بدأت حكومة الوحدة الوطنية الجديدة عملها في ليبيا منذ 4 أشهر تقريبًا، لكنها تعمل إلى الآن دون ميزانية، فمجلس النواب المُنعقد في طبرق يصر على رفض المصادقة عليها رغم المراجعات الكثيرة التي أدخلت فيها بطلبه، ما جعل مؤسسات الدولة معطلة ومصالح الليبيين متوقفة، فما دوافع البرلمان في ذلك؟ وأي دور لحفتر في المسألة؟
تعطيل إقرار الميزانية
كان من المنتظر أن تخصص الجلسة العامة للبرلمان الليبي أمس لمناقشة ميزانية الدولة، لكن رئيس المجلس عقيلة صالح غير البرنامج وقال إن بند الميزانية لن يطرح في هذه الجلسة، على أن تجتمع لجنة المالية اليوم الثلاثاء مع وزير المالية خالد المبروك.
هذا التغيير المفاجئ في برنامج البرلمان، يعتبر أحد فصول المماطلة في اعتماد ميزانية سنة 2021، فعوض تمرير الميزانية تم الاستماع لرئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، عن أداء حكومته خلال الأيام المئة الأولى.
وفي مارس/آذار الماضي، عرضت حكومة الوحدة الوطنية ميزانية تقدر بـ93.7 مليار دينار ليبي (20.73 مليارات دولار)، ستخصص منها 34.6 مليار دينار (7.65 مليارات دولار) للمرتبات، و12.6 (2.69 مليارات دولار) للجهات والوزارات التابعة للدولة، في حين سيوجه مبلغ 20 مليار دينار (4.42 مليارات دولار) إلى باب التنمية و22.6 مليار للدعم (5 مليارات دولار) و4 مليارات (0.88 مليارات دولار) لبند الطوارئ.
يأمل حلفاء حفتر في دفع عبد الحميد دبيبة للموافقة على شروطهم قبل تمرير الميزانية، وذلك لضمان استمرار رواتب المرتزقة
هذه ليست المرة الأولى التي يتم تعليق الجلسة فيها، فقبل أسبوع علق المجلس جلسته إلى الإثنين (أمس)، وتم استدعاء رئيس حكومة الوحدة الوطنية للاستماع إليه، وسبق أن علق البرلمان جلسته في 24 من مايو/أيار الماضي.
وقبل ذلك، في 20 من أبريل/نيسان الماضي، رفض مجلس النواب مشروع الميزانية المعروضة عليه، وأعادها إلى الدبيبة لإدخال تعديلات عليه، قبل أن تعيده الحكومة بدورها إلى البرلمان، في 3 من مايو/أيار الماضي، بعد تعديله.
تعطيل المؤسسات ومصالح الليبيين
عرقلة المصادقة على ميزانية الدولة العامة إلى الآن، سبب تعطيل مؤسسات الدولة الليبية وأثر على الشعب سلبًا، إذ توقفت مصالحهم وزادت معاناتهم، ما دفع رئيس الحكومة لحث البرلمان على إقرار الموازنة، قائلًا خلال جلسة أمس: “أناشدكم أن تضعوا معاناة المواطن أمام أعينكم وأن تضطلعوا بمسؤولياتكم”.
ساهمت هذه المماطلة في اعتماد الميزانية في تعطيل تنفيذ المشاريع الاستثمارية لقطاع الكهرباء، إذ تعرضت البنى التحتية في صناعة الطاقة الكهربائية إلى التدمير، خاصة في المناطق التي شهدت عمليات عسكرية واسعة إبان حرب حفتر على طرابلس.
وعجزت شركة الكهرباء عن إجراء الصيانة اللازمة لمحطات توليد الكهرباء المعطلة، ما أضعف قدرة تلك المحطات على توليد التيار الكهربائي بالشكل المطلوب، نتيجة ذلك أصبحت السمة البارزة في ليبيا انقطاع الكهرباء لساعات طويلة على مناطق مختلفة من البلاد، ما يزيد معاناة السكان.
لمواجهة هذا الأمر، عمدت الحكومة إلى قطع الطاقة الكهربائية عن كبار المستهلكين مثل الشركة الليبية للحديد والصلب ومصانع الإسمنت، وذلك بهدف تخفيف الأحمال عن الشبكة، لكن هذا الأمر ليس كافيًا، فالصيانة ضرورية، وتطوير الشبكة أيضًا ضروري ويحتاج ذلك لاعتمادات مالية لكن الميزانية لم يتم المصادقة عليها بعد.
انقطاع الكهرباء المتواصل، أدى إلى انقطاع المياه كذلك، للترابط التام بين الخدمتين، فيعيش السكان بلا مياه، سواء الصالحة للشرب أم للاستخدام المنزلي، وأصبحت الطوابير أمام المساجد للحصول على مياه الشرب السمة البارزة في ليبيا هذه الأيام.
ليس هذا فحسب، فقد أثر انقطاع الكهرباء على القطاع الفلاحي أيضًا، فمياه الري شبه متوقفة، ما قضى على محصول هذا الموسم من فواكه وخضراوات، وهو ما يشكل تهديدًا للأمن الغذائي الليبي، فضلًا عن الخسائر الكبيرة التي تكبدها فلاحي البلاد.
أدت هذه المماطلة أيضًا إلى تعطيل تنفيذ المشاريع الاستثمارية لقطاع النفط، إذ تأثرت المنشآت النفطية كثيرًا بالحرب وتستحق صيانة عاجلة، خاصة أن البلاد تعتمد على إيرادات النفط في تمويل أكثر من 95% من الموازنة العامة للدولة.
ساهم ذلك أيضًا في تدهور المنظومة الصحية وتأخر الأدوية والتلاقيح في وقت زاد فيه انتشار فيروس كورونا، فضلًا عن زيادة المعاناة من الأوضاع المعيشية وتأخر صرف الرواتب عن مواعيدها المعتادة، دون أن ننسى تأثير ذلك على موعد الانتخابات المنتظرة.
تمويل مليشيات حفتر
يقول العديد من النواب إن سبب عدم اعتمادهم الميزانية للآن، سببه وجود بند للطوارئ وتخفيض حجم البند المتعلق بالتنمية وبعض الأسباب الأخرى، لكن السبب الرئيسي لعرقلة إقرارها حتى الآن، هي مليشيات حفتر، إذ يطالب العديد من النواب بضرورة تخصيص ميزانية لقوات حفتر.
يسعى حلفاء حفتر من خلال مجلس النواب لعرقلة تمرير الميزانية، وذلك لدفع رئيس الحكومة عبد الحميد دبيبة إلى صرف رواتب لمليشيات حفتر ضمن الميزانية الحكومية الموحدة لإضفاء الشرعية إليهم.
رغم المراجعات العديدة والاستجابة للضغوطات، لم يُفلح دبيبة بعد في إقناع البرلمان للمصادقة على ميزانية الدولة
تُتهم قوات حفتر بارتكاب جرائم حرب ضد الليبيين، إذ قتلوا مئات الليبيين وتسببوا في نزوح مئات الآلاف من منازلهم، كما دمروا مدنًا عديدةً ولم يسلم من بطشهم لا المستشفيات ولا المدارس ولا سيارات الإنعاش، حتى الجثث نكلوا بها.
ويُقاتل إلى جانب حفتر آلاف المرتزقة القادمين من روسيا (الفاغنر) ومن السودان (الجنجويد) ومن التشاد والنيجر وسوريا، فضلًا عن العديد من الأفارقة من دول أخرى قدموا لليبيا لكسب المال بعد أن علموا أن حفتر يوظف المرتزقة لقتال الليبيين والاستيلاء على البلاد.
ويأمل حلفاء حفتر في دفع عبد الحميد دبيبة للموافقة على شروطهم قبل تمرير الميزانية، وذلك لضمان استمرار رواتب المرتزقة، خاصة أن قيادة حفتر تعاني جفافًا ماليًا وعجزًا في التمويل بعد تخلي شركائه الذين قدموا له الدعم المالي في السابق عنه.
ورقة ضغط
يُفهم من هذه المماطلة أيضًا، استغلال بعض النواب لمسألة الميزانية كورقة ضغط للحصول على عدد من المصالح ولتحقيق أكبر مكاسب ممكنة من حكومة الوحدة الوطنية التي تحتاج إلى المصادقة على الميزانية لبدء بعض الإصلاحات المعطلة.
أمام متابعة مجريات الأحداث، يتأكد أن الحكومة تتعرض لاستفزاز من نواب البرلمان خاصة الداعمين للواء المتقاعد خليفة حفتر، وذلك لتمرير بعض القرارات التي تخدم توجهاتهم وأجنداتهم المخافة في الغالب لتطلعات الشعب الليبي الآمل في حياة أفضل لا مكان للعنف والفوضى والفساد فيها.
كما يعمل نواب حفتر للضغط على دبيبة في مسألة تسمية وزير الدفاع، إذ يسعون إلى مخالفة نتائج ومخرجات ملتقى الحوار السياسي الليبي بخصوص تسمية الوزراء والجهات الموكلة بذلك، للإبقاء على حفتر في المشهد العام الليبي.
يبدو أن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد دبيبة بدأ يستجيب لهذا الضغط، فقد قال إن الحكومة تدرس نقل مقري المؤسسة الوطنية للنفط وشركة الخطوط الجوية الليبية إلى مدينة بنغازي، ولفت إلى إصدار قرار بنقل سوق الأوراق المالية إلى بنغازي أيضًا.
رغم المراجعات العديدة والاستجابة للضغوطات، لم يُفلح دبيبة بعد في إقناع البرلمان بالمصادقة على ميزانية الدولة الموضوعة أمام أنظاره، ما يجعل مصالح الليبيين في خطر وحياتهم متوقفة، فلا توجد أموال يمكن للحكومة أن تعتمد عليها لمواصلة عملها.