يُحيي الجزائريون، في الخامس من يوليو/تمًوز، الذكرى الـ59 لاستقلال بلادهم رسميًا عن الاستعمار الفرنسي الذي جثم على صدورهم قرابة 132 عامًا، مارس خلالها كافة أنواع الجرائم ضد الإنسانية والتنكيل بالشعب العربي الذي دفع حياته ثمنًا لحريته.
ونجح رفقاء الزعيم أحمد بن بلة في الحصول على استقلالهم بصورة نهائية بعد ثورة دامت قرابة 8 سنوات (1954- 1962) قدموا خلالها نحو مليون شهيد بحسب بعض الإحصائيات، لتلحق الجزائر وقتها بركاب نضال الشعوب العربية من أجل التحرر من الاستعمار الأوروبي.
وكان للدعم العربي دورًا كبيرًا في حرب التحرير، على كافة المسارات، السياسية والعسكرية والاقتصادية، هذا بخلاف القوى الناعمة التي كان لها تأثيرها الملحوظ في دعم حركة الاستقلال وتعريف العالم بوحشية الاحتلال الفرنسي وحق الشعب الجزائري في استرداد كامل أرضه وترابه.
ويأتي على رأس هؤلاء الإعلام والفن المصري الذي كان له السبق في حمل تلك القضية العربية على عاتقه، مهمومًا بها، مسخرًا إمكانياته وطاقاته من أجل دعم الشعب الجزائري في نيل حقوقه كاملة غير منقوصة، وهو ما جعله مثار اهتمام الشارع الجزائري حتى بعد مرور 67 عامًا على ثورة التحرير الخالدة.
الفن المصري
احتلت القضية الجزائرية مكانة كبيرة لدى الدولة المصرية، حكومة وشعبًا، لما كانت تمثله من دلالة رمزية كبيرة في دعم حركات التحرر العربي في ذلك الوقت والذي كان يقودها الزعيم المصري جمال عبد الناصر، وعليه لم تدخر مصر جهدًا لدعم تلك الثورة.
جيًشت مصر إعلامها الذي كان يحتل الريادة في المنطقة العربية في ذلك الوقت، لدعم معركة الاستقلال الجزائرية، وتحول الإعلام المصري إلى المتحدث الشعبي والرسمي باسم الجزائر، دفاعًا عن قضيته في المحافل الإقليمية والدولية، ولتعريف العالم بمعاناة الجزائريين على أيدي المستعمر الفرنسي.
أقام الفنان والمطرب المصري حفلا غنائيًا كبيرًا عام 1963 غنى خلالها عددًا من الأغاني الوطنية أبرزها تلك الأغنية التي يقول مطلعها “قضبان حديد اتكسرت.. والشمس طلعت نورت أرض العروبة”
كانت تلقب السينما المصرية في ذلك الوقت، بـ “هوليود الشرق”، تلك النافذة الناعمة القوية القادرة على تحقيق ما لم تحققه البندقية أو المدفع، وهو ما جعلها أداة قوية لتحقيق الأهداف السياسية المتنوعة، من خلال مداعبة العقل المجتمعي وخلق حالة من الوعي الكامل بقضايا بعينها، وكان لذلك نجاحات عدة في الداخل والخارج.
وهناك العديد من الشواهد التي تكشف حجم هذا الدعم الفني الهائل آنذاك، أبرزها إسناد النشيد الرسمي للثورة الجزائرية كلماته بـ”قسما بالنازلات الماحقات.. والدماء الزاكيات الطاهرات” للملحن المصري الراحل محمد فوزي، الذي أبدع في تلحينه وقدمه هدية للشعب العربي الشقيق.
كذلك الفيلم التاريخي العملاق “جميلة” الذي عرض عام 1958، أي قبل الاستقلال بأربعة سنوات، والمأخوذ عن قصة الكاتب الكبير يوسف السباعي، وشارك في كتابة السيناريو الأديب العالمي نجيب محفوظ، وأخرجه الكبير الراحل يوسف شاهين.
واستطاع هذا العمل الذي شارك فيه كوكبة من مشاهير الفن المصري والعربي في ذلك الوقت وعلى رأسهم: ماجدة الصباحي، أحمد مظهر، محمود المليجي، أن يُحدث نقلة نوعية كبيرة في الشارع العربي وخارجه، حيث عرض من خلال قصة واحدة من المناضلات الجزائريات الثمن الذي دفعه الشعب الجزائري لتحرير أراضيهم من الاستعمار الفرنسي الذي مارس ضدهم كافة أنواع الانتهاكات.
وفي الذكرى الأولى للاستقلال أقام الفنان والمطرب المصري حفلا غنائيًا كبيرًا في مدينة عنابة الجزائرية عام 1963 غنى خلالها عددًا من الأغاني الوطنية أبرزها تلك الأغنية التي يقول مطلعها “قضبان حديد اتكسرت.. والشمس طلعت نورت أرض العروبة”، والتي ألهبت حماس الحاضرين من مختلف الجنسيات العربية.
دعم قاهري شامل
لم يكن الفن هو الأداة المصرية الوحيدة لدعم الجزائريين في معركتهم المقدسة، فكان المصريون حاضرون على أكثر من مسار، في المقدمة منها المسار السياسي الدبلوماسي، فمن قلب العاصمة المصرية انطلقت معظم النشاطات السياسية والدبلوماسية لجبهة التحرير الوطني والحكومة الجزائرية المؤقتة.
كما كانت القاهرة مقرًا للجنة تحرير المغرب العربي المكونة من ليبيا، وتونس، والمغرب، والجزائر، فيما مثلت مصر الجزائر في مؤتمر باندونج الذي عقد في مايو 1955، والذي كان له بصمته الواضحة في حصول الشعب الجزائري على استقلاله التام.
كانت أول صفقة تسليح للجزائر من أوروبا الشرقية بتمويل مصري كامل، قدر حينها بمليوني دولار، كما خصصت مصر 75% من الأموال التي كانت تقدمها جامعة الدول العربية للثورة الجزائرية والمقدرة بـ 12 مليون جنيه سنويًا
في كتابه “السياسة العربية والمواقف الدولية تجاه الثورة الجزائرية” يصف الكاتب الجزائري إسماعيل دبش الدعم المصري لبلاده في معركة التحرير قائلا “تأييد مصر للقضية الجزائرية ولكل مطالب جبهة التحرير الوطني كان مطلقًا، ومتشددًا، وبدون تحفظ، حتى لو تعلق الأمر بعلاقة مع دولة كبرى لها مصالح حيوية وإستراتيجية معها مثل الاتحاد السوفيتي. ذلك ما عبر عنه الرئيس عبد الناصر في تحذيره إلى خروتشوف الرئيس السوفياتي من الانسياق وراء محاولات دي غول بزيارة حاسي مسعود (منطقة آبار بترولية جزائرية كبرى بالصحراء)”
المفكر المصري الراحل محمد حسنين هيكل، في كتابه “حرب الثلاثين سنة” ينقل عن أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال الإسرائيلي، بن جوريون، تعليقه على الدعم المصري للجزائر “على أصدقائنا المخلصين في باريس أن يقدّروا أن “عبد الناصر” الذي يهددنا في النقب، وفي عمق إسرائيل، هو نفسه العدو الذي يواجههم في الجزائر”.
وعسكريًا، كانت أول صفقة تسليح للجزائر من أوروبا الشرقية بتمويل مصري كامل، قدر حينها بمليوني دولار، كما خصصت مصر 75% من الأموال التي كانت تقدمها جامعة الدول العربية للثورة الجزائرية والمقدرة بـ 12 مليون جنيه سنويًا، بجانب تخصيص الدخول الأولى من تأميم قناة السويس (بلغت 3 مليارات فرنك فرنسي قديم) للكفاح الجزائري، وفق ما ذكر هيكل في كتابه.
في المحصلة، فإن الاحتفاء باستقلال الجزائر ليس حكرًا على الشعب الجزائري فحسب، فالمناسبة عروبية من الطراز الأول، حتى وإن حًددت جغرافيتها، ليردد العرب جميعًا وليس الشاعر الجزائري مفدي زكريا (مؤلف النشيد الوطني) وحده، البيت الشعري الخالد “نحن ثرنا فحياة أو ممات.. وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر”.