الشخصيات، بين الخير والمتعة والخوف.
في فيلم Ichi the Killer، يقطّع البطل لحوم البشر، ويبتر أذرعهم وأعضائهم لأنه شيء مضحك، وبعد ذلك نستكشف أن للشخصية جانبًا ساديًّا يستمتع بالضرب والدماء، ويعرف النشوة عن الطريق الألم، وهنا يختلط معنى الألم بالنشوة الجنسية، وتخلق شخصيات استثنائية مضحكة.
وعلى الجانب الآخر في الفيلم ذاته، نرى استغلال بعض الشخصيات قوة فتى يافع، يدفعونه للقتل لكي يشفي شعور الانتقام بداخله، ومن هنا يتولّد نوعان من النشوة: الأولى عن طريق الألم والأخرى عبر الانتقام الذي لا يأتي إلا بتسبُّب الألم للآخرين.
إذًا يتحدث الفيلم في باطنه عن الألم، يظهر ذلك الألم بعدة طُرُق، أولها العنف والقتل، وثانيها لوم النفس، وثالثها الخوف من الألم ذاته، ثم تأتي ثيمات مثل الكوميديا والجنس لتحدِّد ملامح العالم الداخلية، ولكنه على النقيض يغلِّف ذلك العالم بنوع من الفكاهة وخفّة الظل.
لا يلزِم ميكي نفسه بهذا النوع فقط، بل كما قلنا سابقًا، يخترق عدة أنواع أخرى دون خوف. ففي ثلاثية الياكوزا، والتي تُعتبر من أوائل الأفلام التي لفتت الانتباه وحظيت بانتشار واسع على المستوى المحلي، يصنع ميكي فيها عالمًا يتقاطع بشكل كبير مع فكرة الاغتراب المكاني، والشخص الذي لُفِظَ من قِبل عالمه ليصبح لا منتميًا لأي من العوالم، أو على الأقل شخصية متأرجحة (بين-بين)، فيحاول أن يجترَّ لنفسه نوعًا من الانتماء، ولكن هذا الانتماء إذا لم يكن في صالحه فهو يهدِّد وجوده.
تتميز تلك الثلاثية بخصوصية كبيرة على مستوى جميع أفلام الياكوزا، لأنها تدور حول شخصيات أجنبية عن عوالم الياكوزا اليابانية، تأتي مهاجرة من الصين وتايوان، أو تجرُّها الأقدار بعيدًا عن اليابان نفسها.
تجد تلك الشخصيات طريقها إلى مجتمعات الياكوزا المنغلقة في الداخل، أو مافيا الصين في الخارج، ولكن تحاصرها عقدة الاغتراب دائمًا، والتساؤل عمّا إذا كان ما تفعله صحيحًا أم لا، نافعًا أم ضارًّا، بحيث يمكن أن نرى أخوَين يصارعان بعضهما، أو شخصًا صينيًّا يقتل واحدًا من أبناء جلدته.
واختلفت التقنية داخل ثلاثية الأفلام نفسها، حيث صوّرَ الفيلم الأخير Ley Lines بطريقة أقرب إلى الشاعرية منها إلى الحركة والأكشن، على عكس الفيلم الأول الذي كانت أحداثه تتلاحق بسرعة، والفيلم الثاني Rainy Dog الذي ركّز على علاقة إنسانية بين الأب وابنه، الذي لم يكن يعلم بوجوده أصلًا.
بعد الثلاثية يصنع ميكي واحدًا من أفضل أفلامه على الإطلاق، بل واحدًا من أفضل الأفلام التي تنتمي إلى فرع الرعب الإنساني على الإطلاق، فيلم Audition الذي يعتبر علامة في السينما العالمية، لأنه كان بداية ظهور ميكي في المهرجانات العالمية وتقديره على المستوى الفني.
والحقُّ أن هذا الفيلم رغم قساوته، إلا أنه يختلف عن بقية أفلام تلك النوعية، حيث يجمع بين الخفّة والتحفيز، ثم يقفز فجأة إلى الخانق والمقشعر للأبدان، ورغم ذلك لا يعتمد على القفز أو الصراخ العالي، بل يعتمد على الهدوء والسكون الباهت الذي يسبق العاصفة.
يفاجئنا ميكي في نهاية الفيلم بفصل مروّع سادي، لامرأة شابة تتلذذ بالألم، ليتحول الفيلم في النهاية إلى صفعات في وجه المشاهد ربما لا يستطيع أن يحتملها، ولكنه مجبر على تصديقها، لأن البناء القصصي أعطى شرعيةً لتلك الأفعال.
وفي هذا الفيلم تشترك ثيمة الألم نفسها التي استخدمها ميكي في فيلمه Ichi the Killer، التي تبدو كثيمة مميّزة لا يمكن الاستغناء عنها، بيد أن بعد ذلك الفيلم صنع فيلمًا آخر عن الياكوزا، Dead or Alive، والذي يعتبر من أفضل أفلامه أيضًا، بكمية دماء كبيرة، وعنفوان جنسي وأجساد عارية تقتحم القصة، كجزء أساسي من اليومي في اليابان.
الجنس كثيمة مروّعة
في أغلب أفلامه، خصوصًا الأفلام التي تدور في عوالم الياكوزا، يستخدم ميكي الجنس كأداة قهر، وأغلب العلاقات التي تظهر على الشاشة تكون متطرِّفة، أو بغير رضى أحد الطرفَين، لذا يتم اتهامه بمعاداة المرأة، على الرغم من فيلم Audition الذي احتفت به النسويات على أنه فيلم مناصر للمرأة، رغم أن المخرج لم يؤكّد ذلك بل تفاجأ بالاحتفاء.
العنف ضد المرأة يبدو شيئًا عاديًّا في عوالم مكتظة بالدماء، ولكنه في بعض الأوقات يظهر بشكل مروّع مع الاستغلال الجنسي الذي تواجهه المرأة في أفلامه، كأدوات حاضرة بأجسادها لتسدَّ نشوة معيّنة عند الرجال، وهذا يعتبر النقد الأقسى على ميكي، ولكنه لا يتراجع عن ذلك، ودائمًا يقول إنه يعكس ثقافة اليابان ضد المرأة.
مشاهده الجنسية لا تحظى بتلك الأجواء الإيروتيكية والشبق، الذي يصنع ذروة شهوانية أو يدفع الشخوص للانغماس في بئر من المتعة، يمكننا القول إن مشاهده الجنسية ليست جنسية في الأساس، لأنها محاطة بكمٍّ هائل من العنف، فتنحطّ تلك المتعة المتفرِّدة لتخدم غرضًا آخر غير الشهوة في الأصل.
فالجنس في أفلامه شيء تم التأسيس له عن طريق العنف، ولا يستطيع أن يخرج عن هذا السياق المرسوم له، ما يجعل الجنس كغريزة تتبع إرادة أعلى وأقوى منها، هي إرادة العنف، ما ينقلها من فعل ممتع وناعم إلى فعل مروّع.
الافتتاحية الجذّابة
صناعة السينما فنّ عالمي، ومن أشهر قواعد هذا الفن الافتتاحية الجذّابة، التي تبسط ذراعَيها على المشاهد وتقرّبه أكثر للعالم الافتراضي الذي يدور فيه الفيلم، وتعطيه سؤالًا مجانيًّا عن ماهية الفيلم، سيظل يبحث عن إجابته حتى آخر دقيقة منه.
وفي أغلب أفلام ميكي تكون الدقائق الأولى -الافتتاحية- الشيء الذي يجبر المشاهدين على المكوث حتى النهاية، حيث في أغلب الأحيان يعتمد ميكي على المونتاج السريع، والقطعات المتلاحقة، والهندسة الصوتية الرائعة لكي يصنع افتتاحية مميزة.
وفي أحيان أخرى، يصنع مشهدًا ملحميًّا يجعل المشاهِد يتساءل عن ماهية الفيلم نفسه، مثل أول 5 دقائق في فيلم Graveyard of Honor، الذي يحدث فيه أن يصعد السجين إلى أعلى المبنى، ويقف على ما يشبه الأنبوب، ثم يحلّق بيديه في الهواء بينما يمسك ببطانية.
وأيضًا في فيلم Ichi the Killer، الذي يعتمد فيه على الحركة السريعة والغرافيك والانتقال بين الأماكن بشكل خاطف وجاذب للعين، وغيرهما من الأفلام التي تبدأ بمعركة أو قتال، حيث إن لم تكن الأثارة من أول 5 دقائق، فستكون من أول ثلث ساعة، هذه هي منهجيته في السيطرة على المشاهِد.
الاقتباس
ميكي هو واحد من أكثر المخرجين اقتباسًا من الأدب والمانغا بشكل خاص، فإذا عدّدنا أفلامه سنجدُ أكثر من نصفها مستند إلى فن المانغا، وبعض منها مستند إلى روايات وقصص أدبية حتى لو بشكل صُوري، والبعض الآخر هو إعادة صناعة لأفلام مخرجين آخرين، ولكن بنظرة مختلفة ووجهة نظر أكثر ديناميكية وأشد غرائبية.
تميّز هذه الطريقة ميكي عن أقرانه، وأظن إنها واحدة من أسباب انتشار الدماء بشكل هائل في أفلامه، لأن عوالم المانغا خصوصًا لا تتقيّد بالعوامل الطبيعية، ولا تخضع للمنطق بشكل عام، بل يمكن بناؤها بموتيفات وثيمات جديدة كليًّا، بحيث يختلف المنطق والعالم وحتى شكل الشخصيات الخارجي.
الاقتباس في عوالم ميكي يوفِّر له بنية قصصية صلبة، ومرونة في الشكل والموضوع، بحيث يستطيع تشكيل عوالمه بالطريقة الجامحة التي تناسبه، سواء كانت طريقة متطرِّفة في شكلها أو حتى في مضمونها؛ الذي يكون في أغلب الأوقات ناقدًا للطبيعة المحلية في اليابان، وحريصًا على تفكيك أغلال العادات وقيود التقاليد، وكشف الجانب الآخر منها.