كما كان متوقّعًا، فشلَ الحوار الليبي في التوصُّل لاتفاق بشأن القاعدة الدستورية التي تمهِّد للانتخابات، ما يجعل الانتخابات القادمة صعبة المنال، في ظل إصرار موالين لخليفة حفتر على فرض شروطهم على الجميع، تمهيدًا لترشّح قائدهم لهذا الاستحقاق الانتخابي المهم في تاريخ البلاد، لكن هل للأمم المتحدة دخل في هذا الفشل؟
تعثُّر الحوار
رغم تمديد أعماله، تعثّر الحوار السياسي الليبي المنعقد في جنيف، إذ فشلت المحادثات التي ترعاها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، بهدف الاتفاق على قاعدة دستورية يفترض أن تؤسِّس لانتخابات الـ 24 من ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
وكان من المقرر أن تستمرَّ هذه المحادثات 4 أيام فقط، لكن تمّ التمديد فيها لفسح المجال أكثر أمام المجتمعين في جنيف للوصول لاتفاق بشأن عدد من المقترحات المطروحة، إلا إن الفشل تواصل، ما جعل ريزيدون زينينجا، الأمين العام المساعد ومنسِّق بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، أن يعلن توقُّف الحوار.
يسعى أتباع القذافي لفرض توجُّههم حتى يتمكن سيف الإسلام من الترشح لهذا الاستحقاق الانتخابي المرتقب نهاية السنة الحالية.
احتضنت سويسرا على مدى أيام، برعاية الأمم المتحدة، محادثات ضمّت 14 عضوًا من أصل 75 مشاركين في الحوار السياسي (يمثّلون جانبًا من المشهدَين السياسي والاجتماعي الليبي)، من أجل حلّ إشكالات القاعدة الدستورية التي توصلت إليها اللجنة القانونية بالملتقى، وللوصول إلى تفاهمات نهائية قبل عرضها للتصويت على ملتقى الحوار السياسي كحلٍّ أخير.
وتداولَ المجتمعون عديد المقترحات التي رفعتها اللجنة الاستشارية للملتقى، على شكل توصيات تهدف إلى تجاوز الخلافات التي رسمت ملامح أزمة دستورية عميقة في البلاد، لكن دون جدوى، ما من شأنه أن يُفشِل كل مسارات الوصول للاستحقاق الانتخابي.
وعقب الإعلان عن فشل الحوار، دعا ريزيدون زينينجا أعضاء الملتقى إلى إيجاد حل وسط يوحِّد الأطراف الليبية، ومواصلة التشاور سعيًا لإيجاد حل يعزِّز الوحدة الوطنية، وأضاف في حديثه الذي بثّته قنوات تلفازية: “سنواصل العمل معكم ومع لجنة التوافقات لإعداد بعض الخيارات، من أجل بناء أرضية مشتركة ليناقشها الملتقى مرة أخرى”.
جماعة حفتر تسعى لفرض شروطها
تسعى معظم الأطراف في ليبيا إلى إجراء انتخابات وطنية في ديسمبر/كانون الأول المقبل، وفق ما جاء في خريطة الطريق التي أقرّها ملتقى الحوار السياسي الليبي في وقت سابق، ووفق ما ورد في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2570 لعام 2021، لكن يبدو أن بعض الأطراف لا يُعجبها ذلك وتصرّ على عرقلة هذه الانتخابات أو إنجازها وفق شروطها التي تخدم مصالحها.
ويُتّهَم اللواء المتقاعد خليفة حفتر -داخليًّا وخارجيًّا- بالتأثير على جماعته المشاركين في ملتقى الحوار، لإفشال الحوار في حال لم يتم العمل بشروطهم المتعلقة بالحوار، فبعد إفشاله كل محاولات بناء جيش ليبي وطني، ها هو يعمل الآن على عرقلة كل الخطوات الرامية لتنظيم انتخابات.
وعلّلَ رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا خالد المشري تعثر ملتقى الحوار في الوصول إلى أرضية مشتركة، بتعنُّت بعض الأطراف ومحاولة فرض انتخابات دون شروط محدَّدة للترشح، ودعا المشري خليفة حفتر إلى نزع الزيّ العسكري والتخلي عن الجنسية الأجنبية، وتسوية وضعه القانوني مع جرائم الحربـ إذا ما رغب بترشيح نفسه.
ويعمل الموالون لحفتر على فرض شروط الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، بحيث تخدم حفتر، من ذلك السماح لمزدوجي الجنسية والعسكريين ومن تطالهم اتهامات انتهاك حقوق الإنسان بالترشح للانتخابات، وهو ما يرفضه أغلبية الليبيين.
يسعى التكتل الداعم لخليفة حفتر إلى صياغة شروط ومواد على قياس حفتر تضمن ترشحه، كما تضمن بقاءه في منصبه حتى التأكد من فوزه، رغم أنه يتمتع بجنسية أميركية ويحمل رتبة عسكرية، وهو ما يرفضه أعضاء كثر في ملتقى الحوار.
بعد فشله في الاستيلاء على العاصمة طرابلس، وتخلّي عشائر نافذة وبعض داعميه الأجانب عنه، تيقّن حفتر أن الحل الوحيد الممكن سياسي وإلا سيجازِف بمصالحه، لذلك اختار لعب الورقة السياسية في ضوء الانتخابات الحاسمة المقرَّرة في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
ومنذ أشهر، كثّف حفتر ظهوره العلني بعد اختفاء دام عدة أشهر، فيما فُهم أنها حملة انتخابية مبكِّرة، إذ وعد ببناء “3 مدن جديدة” في محيط بنغازي كبرى مدن الشرق، كما وعد عائلات قتلى ميليشياته بـ 20 ألف وحدة سكنية، كما وعدهم بتوفير فرص عمل لأبنائهم بعد تأهيلهم، إضافة إلى تكفُّل قواته بمصاريف تعليم أبناء القتلى حتى المرحلة الجامعية، فيما تكون الأولوية في طلبات الحج والعمرة لهذه الأُسَر.
يؤكّد هذا الأمر أن خليفة حفتر -الذي تُتّهم قواته بارتكاب مجازر حرب ضد الليبيين- لن ينسحب من المعادلة الليبية بسهولة رغم الضغط الكبير الممارَس ضده داخليًّا وخارجيًّا وحتى من أقرب حلفائه.
مسؤولية أنصار القذافي أيضًا
أتباع حفتر ليسوا المسؤولين الوحيدين عن فشل الحوار، فجماعة القذافي لهم دور في ذلك أيضًا، فهم يسعون لفرض توجُّههم حتى يتمكّن نجل معمر القذافي سيف الإسلام من الترشّح لهذا الاستحقاق الانتخابي المرتقب نهاية السنة الحالية.
وسبق أن أعلن سيف الإسلام عبر الإعلام البريطاني نيّة ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة في ليبيا، ونقلت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية أن سيف الإسلام يخطِّط للعودة إلى الحياة العامة، وينوي خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ويعمل نجل القذافي حاليًّا على إقناع دبلوماسيين غربيين وغيرهم، بهدف الحصول على دعمهم أثناء عودته إلى الحياة العامة، أما داخليًّا فهناك جهود لجمع الفصائل الليبية على طاولة واحدة، بهدف إعادة دمج الموالين للقذافي في الساحة السياسية.
هذا الفشل في الوصول لتوافقات حول الانتخابات القادمة، مثّل خيبة أمل كبيرة لدى الليبيين رغم التنازلات التي قدّموها للمضي قدمًا في إنجاز هذه الانتخابات.
تأتي هذه التحركات على الرغم من كون سيف الإسلام لا يزال ملاحقًا من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، إذ سبق أن أكدت المحكمة الجنائية الدولية أن أمر القبض الصادر ضد سيف الإسلام القذافي لا يزال قائمًا، وأن السلطات الليبية لا تزال مُلزمة بتقديم سيف القذافي إلى المحكمة.
كما سبق أن قضت محكمة الاستئناف بالعاصمة الليبية طرابلس، في الـ 28 من يوليو/ تموز 2015، بإعدام سيف الإسلام القذافي رميًا بالرصاص، على خلفية تهم التحريض على إثارة الحرب الأهلية والإبادة الجماعية وإساءة استخدام السلطة وإصدار أوامر بقتل المتظاهرين، والإضرار بالمال العام وجلب مرتزقة لقمع ثورة الـ 17 من فبراير/ شباط.
ماذا عن الأمم المتحدة؟
للأمم المتحدة مسؤولية أيضًا عن هذا الفشل، فقد أصرّت على ضرورة إجراء الانتخابات وفق قاعدة دستورية مؤقّتة، متجاهِلة تمامًا مطالِب الاستفتاء على الدستور الذي تم صياغته في وقت لاحق، وتطلّب إتمام ذلك وقتًا طويلًا وجهدًا كثيرًا.
سعت بعثة الأمم المتحدة إلى تغييب مسألة الاستفتاء على الدستور للعمل وفق قاعدة دستورية، ويتمثّل الهدف من ذلك في سعيها وأطراف دولية أخرى إلى استيعاب خليفة حفتر وإفساح المجال أمامه للانخراط في العملية الانتخابية، ذلك أن مشروع الدستور يمنع العسكر من الممارسة السياسية والمشاركة في أي انتخابات.
يُظهر هذا الأمر أن المتحكم في العملية السياسية في ليبيا هي البعثة الأممية ومن ورائها بعض الدول النافذة، إذ قال المبعوث الأممي يان كوبيتش، في كلمة ألقاها في ثاني أيام الملتقى، إن الفاعلين الدوليين يشدِّدون على “إقرار القاعدة الدستورية” للمضي نحو الانتخابات، مشيرًا إلى أن هذا التشديد جاء بعد مشاوراته مع ممثّلي 5 دول كبرى.
هذا الفشل في الوصول لتوافقات حول الانتخابات القادمة، مثّل خيبة أمل كبيرة لدى الليبيين، رغم التنازلات التي قدّموها للمضي قدمًا في إنجاز هذه الانتخابات، لكن السؤال المطروح الآن ما هو السبيل لإجراء انتخابات في ظل هذا الخلاف الكبير بين الليبيين والتدخل الأجنبي المتواصل في القرار السيادي الليبي؟