خلال حديثه في ندوة عبر الاتصال المرئي، يوم الخميس 24 يونيو/ حزيران 2021، قال المبعوث الأميركي إلى اليمن، تيموثي ليندركينغ، بالنص: “لقد تحدثتُ في عدد من المناسبات عن شرعية الحوثيين، أي أن الولايات المتحدة تعترف بهم كفاعل شرعي، ونحن نعترف بهم كمجموعة حقَّقت مكاسب كبيرة، لا أحد يستطيع أن يتمنى خروجهم من الصراع أو الخروج منه”، ما أثار ردود فعل يمنية عنيفة تجاه ما سُمّي حينها بالاعتراف الأميركي بشرعية الحوثيين.
هذا التصريح الذي أدلى به المبعوث الأميركي إلى اليمن، والذي يفترض أن يمارِس مهامَّ الضغوط القسوى لبرنامج الرئيس جو بايدن الانتخابي، لقبول سلام وإن كان هشًّا في اليمن، ذهب ليمنح لهم شرعية دولية على حساب الشرعية اليمنية، كمكافأة لرفضهم قبول مبادرات السلام، وهو ما يعني تغيُّرًا جذريًّا في التزام الولايات المتحدة الأميركية بالقانون الدولي، والانتقال إلى تشجيع الجماعات المسلحة وخصوصًا تلك التي تنقلب على الحكومات بقوة السلاح.
وفي اليوم التالي من تصريح ليندركينغ، حاولت الخارجية الأميركية تدارُك كارثة حديث مبعوثها إلى اليمن، برسالة مشفَّرة إلى طرفَي الصراع في اليمن، حينما قالت في إحدى تغريداتها المتتالية التوضيحية: “لا يمكن لأحد إبعادهم (أي الحوثي) أو إخراجهم من الصراع عبر التمنّي فقط، لذلك دعونا نتعامل مع الحقائق الموجودة على الأرض”.
— الخارجية الأمريكية (@USAbilAraby) June 25, 2021 /p>
وفي يوم السبت 26 يونيو/ حزيران 2021، أي بعد يوم واحد ممّا قالته الخارجية الأميركية، حول عدم إمكان إبعاد الحوثيين وإخراجهم بالتمنّي فقط، تحدّث السفير البريطاني إلى اليمن، مايكل آرون، باللهجة ذاتها، وقال إن الحوثيين لا يستمعون إلى النصائح، بعكس التحالف العربي والقوات المشترَكة اللذين كادا يحرِّرا محافظة الحديدة، حيث استمعا إلى نصائح لندن حول أن بريطانيا ترفض القتال داخل مدن كبيرة، أي أعيدوا الحوثيين إلى صنعاء وحاصروهم فيها ليقبلوا بالسلام.
3 تصريحات مهمة جدًّا، ويفترض إن كان لدى الحكومة اليمنية سياسيون مخضرمون أو متخصِّصون في مجال الدراسات والاستشارات السياسية، لأوصلوا الرسالة الأميركية لصنّاع القرار الحكومي في الحال دون تأخير، والبدء بالعمل عليها في أرض الواقع، على اعتبار أنها رسائل لطرفَي النزاع، ولا بدّ من استغلالها.
لكن الكارثة في ذلك أن تلك التصريحات لم يكن لها ردة فعل قوية من الحكومة اليمنية، سوى ردة الفعل على المستوى الشعبي والنُّخب المثقفة اليمنية، وكان لها ارتداد قوي لدى الخارجية الأميركية التي حاولت أن تغلِّف تصريحات المبعوث الأميركي إلى اليمن، بكلمة سرّ سهلة يفهمها الجميع، وعلى الرغم من ذلك سافر الرئيس اليمني إلى أميركا، ليستجمَّ هناك تاركًا كل مشاكل اليمن وراء ظهره.
حاول الإعلام أن يفهم طبيعة تلك الرسالة الأميركية، من خلال مناقشة الفكرة بسطحية، لكن الجميع ذهب بالحديث أن لا جديد لدى الولايات المتحدة الأميركية فيما يخص علاقتها مع الحوثيين، وبدأ الجميع يقدح أميركا بتُهم غريبة، مثل أن ذلك استراتيجية بل سياسة أميركية لإيصال الحوثيين إلى السلطة والاعتراف بهم، والحقيقة أن ذلك يدلّ على الفهم القاصر لدى طرف الشرعية وصحفييه والنشطاء والحقوقيين التابعين له.
بالنظر إلى التاريخ الأميركي، لا يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تعترف بجماعة انقلبت على الدولة بهذه الطريقة الساذجة والسهلة جدًّا، حتى لو العالم كله اعترف بها، لا سيما أن الحوثيين جماعة من الفصيل المعادي للسياسة الأميركية، وهم ضمن المحور الصيني الروسي الإيراني، فليس من المعقول أن تعترف بالحوثيين كسلطة شرعية بهذه السهولة.
وبالحديث عن التاريخ الأميركي، فإنها (أي الولايات المتحدة) لم تعترف بدولة الصين الشعبية في ظلّ حكم ماو تسي تونغ، لمدة عقدَين من الزمن، وكانت حينها تمثِّل من ناحية عدد السكان نحو ربع سكان العالم، وأصرّت على أن المقعد الدائم في مجلس الأمن الدولي يجب أن يظل بعضوية الصين الوطنية.
ولم يتغير هذا الموقف الأميركي إلا عام 1971 في عهد الرئيس نيكسون، فكيف سيكون الحال مع مجموعة انقلابية وطائفية، تهاجِم المناطق المحرَّرة من الجمهورية اليمنية، وترتكب أبشع الجرائم الإرهابية وتفاقم الأزمة الإنسانية بحق ما يقارب 25 مليون يمني، وتعدادها كميليشيا مسلحة لا يزيد عن بضع عشرات الآلاف من أصل 30 مليون يمني؟
بالمطلق، لا يمكن أن تعترف الولايات المتحدة الأميركية بالحوثيين، ولكن توقيت هذا الحديث له دلالات سياسية وعسكرية مهمة، كان يفترض على الحكومة اليمنية والتحالف العربي التقاطها لصالحهما ومحاولة العمل عليها، من الزاوية التي قد تساعد المجتمع الدولي على إحلال السلام العادل والشامل في اليمن.
ثلاث دلالات
تصريحات المبعوث الأميركي إلى اليمن وخارجية بلاده، وكذلك السفير البريطاني، قد يكون لها 3 دلالات سياسية ودبلوماسية وعسكرية، وإن كانت كفّة الأخيرة هي الأكثر ترجيحًا.
قد تكون تلك التصريحات التي تم إثارتها، محاولة أميركية لممارسة ضغوط إضافية على الحكومة اليمنية والتحالف العربي، لانتزاع الكثير من التنازلات، لا سيما أن الولايات المتحدة وجدت طرفًا ليّنًا يستمع إليها، وينفِّذ طلباتها، وطرفًا يرفضها بل يضع المزيد من العراقيل والشروط التعجيزية، بهدف انتزاع نصر عسكري وسياسي، ويجد الموقف الأميركي الهادئ وسيلة لتحقيق ذلك.
يرفض الحوثيون المبادرة الدولية لإحلال السلام في اليمن، ويضع شروطًا تعجيزية، منها أن تعلن المملكة العربية السعودية وقف الطلعات الجوية التي أعاقت الحوثيين من احتلال مأرب، ورفع القيود عن موانئ الحديدة، ورفع الحصار عن مطار صنعاء، لاستقدام الخبراء الإيرانيين والسلاح، ما يعني إفساح المجال للحوثيين للسيطرة على اليمن بشكل كامل، من خلال الحرب التي سيقودها خبراء إيرانيون.
هذه الفرضية جائزة في عالم السياسة والدبلوماسية، وخصوصًا لدى إدارة الرئيس جو بايدن الذي تحدّث ووعد كثيرًا خلال حملته الانتخابية بوقف الحرب في اليمن، وإحلال السلام فيها، وإن كان على حساب الشرعية اليمنية، وفق حوار سياسي خادع، لإحلال سلام هشّ.
الوقت يمرُّ سريعًا على إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، لكنه لم يستطع أن يفعل شيئًا خلال الـ 6 الأشهر الأولى من ولايته، وتزداد الأمور في اليمن تعقيدًا، كما تحاول الولايات المتحدة الأميركية بالضغط على الطرف الذي يساعدها للاستجابة لصالحها.
RT @SecBlinken: التقيت اليوم في #قمة_مجموعة_العشرين بوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان للحوار حول الأمن الإقليمي وهدفنا المشترك المتمثل في تحقيق وقف إطلاق النار والانتقال إلى العملية السياسية في اليمن.. pic.twitter.com/MARUW4gPXy
— الخارجية الأمريكية (@USAbilAraby) June 29, 2021 /p>
وهذا أيضًا يفسِّر اللقاء المكثّف والاتصالات المتتالية بين مسؤولين سعوديين وأميركيين، وتركُّز الموضوع حول وقف الحرب في اليمن بأي طريقة، وإن كان من جانب واحد.
الدلالة الثانية؛ ربما تحاول الولايات المتحدة الأميركية استدراج الحوثيين إلى سلام، وبدأت تستخدم الغزل الكلاسيكي، نحو الجماعة التي عَجِزَ العالم عن إقناعها بالجنح إلى السلام.
فتارة تتحدث أميركا عن أن الحوثيين سيحصلون على شرعية واعتراف أميركي في حال وافقوا على السلام، وتبعث لهم تارة أخرى أن يطمئنوا أن الحوار لا يمكن أن يكون سببًا في انتزاع ما حققوه من مكاسب خلال سنوات الحرب، وهي دبلوماسية أميركية ماكرة، لكن هذا يكشف عدم فهم واشنطن لطبيعة الحوثيين الرافضة أصلًا لأيّ حوار ما لم تضمن أن يكون الجسد كله في متناولها، بدلًا من أي قطعة في الجسم.
الدلالة الثالثة؛ يريد أن يرسل المجتمع الدولي، وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، رسالة إلى الحكومة اليمنية والتحالف العربي، أنهم فشلوا في إقناع الحوثيين، وأن الضغط والقرارات الدولية والمرجعيات الثلاث، دون عمل عسكري، عبارة عن أمنيات، لا يمكن أن تساهِم في وقف الحرب في اليمن أو إعادة الحكومة اليمنية إلى ما قبل انقلاب الحوثيين على السلطة الشرعية.
هذه الدلالة، وهي الأقرب إلى الواقع، تبدو كرسالة مشفَّرة إلى الحكومة اليمنية، بأهمية التحرك العسكري إن أرادت أن تغيِّر من الواقع، إلى جانب الضغط الأممي على الحوثيين، وهي في الوقت ذاته إشارة إلى ضعف الحكومة اليمنية التي لم تستطع تغيير المعادلة على الأرض أو الضغط على الحوثيين عسكريًّا، واكتفائها بالرهان على الضغوط الدولية المحتملة على الحوثيين وإدانة الخروقات الحوثية المتكرِّرة لاتّفاق ستوكهولم فيما يخص الحديدة أو تقدُّمهم نحو مأرب، على اعتبار أن كل ذلك يندرج تحت خانة “التمنيات”، ولن يغيّر من الأمر شيئًا ما لم يكن هناك موقف حازم من قبل الحكومة تجاه الحوثيين.
المبعوث الدولي والخارجية الأميركية لا يريدان القول صراحة للحكومة اليمنية: عليكم أن تتحركوا عسكريًّا وتوحِّدوا جهودكم للضغط على الحوثي، بل أرسلوها رسالة مشفَّرة، إلّا إن الحكومة اليمنية رفضت أن تفهم ذلك، وأصرّت على عدم فهم ذلك.
التقاط حوثي للرسائل
في المقابل التقط الحوثيون تلك الرسائل، وحولوها لصالحهم، وضاعفوا من هجومهم على المملكة العربية السعودية، بهدف الضغط عليها للقبول بمطالبهم وشروطهم (رفع الحصار عنهم)، مقابل وقف إطلاق الصواريخ البالستية عليها، وأن تكفَّ عن التدخُّل في ما أسموه الشأن الداخلي، وهو تكتيك يريد به الحوثي أن تخلوا الساحة له من أجل التفرغ لتصفية الخصوم داخليًّا، والتفرُّد بحكم البلاد وتأسيس الولاية الشيعية في جنوب الجزيرة العربية.
وفي الوقت ذاته، كثّف الحوثيون هجومهم العنيف على محافظة مأرب (شمال شرق اليمن)، وأرسلوا تعزيزات عسكرية ضخمة، وتمكّنوا من السيطرة على عدة مناطق في جبهة الكسارة، البوابة الأخيرة للمحافظة الغنية بالنفط، والمعقل الأخير للحكومة الشرعية في شمال اليمن.
ينظر الحوثيون إلى الضغط الدولي على المملكة العربية السعودية والحكومة اليمنية، على أنه ضوء أخضر لهم، وفرصة سانحة لهم لاستكمال السيطرة على المحافظات الشمالية قبل أن يتوجّهوا جنوبًا للقضاء على كل الخصوم السياسيين، في ظل تجاهُل دولي وحكومي لما يفكّر به الحوثيين.
احتقان شعبي
يحدث ذلك في ظل احتقان شعبي يمنيّ كبير من أسلوب الحكومة اليمنية، وتراجُع أداء التحالف العربي على المستويات العسكرية والسياسية وحتى الإعلامية في دعم الشعب اليمني، ما قد ينذر بانفجار داخلي من خلال تكوينات عسكرية ومقاومة شعبية في الداخل اليمني.
على التحالف العربي أن يعمل على توحيد القيادة العسكرية، وأن يعمل على هيكلة الجيش اليمني، واستبداله بقوات وطنية وعسكرية حقيقية.
هذا التراجع (الحكومي والتحالف العربي) قد يكون له مآلات سلبية أو إيجابية، فالسلبية هي أنه قد يرسل رسائل إلى القبائل اليمنية، وخصوصًا المناهضة للحوثيين، أن نهاية الحرب ستكون نتيجتها انتصار الحوثي، وهو ما يحتِّم عليهم مهادنة الحوثي، والاستماع إلى مطالبه في رفد الحوثيين بالمقاتلين، وتمويل جبهاته بالمال والسلاح، ما يشكِّل فارقًا كبيرًا في هذه الحرب لصالح الحوثيين.
أما الإيجابي، قد يحرِّك الكثير من المكوِّنات السياسية والعسكرية المناهضة للحوثيين، لتشكيل مقاومة شعبية وعسكرية وسياسية، ستزيد من حدّة الحرب في اليمن، ومن ثم إعلان مجلس عسكري، لإدارة عملية التحرير، على اعتبار أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأن الـ 6 السنوات الماضية، فشلت فيها كل مساعي السلام.
الخلاصة
من التصريحات الدولية، أصبح واضح أن العالم سَئِمَ من هذه الحرب ويريد الانتهاء منها بأي ثمن، وبدأ التوجُّه الأميركي بالمطالبة بأهمية الحسم في ذلك عسكريًّا، ومن سيسيطر في النهاية سينال مباركة واعترافًا دوليًّا، في اعتراف صريح بفشل الضغوط الدولية لإنهاء هذه الحرب.
على الحكومة اليمنية أن تتوقف فورًا عن الأداء السلبي، وأن تعلن مهلة محددة للمجتمع الدولي لإقناع الحوثي بالامتثال لقرارات مجلس الأمن والرغبة الدولية الجامعة لوقف الحرب في اليمن، أو التحرك العسكري وفرض الأمر الواقع.
وعلى التحالف العربي أن يعمل على توحيد القيادة العسكرية، وأن يعمل على هيكلة الجيش اليمني، واستبداله بقوات وطنية وعسكرية حقيقية، وأن يكون هناك إشرافًا مباشرًا على الأسماء والجنود المتواجدين في الميدان، والعمل على توجيه البوصلة نحو وقف الحرب بالحسم العسكري.