يشهد لبنان أزمة محروقات غير مسبوقة لم يشهد لها مثيلًا حتى أيام الحرب الأهلية، وتُرغم هذه الأزمة المواطنين على الانتظار في طوابير طويلة كل يوم من أجل الحصول على صفيحة بنزين واحدة، فضلًا عن الانقطاع المزمن للتيار الكهربائي في فصل الصيف الحار بسبب فقدان أو ندرة مادة الفيول التي تغذي معامل إنتاج الكهرباء التابعة للجهات الحكومية أو حتى مولدات الكهرباء الخاصة.
كما تهدد الأزمة بانفجار اجتماعي قد يتحول إلى فوضى عارمة تطيح بكل شيء في لبنان، وتكاد أزمة البنزين لا تقل في خطورتها وفي تهديدها بانفجار لبنان عن انفجار مرفأ بيروت في الأول من أغسطس/آب العام الماضي.
أسباب الأزمة
بدأت أزمة البنزين والمازوت تتفاقم في لبنان بشكل تدريجي منذ أبريل/نيسان الماضي، لكنها لم تأخذ هذا الشكل الذي بلغته اليوم من طوابير طويلة أمام محطات الوقود ومن مشكلات عديدة تتحول في بعض الأحيان إلى تضارب أو حتى إلى إطلاق نار من أجل الحصول على صفيحة بنزين واحدة، وغالبًا ما تتدخل القوى الأمنية والعسكرية لفض المشكلات وتأمين محيط محطات الوقود التي ما زالت تزود المواطنين بكميات قليلة من البنزين والمازوت.
الدعم المالي للمحروقات استنزف مالية الدولة اللبنانية فلجأ المصرف المركزي إلى التحذير من مغبة هذه السياسة
ويعود السبب في هذه الأزمة بشكل رئيسي إلى انهيار قيمة العملة اللبنانية (الليرة) أمام الدولار الأمريكي، إذ تخطى سعر صرف الدولار في السوق الموازية قبل أيام عتبة الـ18 ألف ليرة للدولار الواحد، ما جعل الليرة اللبنانية تخسر أكثر من 90% من قدرتها الشرائية، غير أن السلطات اللبنانية لجأت إلى اعتماد سياسة توفير الدعم المالي للمحروقات حتى لا يخرج اللبنانيون في تظاهرات لأن قدرتهم على تحمل الأعباء التي يمكن أن يخلفها رفع الدعم عن الوقود ستكون كبيرة جدًا.
وفي مقابل هذه السياسة حافظت صفيحة البنزين على سعر مقبول خلال الفترة الماضية، فظلت تحت سقف الـ40 ألف ليرة، أي ما يعادل خلال تلك الفترة 3 إلى 4 دولارت للصفيحة الواحدة في وقت كان سعر برميل النفط يرتفع عالميًا وذلك بفضل الدعم الذي كانت توفره الحكومة.
هذه السياسة وفرت مناخًا ملائمًا لعملية تهريب مادة البنزين بكميات كبيرة إلى خارج لبنان سواء إلى سوريا أم حتى إلى بعض الدول الأخرى المجاورة عبر الحدود البرية أو البحرية، وتولى ذلك مافيات في السلطة وخارجها ووفرت عمليات التهريب هذه ربحًا كبيرًا لتلك المافيات غير أنها جعلت مادتي البنزين والمازوت غير متوافرة بشكل يلبي حاجة السوق اللبنانية، وهو ما شكل سببًا رئيسيًا من أسباب الأزمة.
فضلًا عن عمليات التهريب التي تجري بشكل واسع عبر الحدود، فإن الدعم المالي للمحروقات استنزف مالية الدولة اللبنانية، فلجأ المصرف المركزي إلى التحذير من مغبة هذه السياسة واضطراره إلى رفع الدعم عن المحروقات وغيرها من السلع المدعومة، أو اللجوء إلى أموال المودعين اللبنانيين من أجل تأمين المال اللازم لتوفير الدعم، وهو ما أثار غضب الشارع اللبناني في الوقت ذاته، فلجأ المصرف المركزي إلى حيلة جديدة تمثلت بعدم فتح اعتمادات مالية كافية للشركات التي تستورد النفط، وبالتالي حصل نقص بالمحروقات في السوق اللبنانية.
بمعنى آخر، فإن المصرف المركزي قلص عملية دعم المحروقات من خلال خفض الكمية المستوردة لأنه المسؤول عن دفع الفرق في سعر الدولار بين السعر الرسمي (1515 ليرة) وسعر السوق المتحرك الذي لامس 18000 ليرة، وهذا ما شكل سببًا مهمًا إضافيًا إلى أسباب الأزمة الحاليًّة.
تأثير الأزمة
أزمة قلة توافر المحروقات (بنزين ومازوت) في الأسواق اللبنانية، فضلًا عن الطوابير الطويلة أمام محطات المحروقات، خلفت أزمات ومشكلات أخرى.
فالقطاع الصحي تضرر بسبب انقطاع الكهرباء عن المستشفيات والمستوصفات الطبية بشكل متكرر، ما أدى بدوره إلى تلف العديد من المواد الطبية أو فقدانها لأهليتها، وكذلك الأمر بالنسبة للمصانع والمعامل وكل القطاعات الإنتاجية التي وجدت نفسها مضطرة للتعامل مع الواقع من خلال ما هو متوافر، وبالتالي تكبد خسائر في العديد من النواحي.
بدا خلال الأيام الماضية أن الحراك الشعبي بدأ يعود إلى الشارع بشكل تدريجي، فيكبر يومًا بعد يوم ويأخذ أشكالًا فيها بعض العنف والخشونة
إلا أن معيشة المواطن اللبناني كانت الأكثر عرضةً للتأثر بهذه الأزمة، فغلاء مادة البنزين والمازوت رفع أسعار السلع كافة بشكل جنوني بعدما كانت قد ارتفعت بسبب ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة، فسجل ارتفاع ربطة الخبز ألف ليرة لبنانية بسبب ارتفاع كلفة النقل، وكذلك الخضار والفواكهة والمواد الغذائية والأولية وغيرها من الأمور الخاضعة للنقل.
كما تم رفع تسعيرة انتقال الأشخاص عبر سيارات الأجرة في بيروت وبقية المدن بشكل مضاعف، فأضحت في بيروت 8000 ليرة بعدما كانت 4000 ليرة، وهكذا بقية الأمور والأشغال، وكل ذلك جرى ويجري في وقت ما زال راتب الموظف أو العامل كما هو، ولم يطرأ أي تحسن على دخله الشهري أو اليومي.
احتمال انفجار الوضع
فشل الطبقة السياسية الحاكمة في التوصل إلى تسوية أو اتفاق على تشكيل حكومة جديدة تبدأ رحلة الإصلاحات المطلوبة والبحث عن حلول، يزيد ويضاعف من حجم الأزمة ومن استمرارها، بل يدفع بها نحو الانفجار السريع في ظل انسداد أفق الحلول أمام اللبنانيين.
وقد بدا خلال الأيام الماضية أن الحراك الشعبي بدأ يعود إلى الشارع بشكل تدريجي، فيكبر يومًا بعد يوم ويأخذ أشكالًا فيها بعض العنف والخشونة، كما أن انعدام ثقة اللبنانيين بالحلول وحجم الضغط الذي بات يحاصرهم في لقمة عيشهم ويومياتهم سيجبرهم على الإقدام على أعمال وأفعال قد لا تكون من ضمن قناعاتهم.
حجم المعاناة والأزمة الاقتصادية وانسداد أفق الحل السياسي وانتشار حالات السرقة والسلب بالقوة والدخول إلى المؤسسات العامة أو الخاصة بقوة السلاح أو بقوة التجمعات الشعبية، وضعف الأجهزة الأمنية والعسكرية عن القيام بدورها بشكل كامل وكما ينبغي لها لأنها تأثرت أيضًا بالأزمة، كل ذلك من شأنه أن يدفع، أو بالأحرى بدأ يدفع نحو اعتماد الأمن الذاتي في بعض المناطق، وهذا بدوره قد يدفع لاحقًا نحو الفوضى التي يمكن أن تأخذ أشكالًا متعددة وصولًا إلى الانفجار الكبير أو الحرب الأهلية أو غير الأهلية التي تدمر لبنان وتعيد بناءه من جديد وفق أجندات داخلية أو خارجية ولحسابات خاصة أو فئوية أو مصالح دولية معينة.