صعد إبراهيم رئيسي، القاضي المتشدِّد، إلى سدّة الحكم في إيران منتصف الشهر الماضي، وصعدت معه عاصفة عالمية تطرح العديد من التساؤلات: ماذا يعني فوز الرجل؟ ومن الخاسر والرابح من تواجده على رأس السلطة؟
لكن وسط تزايد حالة القلق من الرئيس الجديد، كان لافتًا للغاية فتور الحليف الروسي واستقباله الباهت نبأ فوز رئيسي، الذي ينظر إليه على أنه دليل على الردّة عن الإصلاح في طهران، ما قد يزيد من نشاط موسكو السرّي لتحجيم الطموحات النووية الإيرانية، وإعادة تسخين المشكلات الجيوسياسية التاريخية بين البلدَين، على حساب أولويات التحالف بينهما في كثير من المجالات والقضايا والمواقف الراهنة.
روسيا ونووية إيران
يجمع روسيا بإيران علاقات تاريخية تعود إلى حدود ألف عام بين الروس والفرس، إلا إنها نشطت بشدّة في التبادلات التجارية منذ القرن الثامن عشر، وبعد توقُّف الغزوات المغولية التي بدأت منذ القرنَين الثالث عشر والرابع عشر من أسلاف الروس، للسيطرة على مناطق شواطئ بحر قزوين.
عادت الصراعات الروسية الفارسية في القرن التاسع عشر، وانتهت باستيلاء موسكو على القوقاز، وهي خسارة يتردّد صداها في النفس الإيرانية حتى اليوم، ولهذا بعد الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 استمرَّ التوتر وعدم الثقة بين الجانبَين، وتُرجِما في مساندة روسيا للعراق خلال الحرب العراقية الإيرانية، الصراع الذي كلّفَ إيران ما يقارب مليون شخص، كما دعمت موسكو العقوبات ضد إيران بسبب برنامجها النووي.
بعد إسقاط الاتحاد السوفيتي تحسّنت العلاقات تدريجيًّا بين إيران وروسيا، خاصة العلاقات الاقتصادية، وتم بناء عدد من المنشآت الصناعية في إيران بدعم من روسيا، كما تحالف البلدان في العديد من القضايا والرؤى، برز منها خلال العقد الماضي مساندة بشار الأسد وإنقاذه من قبضة الثورة السورية، التي كانت على وشك الإطاحة به.
تبادلَ البلدان التبرُّع بتوريد كل ما يلزم بشار من أسلحة ومال وعتاد لإبقاء نظامه صلبًا في وجه الأعاصير السياسية والأمنية التي تحيط به من كل جانب، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، لكن هذه التفاهمات لم تمنع استمرار بعض الإشكالات التي تعيق تقدُّم العلاقات بين البلدَين إلى مساحات أقرب وأكثر دفئًا.
ترفض روسيا تطوير إيران تكنولوجيا تمكّنها من امتلاك أسلحة نووية، وهو أمر غير قابل للتفاوض بالنسبة إلى إيران، وخاصة الجناح المحافظ الذي يمثّله الرئيس الجديد المعروف بخلفيته المتشدِّدة.
يرى الروس أن امتلاك نظام ديني أسلحة نووية للدمار الشامل على الجانب الجنوبي لها، سيؤثر بشدّة على مصالحها ومناطق نفوذها في آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين، فضلًا عن إمكانية منافستها مستقبلًا في المناطق السوفيتية السابقة، وعلاوة على ذلك قد يمكن لأسلحة إيران النووية أن تزعزع استقرار الوضع في الشرق الأوسط.
تشكيك متبادل
كانت هذه الأسباب من مبرِّرات رفض روسيا كل ضغوط طهران للحصول على تراخيص لإنتاج أسلحة روسية نووية في إيران، وهي رسائل تستقبلها طهران جيدًا، إذ تشكِّك باستمرار في نوايا روسيا الحقيقية، بسبب علمها بحقيقة الطموحات الروسية في المنطقة منذ أيام الاتحاد السوفيتي.
شكوك إيران تجاه نوايا روسيا أكّدت الأخيرة على صحّتها مؤخرًا، بضخّ استثمارات إضافية بحوالي 1.6 مليار دولار في بناء ميناء حديث وخطوط سكك حديدية وطرق مرتبطة به في مدينة لاغان المطلّة على بحر قزوين، المتواجد في موقع فريد بين أوروبا وآسيا والهند، ويُعتبَر سوق رئيسي للطاقة، ويقدم المستثمرون على تحويل مليارات الدولارات إلى المنطقة.
استثمرت روسيا أيضًا ملايين الدولارات لتحديث وتوسيع مرافق الموانئ في مدينة أستراخان، إحدى أقدم مدن حوض نهر الفولغا، كما أبرمت صفقات مع تركمانستان وكازاخستان لتسليم المزيد من نفطهما إلى الأسواق الدولية عبر الطرق الشمالية، بدلًا من خط أنابيب باكو-تبيليسي جنوب القوقاز، لتعزِّز وجودها الاقتصادي والأمني في منطقة بحر قزوين.
التمركُز الروسي القوي في هذه المنطقة، جعلها لا تترد لحظةً في إطلاق صواريخ كروز من سُفن ثابتة في البحر على أي هدف معادٍ للنظام السوري بمختلف محافظات البلاد، واعتبرت موسكو ذلك فرصة ذهبية حتى توضّح رسالتها للجميع، حيث لا تزال القوة العسكرية المهيمنة على المنطقة.
التعاون مع أعداء إيران
رغم المصالح المتزايدة بين البلدَين، تمارِس روسيا مع إيران سياسة شديدة التعقيد والتداخل، إذ تدعم الدولتان بشار الأسد، لكن كل منهما له وجهات نظر مختلفة حول مستقبل الحكم السوري في مرحلة ما بعد الصراع وبناء الدولة والإصلاح العسكري، حيث تركّز روسيا على مغازلة جميع الأطراف في المنطقة لإبرام تحالفات مع الجهات الفاعلة المتعارضة كليًّا، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي و”إسرائيل”.
في المقابل تستقبل إيران محاولات تلاعُب روسيا بمزيد من عدم الثقة، وتعلم جيدًا إن اعتراف الأخيرة بها كلاعب مهم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكذلك في جنوب القوقاز وبحر قزوين، لن يمنعها من بناء علاقات بالقدر نفسه مع منافسيها الإقليميين.
كما لم يمنع فلاديمير بوتين من التوقيع على بيان رئاسي مشترك بين الولايات المتحدة وروسيا حول الاستقرار الاستراتيجي، الأمر الذي ترتّب عنه إفساح أميركا الطريق لموسكو للعب دور هام في محادثات فيينا لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، وتوجيه ضربة تحت الحزام لإيران.
خذلت موسكو طهران عندما كانت في أمسّ الحاجة إلى رفع العقوبات المفروضة عليها، وتجاهلت محنتها ونظرت إلى الاتفاق النووي باعتباره أولوية لها أيضًا، وشاركت في المحادثات بسياسة براغماتية ظنّت أنها لن تقودها إلى خسارة الجمهورية الإسلامية.
لكن إيران سبقتها وسارعت هي الأخرى إلى بناء حلف بديل مع الصين، ووقّعت معها عقود استراتيجية سرّية مدتها ربع قرن للتعاون في مجالات متنوعة، لم تفصح عن أغلبها حتى الآن.
كما تملك روسيا العديد من الأوراق ضدّ إيران، وتُخضعها أحيانًا لابتزاز السياسة ومساراتها المتعرجة، كما تملك إيران هي الأخرى أوراق ضغط شرسة داخل مناطق نفوذ روسيا، بفضل التأثير الإيراني في شمال القوقاز، ومنطقة البلقان الأوراسي، وهذه الأوراق جعلت موسكو تسارِع لعقد اتفاق مع طهران لتجنُّب المواجهة بينهما في القوقاز، ودعم المصالح المشتركة بموارد الطاقة في بحر قزوين.
يقول التاريخ إن إيران كانت تعتبِر القوقاز دائمًا منطقة ثانوية لها، وفضّلت التركيز في المقابل على صراع النفوذ المستمرّ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لكن البراغماتية الروسية وموقف موسكو الملغَّم من برنامج إيران النووي يجبرها على مراجعة حساباتها، واستخدام القوقاز كورقة مساومة أمام موسكو التي تتخوّف بشدة من احتمالات أن تصبح إيران منافسًا رئيسيًّا لشركة غاز بروم العملاقة في سوق الغاز الأوروبية.
نجح الدهاء الإيراني في إجبار الروس على تطوير التعاون مع طهران في قطاع الطاقة، وتدشين آلية مواجهة مشتركة ضد الخصوم الجيوسياسيين لموسكو وطهران، فالأولى هي أكبر مورِّد للغاز الطبيعي إلى أوروبا، وتشارك القارّة بـ”ربع إجمالي الواردات” أي ما يقارب 65% من الغاز، بينما تمتلك طهران ثاني أكبر احتياطي للغاز الطبيعي في العالم.
رفضت روسيا دائمًا إخفاء إيران منشآتها السرّية، كما رفضت اقتراح مفاعل طهران للأبحاث لإرسال اليورانيوم منخفض التخصيب إلى روسيا.
لكن كل هذه التحصينات لا تنفي حقيقة أن الروس ضغطوا دائمًا على إيران للتوقيع على البروتوكول الإضافي للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولم يدّخروا أي انتقادات عندما علّقت طهران التنفيذ الطوعي للبروتوكول، بل دعموا قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، بإبلاغ مجلس الأمن الدولي عن الملف النووي في وقت مبكّر خلال أعوام 2006-2009-2010 .
رفضت روسيا دائمًا إخفاء إيران منشآتها السرّية، كما رفضت اقتراح مفاعل طهران للأبحاث لإرسال اليورانيوم منخفض التخصيب إلى روسيا وتخصيبه بنسبة تصل إلى 19.75%، وردّت روسيا على عرض الصفقة بدعم عقوبات الأمم المتحدة ضدّ الجمهورية الإسلامية.
ومع أنها كانت أقلّ انزعاجًا بين القوى الغربية من طموحات إيران النووية من الولايات المتحدة، إلا أنها نظرت بشكل متزايد إلى المواقف الإيرانية بشأن القضية النووية على أنها عنيدة ومغامرة، وتحتاج إلى ضغوط دائمة لضمان الشفافية اللازمة لأنشطتها التي قد تهدِّد العالم بأسره، ولن تفرِّق بين حليف وعدو.