ترجمة وتحرير نون بوست
في ظل جائحة كورونا، عانت الحكومات الأوروبية لاحتواء الأزمة وواجهت انتقادات لاذعة بسبب ارتفاع معدلات الوفيات وبطء وتيرة حملات التطعيم. ومع أن الأزمة بدأت بالانحسار، إلا أنها تركت تداعيات سياسية غير متوقعة، أبرزها إضعاف القوى المناهضة للمؤسسات، وتعزيز المركزية.
سجلت أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا وألمانيا، والتي زادت شعبيتها بشكل ملحوظ قبل الجائحة، نتائج سيئة في الانتخابات الأخيرة وتراجعت في استطلاعات الرأي. وفي إيطاليا، تشهد أحزاب المعارضة الشعبوية حالة من الركود، حيث يمرّ حلفاؤها الأيديولوجيون في جميع أنحاء أوروبا الوسطى بانخفاض شعبيتهم أو صعود معارضات قوية.
تقول إحدى التفسيرات لهذه الظاهرة إن الجائحة قد طغت مؤقتًا على القضايا التي تعتمد عليها هذه الأحزاب لاستقطاب الجماهير – مثل الهجرة والجريمة والإسلام – أي أن الأمر لا يعود فقط إلى تغيّر في مزاج الرأي العام. تشير الإحصاءات إلى أن معدلات الجرائم بأنواعها المختلفة، إلى جانب الهجرة بشكل عام، قد انخفضت بشكل حاد خلال أشهر الإغلاق وفرض القيود على السفر.
ويرى عدد من الخبراء أن هناك تفسيرا آخر يكمن في فشل القوى والأحزاب المناهضة للمؤسسات التقليدية بتحقيق استجابة مناسبة للأزمة الصحية وتقديم بديل معقول لتدابير إدارة الجائحة التي اتخذت نهجا علميا.
فشل حزب مارين لوبان اليميني المتطرف في تحقيق نتائج جيدة في الانتخابات الإقليمية في فرنسا، حيث انجذب الناخبون نحو مرشحي الأحزاب التقليدية.
يقول مؤسس مجموعة “فورزا” الألمانية المتخصصة في استطلاعات الرأي، مانفريد غولنر، إن جميع الشعبويين حاولوا الاستفادة من الغضب الشعبي ضد القيود التي فرضتها الحكومات، بالإكثار من دعم الاحتجاجات المعارضة لارتداء الأقنعة وحملات التطعيم، لكن حركات كهذه لم تجد صدى كبيرا عند الناخبين في أوروبا. وأضاف: “لا شك أن الأحزاب الحكومية قد واجهت صعوبات في إدارة الجائحة، لكن الشعبويين لم يقدموا أي أفكار بديلة أو حلول أو سياسات قابلة للتطبيق”.
ومن جهته، يقول إيفان كراستيف، الكاتب والمحلل السياسي المقيم في فيينا، إن القادة الشعبويين الذين ينادون عادة بالحكم الاستبدادي وجدوا أنفسهم فاقدين للمصداقية عندما انحازوا فجأة إلى المتظاهرين المناهضين للدولة والمعارضين للسلطة.
ويرى كراستيف أن دعم الناخبين للأحزاب الشعبوية سببه الرئيسي قضايا مثل الهجرة أو الإسلام، حيث يبحث الناخب عن سياسيين يشاطرونه نفس المخاوف، “لكن الجائحة لا تتمحور حول المخاوف فحسب، بل تتعلق بالخشية على صحتك وحياتك، وأنت لست بحاجة في مثل هذا الظرف إلى شخص يجعلك تشعر بالقلق على سلامتك، بل إلى شخص يتصرف بشكل سريع، وقد لاحظ الناس أن الأحزاب التقليدية فعلت ذلك، بينما اكتفت المعارضة الشعبوية بالاحتجاج على الإجراءات”.
خلال ذروة الجائحة، انتقد حزب “البديل من أجل ألمانيا” الشعبوي، أكبر حزب معارضة برلمانية في البلاد، عمليات الإغلاق وقوانين ارتداء أقنعة الوجه. ومنذ بداية تفشي الفيروس، انخفضت شعبية الحزب من 14 إلى 10 بالمئة، أي أقل مما حصدته في انتخابات 2017.
في انتخابات حزيران/ يونيو، حصل حزب البديل من أجل ألمانيا في ولاية ساكسونيا-أنهالت، أحد أهم معاقله، على 18.3 بالمئة من الأصوات، وهو أقل بكثير من نتائجه السابقة، وأقل بكثير مما حققته الكتلة المحافظة بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل.
وقد وجد استطلاع أجراه البروفيسور غولنر أن الناخبين ينظرون إلى إدارة الجائحة على أنها ذات أهمية قصوى، مع تقبّل معظمهم للقيود التي تفرضها الحكومة، بما في ذلك الإغلاق. كما وجد استطلاع آخر أجرته مجموعة فورزا مؤخرًا أن الهجرة – التي تعد القضية الأساسية للشعبويين الألمان والأوروبيين – قد تدنت إلى المركز السابع في قائمة اهتمامات الناخبين، خلف قضايا تشمل تغير المناخ والاقتصاد والتعليم والرواتب التقاعدية.
وفي فرنسا، فشل حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبان في تحقيق الفوز في أي منطقة خلال الانتخابات المحلية يوم الأحد الماضي، حيث انجذب الناخبون إلى المرشحين التابعين للأحزاب التقليدية. كانت لوبان تعوّل على الانتخابات الإقليمية لتحقيق زخم انتخابي قبل الترشح لرئاسيات 2022.
أدت الهجمات الإرهابية الأخيرة، بما في ذلك قطع رأس معلم بمدرسة إعدادية في تشرين الأول/ أكتوبر، والجدل حول مكانة الإسلام في المجتمع الفرنسي، إلى دفع الناخبين نحو اليمين، لكن التطورات بسبب الجائحة عادت بالفائدة على مرشحي الأحزاب التقليدية.
تراجعت شعبية زعيم حزب الرابطة اليميني الإيطالي ماتيو سالفيني منذ سنة 2019.
في إيطاليا المجاورة، كان أكبر ضحايا الجائحة على الساحة السياسية حزب الرابطة الشعبوي بقيادة ماتيو سالفيني أحد أبرز قادة اليمين المتطرف في أوروبا، والذي خرج من الحكومة سنة 2019.
وفقا لاستطلاعات الرأي التي جمعتها مؤسسة “يو تريند”، فإن شعبية سالفيني الانتخابية التي بلغت ذروتها في خريف 2019 بنسبة 38 بالمئة تقريبا، تقلصت إلى حوالي 21 بالمئة. ويقول مراقبون إن هناك تحوّلا للناخبين بعيدًا عن سالفيني، ونحو حزب “إخوان إيطاليا” القومي، مما أدى إلى تشتت أصوات اليمين المتطرف.
ويشير أستاذ العلوم السياسية بجامعة لويس في روما، جيوفاني أورسينا، إلى أن سالفيني وجد صعوبة في صياغة خطاب سياسي واضح منذ بداية الجائحة، مضيفا أنه “يحاول أن يحدد مكانه في ظل الوضع الراهن”.
ولم تحقق الأحزاب القومية والشعبوية أداء أفضل في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، رغم تقلد أعضائها مناصب حكومية. على سبيل المثال، يواجه حزب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان معارضة موحدة باتت تشمل الآن أحزاب اليمين المتطرف وأقصى اليسار، ويتوقع مراقبون أنها ستشكل في انتخابات الربيع المقبل تهديدًا كبيرا على حكومته التي تدير البلاد منذ عشر سنوات.
احتجاجات خارج البرلمان المجري على القانون المناهض لمجتمع الميم في بودابست، يوم 14 حزيران/ يونيو.
في بولندا، يشهد حزب القانون والعدالة، الذي يتولى الحكم منذ 2015، انخفاضًا في شعبيته من 48 بالمئة في السنة الماضية إلى حوالي 36 بالمئة حاليا، وذلك وفقًا لاستطلاعات مؤسسة “بول أو بولز” التابعة لصحيفة “بوليتيكو”.
ويؤكد مارسين دوما، الرئيس التنفيذي لمعهد “إبريس” (IBRiS) لبحوث السوق والمجتمع، بأن شعبية الحكومة تلقت ضربة قوية بشكل خاص بعد إعلانها بأن الجائحة انتهت الصيف الماضي قبل الانتخابات الرئاسية في محاولة لحشد الأصوات، على الرغم من المخاوف بشأن تفشي الفيروس من جديد. ويقول دوما: “عادت الجائحة في الخريف، مما دفع الناخبين لإلقاء اللوم على الحكومة”.
وفي محاولة لاستعادة الشعبية، كشف الحزب الشهر الماضي عن سلسلة من إجراءات الرعاية الاجتماعية التي تشمل تخفيضات ضريبية وإعانات للحصول على قروض عقارية تشمل العمال ذوي الدخل المنخفض والمتقاعدين.
ويتوقع بعض المحللين ارتفاع شعبية الأحزاب اليمينية مجددا بمجرد أن تنتهي الجائحة، ويتركز الجدل مرة أخرى حول القضايا التي يحبّذها الشعبيون.
في هذا الصدد، يقول مجتبى رحمن، العضو المنتدب لـ “مجموعة أوراسيا” الاستشارية، إنه مع توجه الاهتمام نحو التعافي الاقتصادي، سيكون لدى الشعبويين فرصة كبيرة لإعادة تجميع صفوفهم إذا فشلت الحكومات في تخفيف التداعيات الاقتصادية للجائحة.
ويضيف أن “تدابير الدعم لتجنب الأضرار الاقتصادية الهائلة وتخفيف البطالة ستنتهي بحلول نهاية السنة. ومن المحتمل أن نشهد انتعاشًا شعبويًا إذا أدى تقاعس الحكومات إلى إجراءات تقشفية وفقدان المزيد من الوظائف”.
المصدر: وول ستريت جورنال