أرسل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام (حكومي) إعلانًا إلى ملّاك ومديري المواقع الصحفية المصرية، في ديسمبر/ كانون الأول 2018، يطالبهم فيه بضرورة “توفيق أوضاعهم القانونية” من أجل شرعنة تواجدهم، عبر منحهم الترخيص القانوني الذي يضمن بقاءهم على الخارطة الإعلامية، بحسب قانون تنظيم الإعلام الجديد الذي أقرّه المجلس قبل شهرَين من هذا الإعلان.
كانت تنص اللائحة على ضرورة دفع كل موقع رسومًا أولية، تقدَّر بنحو 50 ألف جنيه مصري (3200 دولار)، هذا بخلاف المستندات الثبوتية التي تتعلق بمقرّ الموقع وهيكله التحريري والإداري، وغير ذلك من الأوراق الخاصة بتأسيس الموقع وقدرته على الاستمرارية.
حدَّد المجلس فترة زمنية محدَّدة لتقديم الطلبات، بدءًا من ديسمبر/ كانون الأول 2018 وحتى منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، وبالفعل تقدّمَ قرابة 150 موقعًا بطلب الحصول على الترخيص بعد استيفاء الشروط، والمفاجأة أنه من بين هذا العدد الكبير لم يتم الموافقة على منح الترخيص سوى لـ 40 موقعًا فقط.. أما الباقي فكان التجاهُل وعدم الرد والتهرُّب أحيانًا، هي الإجابة من قبل المجلس.
تسييس وازدواجية
تحت عنوان “غير مرخَّص لهم، عن: أزمات ملف توفيق أوضاع المواقع الصحفية”، أصدرت “مؤسسة حرية الفكر والتعبير” (مؤسَّسة حقوقية خاصة معنية بحرّية الرأي والإعلام) تقريرًا استعرضت فيه وقائع “تسييس” عملية توفيق أوضاع المواقع، وما شابهها من عنصرية وازدواجية.
أشارت المنظمة في تقريرها إلى أن تلك العملية اتسمت بـ”عشوائية وتخبُّط كبيرَين، فضلًا عن انتقائية وتسييس فيما يخص تجاوب المجلس الأعلى مع طلبات الترخيص المقدمة إليه من المواقع المختلفة، رغم استيفاء جميع تلك المواقع كافة شروط الترخيص الصادرة عن المجلس الأعلى للإعلام”.
أكّد التقرير -بحسب شهود عيان- تجاهُل المجلس لطلبات الترخيص الخاصة ببعض المواقع دون غيرها، وتعليق موقفها القانوني، بما يجعلها طوال الوقت غير شرعية، ويمكن استهدافها وملاحقتها أمنيًّا بدعاوى عدم الحصول على رخصة مباشرة العمل، رغم مرور ما يقرب من عامَين ونصف على تقديم الطلبات.
الموافقة على منح مواقع محدَّدة تراخيص قانونية، والامتناع عن منع الأخرى، يرتبط في المقام الأول بعاملَين أساسيَّين: الأول يتعلق بالمحتوى المقدَّم عبر تلك المواقع، والمضمون الإعلامي الذي تعرضه، فإن كان يتوافق مع الخطّ العام للنظام فهو من المَرضيّ عنهم، وإن كان غير ذلك فلا مكان له في جنّة التراخيص.
أما العامل الثاني فيرتبط بماهية القائمين على الموقع، وما إذا كانوا من أبناء السلطة الحالية، المسبّحين بحمدها والمهلِّلين بشكرها ليل نهار، أم من المستقلين أصحاب المشروعات الوطنية المستقلة، بعيدًا عن الصحافة القومية المعروفة بولائها التام للحكومة، بصرف النظر عن مستويات الأداء ومعايير التقييم.
وقد استعانت المؤسسة بشهادتَين لمسؤولَي موقعَي “القاهرة 24” و”مصر العربية”، الأول حصل على الترخيص بسهولة، والذي تسلّمه في حفل باهر تناقلته وسائل الإعلام المختلفة، أما الثاني فرغم أسبقيته في تقديم الطلب إلا أنه قوبل بالتجاهل وعدم الردّ دون إبداء أسباب، الأمر الذي دفعَ رئيس تحريره عادل صبري -الذي كان معتقلًا قبل أن يفرج عنه مؤخرًا- إلى غلقه وتسريح العاملين به، خاصة بعد استمرار حجبه في مصر.
وفي شهادته على حصول موقعه على الترخيص، قال مدير تحرير “القاهرة 24” الصحفي تامر إبراهيم: “تقدمنا بطلب لترخيص الموقع للمرة الأولى عام 2018، وكنا ضمن أوائل المواقع التي تقدمت للحصول على الترخيص. لم تواجهنا أية عقبات خلال عملية التقديم وحتى الحصول على شهادة اكتمال الترخيص، إلا أن الأمور الإجرائية استغرقت 3 سنوات تقريبًا. طلب المجلس خلال تلك الفترة بعض الاستيضاحات، فضلًا عن استكمال بعض الأوراق والبيانات، ومنحنا ورقة مبدئية تفيد بحقنا في ممارسة العمل، إلى حين صدرت اللائحة التنفيذية وتم استكمال الأوراق، حصلنا على الترخيص مباشرة”.
القوانين الممرَّرة خلال السنوات السبع الماضية، بنت سياجًا تشريعيًّا قويًّا على عمل الصحف والمواقع والفضائيات، وحتى منصّات التواصل الاجتماعي.
وفي المقابل، يردُّ عليه المدير الإداري لموقع “مصر العربية”، أحمد عبد الجواد، قائلًا: “تقدمنا بطلب الحصول على الترخيص للمرة الأولى عام 2018 قبل صدور اللائحة التنفيذية، كان ذلك متزامنًا مع اقتحام السلطات الأمنية مقرّ الموقع واعتقال رئيس التحرير، الكاتب الصحفي عادل صبري. كان السبب المعلن لاقتحام الموقع حينها عدم الحصول على التراخيص اللازمة لمزاولة النشاط”.
مكملًا: “توجهنا إلى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام لطلب الحصول على الترخيص، في البداية رفضوا متعلّلين بعدم صدور اللائحة التنفيذية، ومع إلحاحنا في الحصول على ما يفيد بشروعنا في عملية الترخيص، والسماح لنا بممارسة العمل دون تهديد، وافق المجلس في النهاية على تقديمنا طلب يفيد برغبتنا في توفيق أوضاع الموقع. وبعد صدور اللائحة التنفيذية أعدنا التقدُّم مرة أخرى بعد استيفاء الشروط القانونية والمالية التي حددتها اللائحة التنفيذية ولائحة تنظيم التراخيص، ولكن لم يصلنا أي رد بالقبول أو الرفض حتى قررنا الاحتجاب نهائيًّا لحين رفع الحجب عن الموقع والبتّ في طلب الحصول على الترخيص”.
السيطرة على المشهد
تأتي هذه الخطوة استكمالًا لمخطّط السيطرة على خارطة الإعلام، والتي بدأت أولى إرهاصاتها في أبريل/ نيسان 2017 بتشكيل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، استنادًا إلى نصّ قانون التنظيم المؤسَّسي للصحافة والإعلام رقم 92 لسنة 2016 الصادر في ديسمبر/ كانون الأول 2016، ليكون المتحكم الأول في كافة الوسائل الإعلامية بشتى أنواعها.
لم ينجح المجلس بداية الأمر في تحقيق الهيمنة الكاملة على الخارطة، فكان التعديل الثاني لتدشينه في يناير/ كانون الثاني 2020 وفق القانون الجديد رقم 180 لسنة 2018 بشأن تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والذي كان له دور كبير في تقليص مساحة الحريات الإعلامية.
وعلى مدار السنوات السبع الماضية، فرضت السلطات المصرية حُزمةً من القوانين واللوائح التي كبّلت بها المنظومة الإعلامية برمتها، فبعد قانون تنظيم الصحافة والإعلام الصادر عام 2018، أصدر مجلس الوزراء اللائحة التنفيذية للقانون، والتي حملت رقم 418 لسنة 2020، والتي حملت قائمة مطوَّلة من العقوبات لمن يغرِّد خارج السرب، عبر مصطلحات فضافضة تتعلق بأمن واستقرار الدولة، وفي أغسطس/ آب 2020 أصدر المجلس الأعلى للإعلام القرار رقم 26 لسنة 2020 بشأن إصدار لائحة التراخيص.
مؤسسة “مراسلون بلا حدود” الخاصة كانت قد أجرت قبل عامَين بحثًا، يناقش سيطرة الدولة ورجال الأعمال التابعين للنظام على وسائل الإعلام، وذلك ضمن مشروع رصد ملكية وسائل الإعلام، وقد توصّلت المؤسسة إلى أن “الدولة المصرية شددت قبضتها على المنابر الإعلامية منذ وصول عبد الفتاح السيسي إلى سدة الرئاسة، وذلك عبر سلسلة من صفقات الشراء المكثّفة، والعديد من التغييرات التشريعية”.
التحليل البحثي الذي ناقشَ ملكية 41 من وسائل الإعلام الأكثر شعبية في مصر، توصّل إلى أن “بيئة العمل الإعلامي في مصر مُبهَمة ومعقّدة بشكل ملحوظ. فالبيانات المتعلِّقة بمصادر الاستثمارات وسندات الملكية أو حتى معدلات المتابعة ليست متاحة للعموم، إما بسبب ثغرات تشريعية وإما بفعل البيروقراطية المصرية المطاوعة للفساد”.
أشارت المؤسسة كذلك إلى أن مصر تقبع الآن في المركز 161 (من أصل 180 بلدًا) على جدول التصنيف العالمي لحرّية الصحافة، فيما يقف وراء القضبان ما لا يقلّ عن 32 من الصحفيين -المحترفين وغير المحترفين- بسبب عملهم الإعلامي.
توفيق الأوضاع.. سلاح ابتزاز
البعض كان يعتبِر سياسة المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام تجاه ترخيص مواقع وتجاهل أخرى، ليس سوى تخبُّط وارتباك في استراتيجيات الأداء، ولا وجود شبهة تعمُّد في ذلك، غير أن تيارًا كبيرًا ذهب إلى عكس ذلك تمامًا، منوِّهًا أن هذا التجاهل متعمَّد بهدف تجميد الموقف القانوني لتلك المواقع، حتى تظل عرضة للتنكيل والملاحقة الأمنية بدعوى عدم الحصول على الرخصة.
القوانين الممرّرة خلال السنوات السبع الماضية، بنت سياجًا تشريعيًّا قويًّا على عمل الصحف والمواقع والفضائيات، وحتى منصات التواصل الاجتماعي، وفرضت عليها قيودًا وعقوبات متنوعة، تتأرجح بين الحبس والغرامة، ليجدَ أصحاب تلك المواقع أنفسهم بين خيارَين لا ثالث لهما، إما التغريد مع السرب وإما الإقصاء عبر غلق الموقع أو تحمُّل العقوبات المفروضة نتيجة المخالفات.
تواصل السلطات المصرية ممارسة هوايتها المفضلة في وأد أي متنفّس للحريات الإعلامية، عبر تضييق الخناق على منافذ الإعلام بشتى أنواعها.
الكاتب الصحفي، خالد البلشي، عضو مجلس نقابة الصحفيين سابقًا، ورئيس تحرير موقع “درب” حاليًّا، يقول: “الأزمة أن الملف كله خاضع لجهات أخرى، خاضع لجهات أمنية، وطالما ظلت الهيئات والمجالس الإعلامية بحكم تشكيلها غير مستقلة فستظل خاضعة، بدليل التفرقة بين المواقع التي تسير داخل السياق والمواقع الأخرى التي تخرج عن السياق المرسوم، ويبقى وضعنا أننا موقع محجوب من جهة لا نستطيع إثباتها أمام القانون، وضعنا القانوني غير واضح حيث تقدّمنا بطلبات الترخيص ولم يصلنا رد بالموافقة أو الرفض. هذا هو الوضع الذي يريدوننا أن نستمر فيه”.
وقد تعرض البلشي لإغلاق وحجب 3 مواقع صحفية له من قِبل السلطات المصرية، الأول عام 2017 وكان يحمل اسم “البداية”، والثاني موقع “الكاتب” الذي تمّ إغلاقه بعد 8 ساعات فقط من انطلاقه عام 2018، وأخيرًا موقع “درب” التابع لحزب التحالف الشعبي الاشتراكي، والذي حُجِب بعد شهر واحد من إطلاقه العام الماضي.
وهكذا تواصِل السلطات المصرية ممارسة هوايتها المفضلة في وأد أي متنفّس للحريات الإعلامية، عبر تضييق الخناق على منافذ الإعلام بشتى أنواعها، في محاولة للوصول إلى “إعلام الستينيات” استجابةً لرغبة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي طالما غبط إعلام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.