شهدت العاصمة السودانية، الخرطوم، وبعض المدن الأخرى، تظاهرات حاشدة، أمس الأربعاء، للمطالبة بتصحيح مسار الثورة، رافعين شعارات تنادي بإسقاط حكومة عبد الله حمدوك والتخلص من الديكتاتورية العسكرية والتشديد على مدنية الدولة.
تأتي تلك التظاهرات استجابة لدعوات من بعض القوى السياسية والثورية على رأسها الحزب “الشيوعي” و”تجمع المهنيين السودانيين” وبعض من لجان المقاومة، لإحياء الذكرى الثانية لما يعرف بـ”مجزرة القيادة” التي قتل فيها أكثر من 100 متظاهر خلال فض اعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة.
وشهدت الاحتجاجات كر وفر بين المشاركين في المظاهرات وقوات الأمن المنتشرة بكثافة، التي استخدمت القنابل المسيلة للدموع والمطاطية لتفريق المتظاهرين، أسفرت عن سقوط عدد من الجرحى، بجانب اعتقال بعض العناصر الأخرى.
وكان الجيش السوداني قد استبق التظاهرات باتخاذ كل التدابير الأمنية الاحتياطية، فأغلق كل الطرق والشوارع المؤدية إلى محيط قيادته العامة بوسط العاصمة، بجانب إعلان ولاية الخرطوم يوم أمس 30 من يونيو/حزيران، عطلة رسمية.
إسقاط الحكومة
التظاهرات وإن خرجت تحت شعار كبير وهو “تصحيح المسار” إلا أنها تضمنت العديد من المطالب التفصيلية التي تقود للهدف الأشمل والأعم، أبرزها إسقاط الحكومة الحاليّة بشقيها المدني والعسكري وتشكيل حكومة جديدة من رحم الثورة في أقرب وقت، لا سيما بعدما أثبت التشكيل الحاليّ أنه غير قادر على أداء المسؤولية.
البعد الاقتصادي والوضع المعيشي المتردي كان حاضرًا بقوة داخل الاحتجاجات، فقد طالب المتظاهرون بتغيير سياسات الحكومة لمواجهة غلاء الأسعار وإعادة النظر في إستراتيجيات النمو الاقتصادي والاستفادة القصوى من موارد الدولة وحمايتها من النهب وسوء الاستغلال والإدارة.
علامات الاستفهام الكبيرة عن أداء مؤسسة القضاء والتباطؤ في المحاكمات الثورية بشأن المتورطين في جرائم بحق الشعب طيلة السنوات الماضية من رموز النظام السابق، دفعت البعض إلى رفع شعارات تطالب باستقلال القضاء لضمان نزاهته وانسلاخه من عباءة التسيسس والضغوط الممارسة عليه.
كما رفع المتظاهرون لافتات تنادي ببناء علاقات خارجية متوازنة مع دول العالم، تحفظ للبلاد استقلال قرارها السيادي، خاصة بعد القلق من السياسة المتبعة مؤخرًا بشأن التقارب مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وإبرام اتفاق تطبيع معها، بما يخالف عقيدة السودان التاريخية المبنية على “اللاءات الثلاث”.
وقد نشر ناشطون صورًا لمظاهرات قالوا إنها خرجت من بعض المدن الرئيسية كأم درمان وعطبرة والقضارف، فيما نقل شهود عيان أن محتجين آخرين قطعوا الطريق الإستراتيجي بين الخرطوم ومدينة بورتسودان (شرق)، في الوقت الذي وصلت فيه المظاهرات في الخرطوم إلى شارع القصر الجمهوري على بُعد أمتار من القصر الرئاسي المطوق بكثافة من قوات الشرطة.
قمع مفرط
المناوشات التي شهدتها التظاهرات مع رجال الأمن أثارت حفيظة العديد من القوى على رأسها “تجمع المهنيين السودانيين” أبرز مكونات “قوى إعلان الحرية والتغيير” قائدة الحراك الاحتجاجي في السودان، الذي وصفها بأنها “خرق واضح ومشين لحقوق التعبير والتظاهر والتجمع السلمي التي كفلتها وثيقتهم الدستورية المعيبة والعهود والمواثيق الدولية”.
التجمع وفي بيان له على صفحته على فيسبوك أشار إلى أن مواكب الأمس في العاصمة وأغلب المدن كانت سلمية تمامًا، رافعة شعارات ومطالب مشروعة، هي من صميم ثورة ديسمبر/كانون الأول، إلا أنها “جوبهت بالقمع المفرط من الشرطة والأجهزة الأمنية”.
البيان ذكر أن قوات الأمن “استخدمت الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع والملاحقة والاعتقال التعسفي في مواجهة الثوار، في محاولة خرقاء جديدة لعكس عجلة التاريخ والتراجع عن الاستحقاقات التي انتزعها شعبنا بالتضحيات والدماء والعرق، وهيهات”.
ودعا الكيان الثوري في بيانه “لفتح الأجهزة العدلية للتحقيق فيها وتقديم المسؤولين عن انتهاكاتها المتكررة للمحاكمات العاجلة”، كما دعا القوى الثورية بشتى انتماءاتها “للتمسك بسلمية عملها المقاوم الصارم البتار لكل مرابٍ، وتكثيف الجهود في التنظيم والتشبيك والعمل المشترك من أجل خلق التحالف القاعدي الواسع لاستكمال مسار ثورة ديسمبر وتحقيق الحكم الوطني المدني الديمقراطي لبناء سودان الحرية والسلام والعدالة”.
إحباط مخطط الفلول
تتزامن التظاهرات مع ذكرى استلام حزب “المؤتمر الوطني” المحظور الحكم في البلاد قبل 30 عامًا، وعليه جاءت دعوة الحزب للمشاركة في تلك الفعاليات في محاولة للإبقاء على حضوره شعبيًا حتى إن كان بصفة غير رسمية بعدما تم حله عقب ثورة ديسمبر/كانون الأول 2019.
السلطات السودانية قالت إنها حصلت على معلومات تفيد بمخطط فلول الإنقاذ للقيام بعمليات تخريبية خلال التظاهرات السلمية، وعليه ألقت القبض على 79 من الناشطين بالحزب ممن شاركوا في احتجاجات الأمس، حسبما أشار عضو لجنة إزالة نظام الثلاثين من يونيو، وجدي صالح، الذي لفت أن “شخصًا ممن أوقفوا كان يرتدي زيًا عسكريًا لحظة القبض عليه، وأن أغلبهم قادمون من الولايات”، مشيرًا إلى أن السلطات “وجدت مبالغ مالية كبيرة مزورة بحوزتهم لتخريب الاقتصاد جنبًا إلى جنب مع التخريب السياسي والأمني”.
وكان صالح قد دعا الثوار إلى الاحتفال بذكرى 30 يونيو بعيدًا عن الفلول “اخرجوا وعبروا لكن لا تختلطوا بالفلول، نحن في السلطة والأجهزة الأمنية قادرون على التعامل مع هذه المجموعات التي لا تشبه الشعب السوداني وقيمه”، وأضاف “لن ننجر إلى أي أعمال عنف بعد هذه الثورة العظيمة، ولن نترك أي أعمال عنف تحدث في هذه البلاد”.
عضو لجنة إزالة نظام الثلاثين من يونيو ذكر أن ممن ألقي القبض عليهم كذلك كوادر بالحركة الإسلامية، لافتًا إلى أن المقبوض عليهم من أكثر من مدينة، أبرزها: ولاية النيل الأبيض ومدينة كوستي وربك والدويم، ومن ولاية الجزيرة وكسلا، منوهًا “وجدنا مبالغ مالية مع المقبوض عليهم، هذه المبالغ المالية كانت من فئة المئتي جنيه وأن جميع الأموال المضبوطة من رقم متسلسل واحد”.
معارك تكسير عظام
تشهد الحكومة الانتقالية والمجلس السيادي معارك تكسير عظام ثنائية خلال الآونة الأخيرة، أبرزها تلك التي بين قطبي المكون العسكري، حيث المناورة حامية الوطيس بين القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).
الأسابيع القليلة الماضية شهدت لقاءات مكثفة بين الطرفين سعيًا لنزع فتيل أزمة قابلة للاشتعال، فيما حاولت بيانات للجيش والدعم السريع نفي وجود توتر بينهما، لرسم صورة وردية للشارع بشأن حالة التناغم والتنسيق الكامل بين القوتين رغم استشراف الكثير من القوى السياسية لحالة التوتر تلك التي باتت واضحة للجميع.
تكشف التوتر بصورة أكبر مع رفض حميدتي دمج قواته مع الجيش السوداني، لافتًا خلال تأبين قيادي في حركة تحرير السودان قيادة مناوي، إلى أن “الحديث عن دمج قوات الدعم السريع في الجيش يمكن أن يفكك البلد”، مضيفًا “الدعم السريع مكون بقانون مُجاز من برلمان منتخب، وهو ليس كتيبة أو سرية حتى يضموها للجيش، إنه قوة كبير”.
إصرار قائد قوات الدعم السريع على استقلالية قواته رغم تغير الظروف والمستجدات سيضع مستقبل البلاد الأمني على المحك
وبعد فترة صمت ليست بالطويلة، خرج البرهان بتصريحات حاول من خلالها تجميل الصورة بشأن ما تعكسه تصريحات حميدتي من دلالات عكسية، قائلًا: “العلاقة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ممتازة، رغم أن المرحلة الانتقالية في السودان صعبة، ولا تزال تمر بمخاض عسير” بحسب وصفه.
وكان قائد قوات الدعم السريع قد أثار اللغط قبل أسبوع حين كشف موقع أكسيوس (Axios) الأمريكي عن لقاء “سري” جمع بينه ومسؤولين في الموساد الإسرائيلي، في محاولة لإنشاء علاقة مستقلة مع الإسرائيليين من أجل تعزيز أجندته السياسية المحلية في السودان، وفق الموقع.
وعلى المسار الموازي، يواجه حميدتي انتقادات لاذعة بسبب فشله في التعاطي مع الملفات وثيقة الصلة بالمواطنين، وعلى رأسها الأسعار التي تتزايد بصورة جنونية خلال الفترة الماضية، فضلًا عن انهيار العملة الوطنية وتفشي السوق السوداء وزيادة معدلات البطالة والتضخم، هذا بجانب عدم القدرة على الوفاء بالتزاماته التي قطعها على نفسه في أثناء تنصيبه.
مخاوف من الفوضى
فشل محاولات فض الاشتباك بين حميدتي والبرهان بشأن ملف دمج قوات الدعم مع الجيش من جانب، وتراجع قدرة حمدوك على تحقيق مطالب الشعب والتخلي عن الشعارات الثورية التي كان أحد رموزها قبل عامين من جانب آخر، وتعدد الأجندات الخارجية التي تتخذ من السودان ضلعًا أساسيًا لتحقيقها داخل إفريقيا من جانب ثالث، كل هذا أثار مخاوف البعض من الولوج في مستنقع الفوضى.
إصرار قائد قوات الدعم السريع على استقلالية قواته رغم تغير الظروف والمستجدات التي كانت تتطلب تلك الاستقلالية سابقًا حين تم تشكيل هذا الكيان إبان نظام الحكم السابق لغرض محدد، سيضع مستقبل البلاد الأمني على المحك، حيث الثنائية المحفوفة بالمخاطر، والشكوك المتزايدة بشأن تعاظم نفوذ تلك القوة، لا سيما في ظل حالة الاستقطاب الخليجي لحميدتي منذ الثورة.
وفي الجهة المقابلة فإن أي محاولة لدمج قوات الدعم السريع ونزع سلاحها بالقوة “سيكون محفزًا لحرب أهلية خطرة”، كما ذهب كبير محللي مجموعة الأزمات الدولية، جوناس هورنر، الذي قال إن إصلاح القطاع الأمني “طلب أساسي في الانتقال السياسي في السودان”، منوهًا أنه “قبل الموافقة على دمج قواته، فمن المرجح أن يسعى حميدتي للحصول على تأكيدات بشأن دوره في السودان ما بعد المرحلة الانتقالية، والدعوات لمقاضاته بشأن نزاع دارفور”.
يعاني السودان، من أزمات طاحنة على المستويات كافة، رغم الجهود التي تحققت فيما يتعلق بالانفتاح على العالم الخارجي وإنهاء حالة العزلة التي دامت لعقود
السلطة الانتقالية باتت في موقف صعب، فلأول مرة يتحد اليمين “حزب المؤتمر الوطني المحظور” واليسار “الحزب الشيوعي” على هدف واحد، وإن كان غير مكتوب رسميًا، وهو إسقاط الحكومة، هذا فيما جمع أنصار المؤتمر حملة توقيعات على الإنترنت للمطالبة بإسقاط حمدوك ورفاقه، تحت مسمى “إختونا” أي “غادرونا”، وهي الحملة التي تشبه حملة “تمرد” المصرية في العام 2013 ضد نظام الرئيس الراحل محمد مرسي.
ومن المتوقع أن تستمر التظاهرات خلال الأيام القادمة، مع اتساع رقعة المشاركة، فبجانب المؤتمر المحظور والشيوعي وتجمع المهنيين، شاركت النساء اللائي كن ركنًا أساسيًا في الثورة ضد النظام السابق، إذ عقدت ممثلات عن كيانات منهن، مثل “مبادرة لا لقهر النساء” و”نساء الأحزاب” و”نساء حركات الكفاح المسلح” و”حملة حقنا كامل” و”الاتحاد النسائي السوداني” و”ملتقى نساء دارفور”، اجتماعًا، تم خلاله دعم التظاهر واستمرار الاحتجاجات.
يعاني السودان، ذلك البلد الذي يتمتع بمكانة جيوسياسية محورية أسالت لعاب قوى العالم، من أزمات طاحنة على كل المستويات، رغم الجهود التي تحققت فيما يتعلق بالانفتاح على العالم الخارجي وإنهاء حالة العزلة التي دامت لعقود وإسقاط الديون المثقلة، فإن نار الفوضى لا تزال تحت الرماد في ظل تربص العديد من التيارات، الداخلية والخارجية باستقرار البلاد.
من المرجح أن تبقى الفترة المتبقية من عمر السلطة الانتقالية الحاليّة والمقرر لها أن تستمر حتى العام بعد المقبل بحسب الوثيقة الدستورية التي وقعها العسكر والمدنيون في أغسطس/آب 2020 التي تقضي باستمرار الفترة الانتقالية لمدة 39 شهرًا تعقبها انتخابات ديمقراطية، على صفيح ساخن بين مكونات السلطة، العسكرية والمدنية، هذا بجانب إحياء آمال نظام الإنقاذ المنحل في العودة للمشهد مرة أخرى، مستغلًا حالة الفوضى التي تخيم على الأجواء.
غياب الانسجام وتباين الرؤى وتشتت الاتجاهات وتناقض الدوافع وصراع النفوذ بين أضلاع السلطة الانتقالية الحاليّة تؤطر لمستقبل غير مبشر، يتزامن ذلك مع تصاعدة حدة الاحتقان الشعبي التي ربما تغري البعض لاستغلالها لتحقيق مآرب أخرى، فهل يعي السودانيون الدرس قبل فوات الأوان؟