الحلم الذي ظل لسنوات يراود الرفاق بالاتحاد تحت لواء حزب يساري كبير، يبدو أنه شارف على الاندثار أو بالأحرى انزلق إلى كابوس، بعدما اختارت الزعيمة اليسارية نبيلة منيب خوض غمار الانتخابات باسم الحزب الاشتراكي الموحد الذي تقوده، معلنة بذلك انسحابها من فيدرالية اليسار الديمقراطي بسبب الخلافات المتصاعدة داخل هذا التحالف السياسي المتشكل من ثلاثة أحزاب يسارية.
توجهت نبيلة منيب إلى مقر وزارة الداخلية، يوم الثلاثاء 29 من يونيو/حزيران الماضي، من أجل سحب توقيع حزبها من الاتفاق المشترك الذي يضم أحزاب الاشتراكي الموحد والطليعة الديمقراطي الاشتراكي والمؤتمر الوطني الاتحادي.
فردانية طائشة
“إنه لتصرف طائش وفردي ذلك الذي أقدمت عليه نبيلة منيب”، هذا الوصف لم يصدر عن غريم سياسي، بل هكذا قال عنها رفيقها في الحزب والنائب البرلماني عن فيدرالية اليسار، مصطفى شناوي، وأفاد أن الزعيمة انقلبت على قرارات الحزب ومواقفه والتزاماته، دون الرجوع إلى مؤسساته، إذ ذهبت وحدها من أجل سحب اسم حزبها من التصريح المشترك لدخول الانتخابات باسم الفيدرالية.
واعتبر شناوي أن “هذا الخطأ الجسيم ستتحمل فيه الأمينة العامة مسؤولية تاريخية كبيرة، لا يمكن مسحها بمساحيق الكلام الشعبوي الفضفاض وغير العقلاني، الممزوج بدغدغة عواطف من لا يزال يجهل الحقيقة”.
نبيلة منيب أضحت متهمة بالافتراء على نظيرها في حزبي الطليعة والمؤتمر، إذ نفى الأمينان العامان ما جاء على لسان منيب بأنهما اعترفا لها خلال الاجتماع الأخير معها بالعاصمة الرباط، بأنهما نسقا مع أعضاء من حزبها للإطاحة بها من قيادة الحزب الاشتراكي الموحد.
لقد احتد الخلاف داخل فيدرالية اليسار منذ إعلان النائب البرلماني عمر بلافريج انسحابه من الحياة السياسية بشكل نهائي، في أبريل/نيسان 2021، وعلى الرغم من الدعوات التي طالبته بالتراجع عن هذه الاستقالة، التمس بلافريج من رفاقه أن يحترموا قراره بعدم الترشح للانتخابات التشريعية القادمة.
مشروع ميت
موت مشروع فيدرالية اليسار هو ما اعتبره بلافريج سببًا رئيسيًا لاستقالته وليس الخلافات المتصاعدة داخل أروقة فيدرالية اليسار، أي أنه قرر الانسحاب بعدما تبين له فشل الأحزاب الثلاث في الاندماج في إطار حزب يساري كبير.
منيب اعتبرت الفيروس التاجي “مؤامرة إمبريالية من صنع البشر”
كان لهذه الاستقالة وقع قوي في الأوساط السياسية والإعلامية، والبعض وصف هذا القرار بسلوك غير عاقل، إذ كيف لنائب ناجح أن يترك البرلمان وحظوظ نجاحه في الانتخابات المقبلة تكاد تكون مضمونة؟ وهو الذي استطاع أن يصبح نجمًا سياسيًا وحيدًا، أعاد لفئة كبيرة من المواطنين الاهتمام بما يجري باسمهم تحت قبة البرلمان.
أزمة فيروس كورونا جعلت الصراع الخفي داخل اليسار يطفو على السطح، وبالأخص البيت الداخلي للحزب الاشتراكي الموحد، فزعيمته نبيلة منيب طردت عمر بلافريج من الحزب خلال العام الماضي، واعتبر هذا الأخير نفسه مطرودًا منذ مارس/آذار 2021 بعدما أمرت سيدة اليسار بمنعه من تأطير لقاء داخلي للقطاع النسائي.
والسبب أن منيب اعتبرت الفيروس التاجي “مؤامرة إمبريالية من صنع البشر”، لكن بلافريج كان له رأي أكثر واقعية، فاعتبر حديثها عن نظرية المؤامرة “كلام غير عقلاني وخرافة”، بحسب ما ورد في سؤال وجهه هذا البرلماني المثير للجدل إلى رئيس الحكومة سعد الدين العثماني.
وهم التفاؤل
لم تحمل انتخابات 7 من أكتوبر/تشرين الأول 2016 لتحالف فيدرالية اليسار الديمقراطي أكثر من مقعدين برلمانيين من أصل 395 مقعدًا، فخابت بذلك توقعات رفاق هذا الاتحاد الحزبي الذي أبصر النور يوم 30 من يناير/كانون الثاني 2014، بعد نحو خمس سنوات من المشاورات، كان الغرض منها تقوية صفوف اليسار في الساحة السياسية.
في تلك الفترة ظهرت فيدرالية اليسار كبارقة أمل جديدة أيقظت جمهور اليسار الذي انعزل الاحتكاك بالشأن السياسي، لهذا حظيت حملتها الانتخابية بكثير من التضامن والتعاطف في أوساط المثقفين والأكاديميين، رافق ذلك حضور إعلامي قوي، لكن هذا الزخم لم يترجم إلى دخول البرلمان بتمثيلية قوية، أي أن نتائج الانتخابات التشريعية السابقة كشفت أن التفاؤل الذي أفرط فيه قادة اليسار محض وهم.
الانتقال إلى نظام ديمقراطي، هو عنوان البرنامج السياسي لفيدرالية اليسار، إذ يتلخص في ملكية برلمانية يسود فيها ملك البلاد ولا يحكم، ونظام يقوم على الفصل الحقيقي للسلطات واستقلال القضاء وربط القرار السياسي بصناديق الاقتراع.
لا يستطيع اليسار المغربي الصمود أمام قوة الانشطار، فهو يعيش حالة من الفوضى أبعد من مجرد الإخفاق في تدبير مرحلة الانتخابات
من حين إلى آخر يتجدد النقاش عن ضرورة الانتقال إلى نظام الملكية البرلمانية في المغرب، وترى فيدرالية اليسار أنها لا تطمح إلى المشاركة في الحكومة إلا في ظل هذا النظام الذي كان ضمن أبرز مطالب عشرين فبراير، وهي حركة شبابية ظهرت في البلاد إبان الربيع العربي طالبت بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
نظام مؤجل
يرى مراقبون أن نظام الحكم هذا مؤجل إلى حين توافر شرطين أساسيين، الأول هو أحزاب سياسية قوية ومسؤولة تمتلك كفاءات وقادرة على تحمل مسؤولية تدبير الشأن العام، أما الشرط الثاني فهو وجود مجتمع مدني مسؤول عن اختياراته، حتى يكون قادرًا على مد الأحزاب بالأطر والكفاءات ويشكل الكتلة الناخبة.
والواضح أن أحزاب اليسار تسير في منحى معاكس لهذا المسعى السياسي الذي أعلنته حينما اتحدت، ألا وهو الانتقال إلى نظام الملكية البرلمانية، علاوة على فقدانها لقاعدة انتخابية، لم تستطع احتواء خلافاتها الداخلية، لتؤدي بها في نهاية الأمر إلى الانشطار.
لا يستطيع اليسار المغربي الصمود أمام قوة الانشطار، فهو يعيش حالة من الفوضى أبعد من مجرد الإخفاق في تدبير مرحلة الانتخابات، إذ تعاني الأحزاب المكونة لتحالف الرفاق من عطب بنيوي متعدد الأبعاد كالبيروقراطية الغاشمة وفقدان القدرة على تجديد النخب بينما الزعامات تظل هي نفسها ولا تتغير، ولا تستطيع حتى أن تنتج مشروعًا يساريًا موحدًا، يتبنى خطابًا واضحًا بلا شعارات بالية وغارقة في النخبوية المفرطة.