لا تهتم الولايات المتحدة الأمريكية بانفتاح سوق الطائرات دون طيار وتزايد عدد المنافسين فيه، فلا تزال تفرض شروطها وقواعدها خاصة على العرب وبلدان الشرق الأوسط، وتطبق شروطها وأكوادها التي تضمن التفوق الإسرائيلي على الجميع، وهي السياسة التي تطرح العديد من الأسئلة.
فما السبب في تمسك واشنطن بتعقيدات شرسة على بيع الطائرات المسيرة ـ الدرونز ـ مع أنها سمحت للإمارات بامتلاك F35، وتبيع أسلحة مهولة سنويًا للسعودية؟ ما الذي يخيفها تحديدًا من الطائرات المسيرة ويجعلها تتمسك بقيود لم تعد موجودة في السوق العالمية إلا في المتجر الأمريكي؟
الدرونز
وفقًا للقواميس المختلفة الطائرة دون طيار هي كائن طائر دون طيار إما يتم التحكم فيه عن بُعد أو يعمل بشكل مستقل تمامًا، يقول التاريخ إنها ظهرت بأشكال متعددة قبل أن تصل إلى شكلها الحاليّ منذ عام 1849، فقد هاجمت النمسا البندقية آنذاك باستخدام بالونات دون طيار محشوة بالمتفجرات، وأطلقت القوات النمساوية التي كانت تحاصر البندقية في ذلك الوقت، نحو 200 بالونة حارقة فوق المدينة.
وقد لا تتوافق مبادئ استعمال البالونات الحارقة مع التعريف الحاليّ للطائرات من دون طيار، لكن المفهوم الأساسي للتفكير واحد، إذ انشغل العالم على مدار أكثر من 170 عامًا بكيفية تطوير إدارة المعارك من ميادين خارجية، ولهذا استمرت جهود التطوير ولم تتوقف، حتى انتهت خلال السنوات العشرة الماضية إلى انفجار هائل في ابتكار هذا النوع من الطائرات وخاصة في الأغراض العسكرية.
ساهم في ذلك النمو السريع تقدم صناعة الهواتف الذكية التي خفضت أسعار وحدات التحكم الدقيقة ومقاييس التسارع وأجهزة استشعار الكاميرا، التي تعتبر حالة مثالية للاستخدام في الطائرات دون طيار باعتبارها الأصغر حجمًا والأخف وزنًا، ما يمكنّها من اتخاذ القرارات بنفسها، بدلًا من الاعتماد على العنصر البشري.
يمكن القول إن السنوات القليلة الماضية، جعلت الطائرات دون طيار أكثر ما يعبر عن القوة العسكرية المتطورة للدول المختلفة، والمثير أنها الأكثر تعبيرًا أيضًا عن التزام الدول باحترام المبادئ الأساسية لقوانين الحروب، التي تتلخص في الضرورة والتمييز والتناسب في استخدام القوة، إذ إن دقة هجمات الطائرات دون طيار تخدم هذه المبادئ بشكل أفضل من أي استخدام بشري آخر للقوة قد يمكن تخيله.
شروط صعبة
على مدار السنوات الماضية، كانت أمريكا تفرض حالة من الغيوم على صفقات بيع الطائرات دون طيار لكل بلدان الشرق الأوسط عامة والبلدان العربية خاصة، فانتشار الطائرات دون طيار في الشرق الأوسط سيغير دون شك من التسلسل الهرمي العسكري في المنطقة المطلوب حسمه لصالح “إسرائيل”.
رفضت أمريكا كثيرًا المساهمة بطائراتها في أن تلحق بلدان المنطقة بالدخول إلى العصر الجديد الذي يتميز بانتشار الطائرات المسلحة دون طيار، وإن كانت هذه التضييقات لم تمنع من انتشارها، ويكشف آخر إحصاء عن اقتناء هذا النواع من الطائرات الذي أجري في مارس/آذار 2020، أن هناك أكثر من 102 دولة في العالم أصبح لديها طائرات عسكرية دون طيار بجانب نحو 63 تنظيمًا أو جهة غير حكومية.
هذه السيولة في انتشار تكنولوجيا لم تعد حكرًا على أمريكا، لم يجعلها تتوسع في مبيعات الأسلحة أو تتراجع عن الشروط المشددة لبيعها لحلفائها العرب، خاصة أن مطالب السعودية والإمارات على وجه التحديد تتلخص في شراء نموذج MQ-9 Reaper وهي طائرة يمكنها حمل ما يصل إلى أربعة صواريخ هيلفاير بالإضافة إلى القنابل الموجهة بالليزر وذخائر الهجوم المباشر المشترك.
استمرت أمريكا في الاستناد إلى لوائح التصدير الصارمة وقواعد الإنفاق الدفاعي التي تنتهكها بلدان الشرق الأوسط ومثل هذه المخالفات ستقف بالطبع حائلًا أمام التوسع في بيع الطائرات المسلحة دون طيار إلى حلفاء واشنطن العرب، الذين تتهمهم مؤسسات المجتمع المدني والإعلام الأمريكي بعدم الالتزام بالقيود الأخلاقية لاستخدام السلاح والتوسع في الاستخدام غير المتوازن للقوة خلال ضرب الأهداف المعادية.
البديل الصيني
تعلم أمريكا جيدًا أن دول المنطقة لن تنتظرها، إذ سارعت الإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال وتعاقدت على طائرات دون طيار صينية من طراز I Wing Loong منذ عام 2016، وتعاقدت أيضًا على الجيل الثاني من نفس الطائرة Wing Loong II الذي تمت ترقيته وأصبح أكثر فتكًا وشوهدت الطائرة في معرض دبي للطيران لعام 2017 بالإمارات العربية المتحدة.
على الجانب الآخر اشترى السعوديون طائرات CH-4 الصينية وWing Loong II ونشروها في اليمن وتستخدم الآن في صراع المملكة مع الحوثيين، كما تملكت مصر هي الأخرى طائرات CH-4 المعنية بالاستخبارات والمراقبة والاستطلاع والهجوم دون طيار.
لكن هذا الانتشار للسلاح الصيني لا يزعج أمريكا ولا تخيفها صفقات البيع المتزايدة بين الصين للعرب، فهي تعرف جيدًا أن هذه الطائرات ليست قادرة على تدمير الأهداف، لا سيما أنها تعمل بأجهزة Predator XP الأمريكية الصنع، والمسؤولة عن حمل حزم كاميرات ISR، التي خفضت أمريكا من قدراتها كثيرًا لتجعلها في المجمل غير قادرة على حمل أنظمة أسلحة قد تنافس الطائرات الأمريكية التي تتفوق باكستاح حتى الآن في هذا المضمار.
هناك عيب آخر في أنظمة الطائرات دون طيار الصينية، فهي ليست مستقرة مثل الأنظمة الأمريكية، وربما ذلك سر تحليقها على ارتفاع منخفض وسقوط العديد من المنصات الصينية المصنعة محليًا، ولهذا تمضي أمريكا في تشديد شروطها في بيع طائرات دون طيار دون خوف أو تردد، خاصة أن الأسواق البديلة صعبة على البلدان العربية والخليجية، بسبب الصراع العربي الإسرائيلي، ولهذا لا يمكن الاستعانة بالطائرات الإسرائيلية.
كما يفرض الخلاف التركي مع محور المقاطعة العربية عدم الاستعانة بالطائرات التركية التي حققت نجاحًا دوليًا على مدار العامين الماضيين، لكن مبيعاتها تركزت أكثر في بولندا وأوكرانيا وقطر وأذربيجان والمغرب بعد أن ساهمت في تغيير شكل المعارك بسوريا وأذربيجان وليبيا.
لعنة الهيمنة
الأسباب التي تسوقها أمريكا عن أسباب رفضها لبيع الطائرات دون طيار للعرب، وخاصة النسخ الحديثة القادرة على الردع لا يمكن استساغتها، فالمطلع على التقارير الدورية البحثية الأمريكية سيعرف بسهولة أن واشنطن تتخوف بشكل أساسي من تزويد العرب عامة والخليج بشكل خاص بمثل هذه التكنولوجيا لأنه قد يأتي بنتائج عكسية عليها.
تريد الولايات المتحدة استمرار اعتماد الإمارات والسعودية عليها، حتى تبقى لها اليد الطولى في تفعيل القرارات العسكرية والسياسية والنفطية في هذه المنطقة من العالم، لهذا يعد تاريخ واشنطن في وضع مصالح الحلفاء في الاعتبار ضمن الأسوأ عالميًا.
تبيع أمريكا الكثير من الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية، لكنها لا تدلل المملكة وتبقي على الكثير من أوراق الضغط في ملف التسليح تحت يدها سواء لها أم لجميع بلدان الخليج، حتى تضمن استمرار خيالها السياسي والعسكري في المنطقة، فالجيش السعودي على سبيل المثال مجهز ومُدرَّب بالكامل تقريبًا من الولايات المتحدة.
لكن تتطلب معظم قدرات الجيش دعمًا أمريكيًا مستمرًا، وهذا مدخل إستراتيجي للإبقاء على نفوذ أمريكا يحاصر القضايا والقرارات التي لا تعزز بالضرورة المصالح الأمريكية، وهو أسلوب معروف منذ الحرب الباردة، إذ استخدمت واشنطن نفوذها الاقتصادي والسياسي لتثبيط قدرة الإنتاج الدفاعي الأوروبي بشكل منهجي حتى لا تستقل القارة العجوز عنها.
يمكن القول إن أمريكا ترتاح دائمًا لممارسة دور السلطة التقديرية في تقييم مستوى القوة العسكرية للحلفاء، فتمنح هذا وتمنع عن ذاك وتفرض أحيانًا حظرًا على بعض أصناف الأسلحة كما يحدث مع الدرونز حتى تبقى هيمنتها على تجارة الأسلحة العالمية واضحة في أذهان الجميع.
هذه السلطة التقديرية تضمن التدفق المؤكد وغير المنقطع لنفط الخليج، وهو المحدد الرئيسي للمصالح الأمنية الأمريكية في المنطقة، فالسياسة العامة تجاه الخليج تدور حول النفط وأمن “إسرائيل” وتهديدات الحركات الدينية الراديكالية والأنظمة القومية العربية.
مثل هذه الثوابت في سياسات أمريكا تجاه المنطقة تؤكد أنها تتخوف دائمًا من التغييرات قصيرة المدى، وتوضح أن نفط الخليج سيبقى مصلحة أمريكية رئيسية ربما لعقود عديدة قادمة، صحيح أن درجة أهميته بالنسبة لها قد تتضاءل تدريجيًا في الربع التالي من القرن الحادي والعشرين مع تجفيف احتياطيات النفط، لكن حتى يحدث ذلك ستظل السياسات الأمريكية تجاه الخليج تخضع لاختبارات المستقبل. فالارتفاع أو الانخفاض المفاجئ في أسعار النفط حتى الآن يؤثر بشكل خطير على المستهلكين والمنتجين، وبالتالي يجب أن يبقى الهيكل الأمني الخليجي الحاليّ تحدده أمريكا بشكل أساسي، تتقدم في ميزان القوة العسكرية لمن تريد وتتراجع بآخرين، وستظل على هذا الموال، طالما تتعرض مصالح واشنطن لتحديات متزايدة.