هذا السؤال فرضته حالة القرف والنفور المتفاقمة، نتيجة الاحتباس السياسي الذي فرضه الرئيس على البلد منذ انتخابه. وقد ظنَّ منتخبوه أنه واحد منهم فإذا هو دولة وحده، يفكّر لنفسه ويبني خيالاته بعيدًا عن هموم الناس، ولا يتوقف عن اتهامهم بالفيروسات. فقد ظهر في آخر حديث له يصنِّف خصومه السياسيين ضمن أنواع الفيروسات.
نريد أن ندفع أقلامنا إلى آفاق أرحب، فنكتب عن الاحتمالات الواعدة في الربيع العربي، ونستشرف برغبة في تحويل الأحلام إلى حقائق، لكن كلّما نظرنا وجدنا الرئيس يحاصرنا بما لم نظنَّ عاقلًا يأتيه.
أين نهرب من الرئيس؟ لا قدرة لنا على عزله بالقانون ولا بالشارع، لأسباب ليس أهونها وباء كورونا الذي يجثم على البلد، فنحسب الجثثَ عاجزين.
“برافدا” بورقيبة صارت وثيقة دستورية
جريدة “العمل” هي الجريدة التي كانت وسيلة الدعاية الإعلامية الأولى للرئيس بورقيبة وحزبه، وكان الموظفون والإداريون والسياسيون يقرؤونها مجبَرين للاطِّلاع على عبقرية الرئيس وخططه.
وكان المثقفون التونسيون المعارضون يسمونها “برافدا”، كنايةً عن صحيفة الحزب الشيوعي السوفيتي، التي كانت تغسل عقول الروس لعقود طويلة.
فجأة وجدنا الرئيس يستحضر نسخةً منها، ويحتجُّ بها على أن الشعب عام 2021، وبعد ثورة دفع فيها 400 شهيد معلومة هوياتهم، يريد نظامًا رئاسيًّا. كأن لم تحدث قطيعة ولا تطوّرت أجيال ولا تغيّرت أفكار، ولم تسقط أنظمة دكتاتورية بين سنتَي دستور 59 و2021.
بل ذهب أبعد من ذلك لاويًا عنق الفصول القانونية في الدستور القديم، ليفسِّرها على هواه ويجعله يؤسِّس نظامًا برلمانيًّا، في حين أن الصلاحيات المطلقة التي خوّلها لبورقيبة وبن علي تُعتبَر نصوص مثالية، لتبيان أن الدستور القديم كان دستورًا مفصّلًا على هوى شخص وحيد، أوتي الحكمة وفصل الخطاب.
الوباء يستشري ونحن نحسب عدد الموتى، حتى صار الدفن في ذاته مشقّة لأعوان البلديات.
لدينا مشاغل كثيرة للحديث فيها، ولمحاولة فهم ما يجري حولنا وما يصيبنا من عجز عن مقاومة الوباء، لكن ليّ عنق الحقيقة والتاريخ من طرف الجهة المكلفة بقيادتنا إلى الأمل، تشتِّت تركزينا على الأهم لنغرق في خزعبلات الرئيس ونصاب بالقرف، فنكتب نصًّا واحدًا مقرفًا، وسيكون لهذا القرف أثر على المستقبل، فقد تفشّى شعور سلبي في أوساط كثيرة ترى أن الديمقراطية تنتج الرداءة.
الوباء نقمتنا ونعمة للرئيس
الوباء يستشري ونحن نحسب عدد الموتى، حتى صار الدفن في ذاته مشقّة لأعوان البلديات. كارثة صحّية ولّدت شعورَين متناقضَين: أقصى درجات الخوف وأقصى درجات الاستهانة بالموت، لذلك يحتفل الناس بمناسبات سخيفة، مثل مباراة كرة قدم محلية أو عرس أو حتى نجاح طفل في التعليم الابتدائي، كأن الناس يودون أن ينظروا في عينَي الموت نظرةً أخيرةً قبل أن يأتي عليهم.
خطاب التخويف من الموت والدعوات لملازمة الحذر، صارت تثير السخرية. فشلت الحكومة في المواجهة، وبقيَ الكادر الطبي يجاهد أعزل من الأدوات وقد يعلن استسلامه في أية لحظة. فقد وصلت المشافي إلى آخر قدراتها على الاستجابة.
سنظلُّ نلحُّ على فكرة أن هذا الرئيس باقٍ في منصبة بفضل الوباء، الذي يمنع الناس من الخروج إلى الشارع وإسقاطه كما أُسقط سلفه بن علي. لقد صار جزءًا من الوباء.
هل تستعمل الحكومة القوة لمنع الناس من الخروج والاختلاط؟ وجب أن توفِّر رزقًا لمن سينقطعون عن العمل إن أُعلن الحجر الشامل، وليس لدى الحكومة موارد جاهزة. يمكنها تدبُّر موارد بمصادرة أموال فاسدة، لكن طبقة الفساد لديها أنصارها في الحكومة وفي المعارضة أيضًا، ولن تتجرّأ الحكومة على حركة مماثلة.
مأزق حقيقي يغتنمه الرئيس وحزامه السياسي، ليدفع النقاش العام نحو تعديل النظام السياسي مستفيدًا من الوضع الكارثي. لذلك لم يعقد مجلس الأمن القومي، وهو رئيسه، ليضع الكارثة كأولوية للعلاج، لكنه يستعيد صحف بورقيبة ليقول إن دستور 59 كان مطلبًا شعبيًّا.
وعن طريق خلط الأولويات يدفع الناس إلى الإحباط واليأس، على أمل أن يتحرك الشارع لصالحه، كأن الشارع قطيع غبي لا يفهم أسباب التخريب المنهجي المتعمد.
اغتنام الوباء وفرض أجندات غير شعبية هما عملان إجراميان، مهما حاولنا تخفيف وصفهما بحذلقة دبلوماسية. سنظلُّ نلحُّ على فكرة أن هذا الرئيس باقٍ في منصبة بفضل الوباء، الذي يمنع الناس من الخروج إلى الشارع وإسقاطه كما أُسقط سلفه بن علي. لقد صار جزءًا من الوباء.
رغم ذلك سنعيش
سندفع ثمنًا موجعًا من الأرواح، وسنحزن كثيرًا ونخاف، فلا يدري أي منّا هل سيكون في عداد الأموات، فكل يوم غنيمة.
في هذا الوجع العام نرى الرئيس يتراجع عن مشروعه الذي أعلنه بتأسيس ديمقراطية مباشرة، فقد أيقن ألّا سبيل إلى تحريك الوضع تحت الدستور الحالي، لذلك نحن نقرأ رجوعه إلى دستور 59 كعلامة عجز عن فرض أجندة من داخل الدستور الحالي.
وهذه العودة إلى نسف الموجود لم تحوّله إلى موضع سخرية وتندُّر فقط، بل جعلت كل النُّخب السياسية تستهين به وبفكره وبأطروحاته المهزوزة، والجميع يراقب الآن أن ضيوفه من طينته، انقلابيون في أفضل حالاتهم الفكرية، وعاجزون عن إدارة بيوتهم الخاصة والكثير يكتب الآن عنه: “عاجز يستعين بعَجَزة أو قاصر يعتمد على قُصَّر”.
ينهي نفسه بنفسه كما يفعل الجرثوم إذا لم يجد جسمًا يأويه. نحتاج الصبر والكثير من الصبر لنشهد نهايته الذاتية.
وكل ظهور له يخسر فيه متعاطفين، حتى أن مناصريه من الاستئصاليين لم يعودوا يجرؤون على الدفاع عنه، لأن استعادته لدستور 59 لا تنسف أعداءه الإسلاميين وحدهم، بل تنسف كل الأجيال السياسية والنخب التي عملت على تغيير النظام السياسي نحو الديمقراطية حتى قبل ظهور الإسلاميين، وهذه العودة تنسف تاريخهم ونضالهم وتضحياتهم، وهي وقائع تاريخية في أرصدتهم الخاصة أفرادًا وجماعات.
إنه ينهي نفسه بنفسه كما يفعل الجرثوم إذا لم يجد جسمًا يأويه. نحتاج الصبر والكثير من الصبر لنشهد نهايته الذاتية. وجب علينا أن نتدبّر بعض المُحلّيات لتحمُّل حالة القرف التي يبثها حوله، فتصلنا منها موجات كريهة.
جملة أخيرة للبصّاصين على الصفحات، عنواني هنا معروف وعنواني الشخصي قريب من المحكمة العسكرية، والرئيس مغرَم بمحاكمة المدوّنين السلميين.