تعاني معظم مناطق الشمال السوري، وريف حلب بالتحديد الواقع تحت سيطرة المعارضة السورية، هذا العام أزمة حادة في شحّ المياه الجوفية (ماء الشرب)، مع جفاف مئات الآبار وانخفاض منسوبها، حيث كانت تزوِّد منازل آلاف السكان بالماء داخل المدن الرئيسية، في ظل الحاجة الضرورية إلى المياه التي يكثر استخدامها صيفًا.
وكذلك المياه السطحية (مياه الأنهار) والأودية الموسمية التي تدخل ريف حلب عبر الحدود السورية-التركية، قد شهدت انخفاضًا بمنسوبها بفارق كبير عن العام الماضي، ما يجعل الشمال السوري أمام أزمة جديدة قد تتفاقم دون الوصول إلى حلول جذرية من قبل الجهات المعنية للقضاء على أزمة الماء.
وفي وقت سابق دقَّ وزير الزراعة في حكومة نظام الأسد حسان قطنا، ناقوس الخطر المائي والزراعي في سوريا، محمّلًا المسؤولية للظروف المناخية لهذا العام، وانخفاض الهطولات المطرية مقارنة بالأعوام السابقة، ما سيشكّل تراجعًا في الإنتاج الزراعي.
وتبدو التوقعات الأوّلية التي أشار إليها خبراء محليون، أن أزمة المياه قد تتفاقم خلال هذا الصيف بشكل كارثي جدًّا، ما يجعل المنطقة أمام تحدٍّ كبير مُرتقب، في ظل ارتفاع أعداد السكان وانخفاض منسوب المياه الجوفية والسطحية في آن معًا.
وذلك بسبب قلة الهطولات المطرية والثلجية شتاءً، ما سيدفع الأهالي إلى استخدام بدائل أخرى للحصول على المياه التي تفتقر لمعايير المياه الصحية النظيفة، التي قد تؤدي إلى أمراض وأزمات صحية لدى الأهالي، مع غياب الرقابة المحلية وإهمالها لهذا الجانب الهام.
الباب: أزمة مياه قديمة جديدة
يعاني سكان مدينة الباب بريف حلب الشرقي منذ 4 سنوات على التوالي من شحّ في المياه الجوفية، وسط تفاقُم مستمرّ للأزمة، ما دفع ناشطي المدينة لإطلاق حملة إنسانية حملت هاشتاغ “الباب عطشى”، لتسليط الضوء على الواقع الخدمي الذي تعيشه المدينة، ومعاناة الناس المتواصلة للحصول على مياه الشرب عبر صهاريج مخصَّصة لنقل المياه.
ويقول مصطفى بطحيش من سكان مدينة الباب لموقع “نون بوست”، إنه “يشتري ماء الشرب من صهاريج مخصَّصة لنقل المياه، لأن المياه التي تغذي منزله عبر أنابيب المياه المقدَّمة من خدمات البلدية لا تصل إليه، في ظل عدم قدرة مضخات المياه تغطية كافة أحياء المدينة، وصعوبة تشغيلها مع ندرة توفر المياه”.
ويضيف: “ارتفعت أسعار المياه بشكل كبير خلال الأزمة الأخيرة، حيث وصل سعر الألفَي ليتر من الماء حوالي 35 ليرة تركية، ما يعادل 4 دولارات أميركية، وهو رقم ضخم أمام دخل الناس في مدينة الباب، لأن متوسط دخل الفرد يوميًّا لا يتجاوز 3 دولارات، في الوقت الذي تحتاج فيه الأسرة إلى العديد من الحاجيات اليومية”.
ويضطر سكان المدينة إلى شراء ماء الشرب رغم ارتفاع أسعارها، بسبب حاجتهم الضرورية إليها، ويحاولون المحافظة عليها لعلّها تغطي لهم يومًا آخر، إلا إن كثرة استخدام المياه خلال فصل الصيف تمنعهم من ذلك.
وتأوي مدينة الباب حوالي 300 ألف نسمة بحسب الإحصاءات الرسمية مؤخّرًا، من سكان المدينة والنازحين والمهجّرين إليها من معظم المحافظات السورية، وتشكّل مركز ثقل هام باعتبارها إحدى المدن الكبرى في مناطق سيطرة المعارضة السورية بريف حلب.
وفي السابق كانت تصل المياه إلى مدينة الباب عبر قناة مخصَّصة، تمتدّ من الفرات إلى محطة عين البيضا، التي تبعد عن مدينة الباب حوالي 15 كيلومترًا، بالقرب من بلدة كويرس ثم إلى مدينة الباب، لكن قوات نظام الأسد تعمّدت معاقبة القاطنين في المدينة عبر منع وصول المياه إليها، على رغم من جاهزية البنية التحتية في خطِّ إمداد المياه من مناطق سيطرة النظام إلى داخل مدينة الباب.
وعمل الهلال الأحمر خلال عام 2017، بعد القضاء على تنظيم “داعش”، كوسيط لتشغيل المحطة، إلا إن المفاوضات فشلت بسبب عدم جدّية الأطراف المعنية، والآن يجب الضغط على نظام الأسد للسماح بتشغيلها، وتحمُّل النفقات التشغيلية من وقود وأجور موظفين، للقضاء على هذه الأزمة.
حلول ترقيعية
قال عمار نصار، أحد القائمين على حملة “الباب عطشى” لإغاثة سكان المدينة، خلال حديثه لموقع “نون بوست”: “نفّذ ناشطو المدينة عدة حملات بخصوص أزمة المياه، ورُفعت للمسؤولين المحليين والجانب التركي دون التوصُّل إلى حلٍّ ينهي أزمة المياه التي تهدد المدينة منذ 4 سنوات، ما دفع المجلس المحلي للتعاون مع منظمة إحسان لاستجرار المياه من منطقة الراعي وسوسيان”.
/p>
وأضاف: “رغم احتواء المشروع على 12 بئر ماء، إلا أنه لا يرقى أن يكون حلًّا جذريًّا لأن بعض الآبار تعرّضت للجفاف، وأخرى انخفض منسوبها، أي إن كمية المياه التي تغذّي خزان جبل الشيخ عقيل تحتاج إلى وقت أطول للتعبئة، كما هو متوقع علميًّا من الدراسة التي عمل عليها المشروع لتغذية مدينة الباب بالمياه لمدة 5 سنوات”.
وأوضح: “أن مدينة الباب على حافة الانفجار، لأن المياه عنصر أساسي للحياة، ولا توجد أي بوادر جدّية لحل هذه الأزمة، وكل الحلول الحالية ترقيعية بحفر بئر فاشل هنا وآخر هناك”، مشيرًا إلى أن “سبب ارتفاع أسعار تعبئة المياه، هو بسبب عدم وجود رقابة على أصحاب الآبار الخاصة الذين يتحكمون بالسعر، إضافة إلى المسافات الطويلة التي يقطعها أصحاب صهاريج المياه لملء خزّان الماء”.
أزمة تمتدّ لكامل ريف حلب
يبدو أن أزمة المياه لن تتوقف في مدينة الباب فحسب، فالآبار في عموم ريف حلب الشمالي انخفض منسوبها وجفَّ بعضها، ففي مدينة أعزاز عملت شركة المياه على ضخّ المياه إلى منازل المدنيين بعد استجرارها من بحيرة ميدانكي بعفرين، بسبب شحّ الآبار الموجودة في المدينة، وعلى الرغم من عملية الضخّ فإن المياه لا تغذي مختلف أحياء المدينة.
وكذلك أيضًا في مدينة مارع بريف حلب، لجأت شركة المياه التابعة للمجلس المحلي إلى تخفيض كمية ضخّ المياه إلى منازل المدنيين، لأسباب عديدة وضّحتها الشركة للأهالي، إلا إنها لم تستطيع إيجاد بدائل لحل المشكلة في ظل الوقت الراهن، ومشهد طوابير صهاريج المياه لا يغيب عن الآبار على أطراف المدينة بسبب طلب الأهالي للماء.
يقول أحمد عبد العليم، صاحب صهريج لنقل المياه في مدينة مارع، لموقع “نون بوست”، إنه “ينتظر لأكثر من ساعتَين ليتمكّن من تعبئة خزان المياه أمام المنهل، ومع الصباح الباكر يضع خطة عمل كاملة لزبائنه من أجل توفير الماء لهم، أي إن صهريج المياه سعة 5 آلاف ليتر يتم توزيعه على 3 منازل بسعر 10 ليرات تركية لكل ألف ليتر من الماء”.
ويضيف: “قد نضطر إلى رفع تسعيرة الماء لأن الطلب عليه كثير ونحتاج وقتًا طويلًا لتعبئة الخزان، ما يجعلنا ننتظر طويلًا، وهذا الأمر يحدّ من عملنا اليومي، أي لا يمكن تغطية أتعابنا اليومية، وكذلك أصحاب الآبار سيرفعون سعر المياه أيضًا”.
#الباب_عطشى
تفاقمت مجدّدًا مشكلة مياه الشرب في مدينة الباب شرقي حلب، في ظل الأنباء المتداولة عن جفاف عددٍ من آبار المدينة.
طابور من الصهاريج ينتظرون لأربعة ساعات كأقل تقدير للحصول على القليل من المياه بعد قطع قرابة عشرين كيلو مترا في محيط مدينة الباب.!!#سوريا #حلب #الباب pic.twitter.com/iWPcOWfDIt
— Mohamad Rasheed محمد رشيد (@mohmad_rasheed) July 1, 2021 /p>
ويخشى سكان ريف حلب الشمالي من امتداد أزمة المياه إلى المدن والمناطق الأخرى، ما سيشكّل كارثة جديدة بحقّ الآلاف منهم الذين يعيشون في المخيمات العشوائية والقرى والمدن، ما سيجعلهم عرضةً لاستخدام المياه غير النظيفة، أو التي تحتوي على ترسُّبات كلسية، ما سيزيد من معاناة أصحاب الأمراض المزمنة.
ويقول يوسف الحجي، مدير شركة المياه في مدينة مارع، لموقع “نون بوست”: “إن شركة المياه أُجبِرت على وضع مضخات المياه في أسفل البئر من أجل استجرارها بسبب انخفاض منسوبها، ما جعلها تحتوي على ترسُّبات كلسية، حيث يبدو لون المياه معكَّر، وفي ظل الحاجة إليها لا يمكن تخزينها ثم ضخّها مرة أخرى”.
أسباب انخفاض منسوب المياه
يرى الحجي أن أزمة المياه مستمرّة حتى فصل الشتاء، من أجل تخزين كميات كافية من الماء خلال هطول الأمطار وتساقط الثلوج، وعندها من الممكن أن تنتهي أزمة المياه التي تعيشها معظم مدن ريف حلب الشمالي، وسط غياب الحلول الجذرية لهذه المشكلة.
وأشار الحجي: “أدّى ندرة الهطولات المطرية إلى استنزاف المياه الجوفية من قبل المزارعين، ولجوئهم إلى ريّ محاصيلهم الزراعية عبر الآبار خلال فصلَي الشتاء والربيع باستخدام الطاقة الشمسية التي وفّرت عليهم الكثير من التكاليف”.
ويُعتبَر انخفاض منسوب المياه الجوفية أمر متوقع بدأت تظهر معالمه بداية فصل الصيف، ما أدّى إلى لجوء شركات المياه في مختلف مدن وبلدات ريف حلب إلى سياسة التقنين، وسط استياء من الأهالي في ظل تراجع خدمة المياه التي تصل منازلهم عبر الأنابيب.
من جهته، قال المهندس مصطفى الأخرس، رئيس قسم المياه في مدينة الباب، لموقع “نون بوست”: “إن سبب انخفاض منسوب المياه الجوفية في منطقة الباب وريفها هو اعتمادها منذ أكثر من 4 سنوات على المياه الجوفية، ولجوء الأهالي إلى حفر الآبار واستنزاف المياه الجوفية، ما أدّى إلى انخفاض منسوبها وجفاف العديد منها وخروجه عن الخدمة”.
تخديم مدينة كاملة بالمياه عبر الآبار أمر في غاية الصعوبة.
وأضاف: “إن قلة الهطولات المطرية والثلجية خلال فصل الشتاء، ساعدت على انخفاض منسوب المياه في بعض الآبار المعروفة بغزارتها إلى أقل من النصف عن السابق، كما إن الجفاف وارتفاع الحرارة الزائد أدى الى تسريع عملية استنزاف المياه الجوفية وفقدانها”.
وأوضح: “يصعب تغذية مدينة الباب من نهر الفرات وفتح قناة جديدة، بسبب إيقاف النظام لعمل محطة عين البيضا، وتنفيذ مشروع استجرار المياه من نهر الفرات هو مشروع ضخم جدًّا بحاجة الى تكاتُف منظمات محلية ودولية، بالتشارُك مع الحكومة التركية لتنفيذ هذا المشروع”.
ويبدو أن الشمال السوري مُقبل على أزمة جديدة تزيد من معاناة سكانه، في ظل غياب الحلول من الجهات المحلية التي تدير المنطقة، حيث مسألة تخديم مدينة كاملة بالمياه عبر الآبار أمر في غاية الصعوبة، ولا يمكن أن ينجح لأنها معرّضة في أي لحظة للجفاف.
وكذلك هو انتظار الشتاء القادم من أجل الهطولات المطرية، فمن الصعب تعويض النقص الذي حصل في المياه الجوفية، لذلك يجب أن يتم تغذية المنطقة بأكملها من خلال الأنهار المارّة بها، كنهرَي الفرات وعفرين، أو إيجاد حلول أخرى تنهي معاناة الناس.