في الـ 48 ساعة الأخيرة، ليس هناك موضوع في شبه الجزيرة العربية أهمّ من الخلاف الجاري بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، والذي تطوَّر إلى حد خروجه إلى العلَن، وتبادُل البيانات الإعلامية التي تحمل اتهامات وتراشقات بين الطرفَين.
يوجد على المنصات الاجتماعية، التي يكثر فيها وجود الشعبَين، وبالأخص سناب شات وتويتر ويوتيوب؛ عشرات المقاطع، الأكاديمية والشعبية، التي تستفيضُ في شرح أسباب الخلاف، بين من يرى أنها سحابة صيفٍ عابرة ومن يرى أن الأمور قد تذهب إلى نقطة اللاعودة، وبالأخص بعد استعارة عبارة “حصار الإمارات” للإشارة إلى الإجراءات السعودية الأخيرة بحقّ أبوظبي، والتي تشبه، إلى حد ما، ما جرى ضد قطر في يونيو/ حزيران 2017.
النفط: القشة التي قصمت ظهر البعير
في السنوات الأخيرة، وبالأخص في الفترة من عام 2018 إلى عام 2021، تعرّض سوق النفط العالمي إلى هزات كبيرة، بفعل التلاعُب في حجم المعروض، والتجاذُبات السياسية التي كانت تنسحب في الأخير إلى أسعار هذا المنتج الاستراتيجي، الذي تعتمد عليه الحياة الحديثة.
أهم المستجدات التي أثّرت سلبًا على استقرار أسواق النفط في الأعوام الأخيرة، كانت تحوُّل الولايات المتحدة الأميركية إلى أكبر منتِج في العالم بعد أن كانت واحدة من أكبر المستهلِكين، ونموّ تيار عالمي ينظِّر إلى وجوب التخلُّص التدريجي من الاعتماد على هذا المورد، من أجل إنقاذ ما تبقّى من الاستقرار البيئي لكوكب الأرض، وصولًا إلى الصراع السعودي الروسي على أسعار النفط، وإغراق الأسواق إلى حد تهاوي الأسعار بشكل غير مسبوق، ثم كارثة “كورونا” البيولوجية التي دمّرت الطلب على النفط، بفعل تعطُّل الأنشطة الاقتصادية إجباريًّا في معظم دول العالم.
ما استقرّت عليه المنظمة الدولية المعنية بتنظيم تجارة النفط في العالم “أوبك”، التي تضم 13 دولةً، والنسخة “بلس” التي تضم 23 دولة من بينهم روسيا، أن الخيار الأفضل هو: تقليل المعروض في السوق العالمي مع زيادته تدريجيًّا، تزامنًا مع ارتفاع الطلب، بحيث يؤدي تقليل المعروض وتقليل الإنتاج إلى ارتفاع سعر البرميل الواحد نتيجة الطلب، ويمكن للدول المنتجة أن تحقِّق ربحًا معقولًا من هذه الكمية، بدلًا من الإغراق الذي يؤدي إلى انخفاض الأسعار وخسارة المنتِجين.
وافقت كل الدول الحاضرة لاجتماع الأحد، على تمديد الاتفاق مع زيادة تدريجية في الإنتاج، وهي الصيغة التي قدمتها السعودية بصفتها رئيسة المنظَّمة.
نجحت هذه الاستراتيجية، التي قلّلت من إنتاج كل دولة على حدة، مقابل تحقيق الاستقرار في السوق، وتقليل التجاذبات السياسية، في الصعود بسعر برميل النفط الواحد إلى متوسط 75 دولارًا، وهو أعلى سعر منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2018.
وبناءً على ذلك، تعقدُ “أوبك بلس” اجتماعًا شهريًّا لتقييم الاتّفاق المعروف باتفاق “خفض الإنتاج”، والتنسيق بين الدُّول ومراجعة الأسواق، وقد تقرّرَ أن يكون اجتماع هذا الشهر يوليو/ تموز، الذي كان يوم الأحد الماضي، من أجل تمرير قرار بتمديد الاتفاق، بحيث تحدث زيادة طفيفة في المعروض بمقدار 400 ألف برميل يوميًّا بداية من أغسطس/ آب القادم، وأن يمدَّد الاتفاق قبل نهايته المقررة في أبريل/ نيسان من العام القادم، بحيث ينتهي، بدلًا من ذلك، في نهاية العام القادم ديسمبر/ كانون الأول 2022.
وافقت كل الدول الحاضرة لاجتماع الأحد، على تمديد الاتفاق مع زيادة تدريجية في الإنتاج، وهي الصيغة التي قدمتها السعودية بصفتها رئيسة المنظَّمة، ووافقت عليها روسيا، ثاني أكبر منتِج للنفط في العالم، ولكن فشلَ تمرير الاتفاق بسبب رفض دولة واحدة: الإمارات.
السردية الإماراتية
قالت الإمارات إنه لا يوجد داعٍ للنظر في تمديد الاتفاق قبل نهايته، غير أنها تفضِّل رفع الإنتاج اليومي بشكل فوري لنحو 600 ألف برميل، بدلًا من 400 ألف برميل، ما يعني مراجعة ما يُعرَف بـ”نقطة الأساس المرجعية” في الاتفاق: الأولوية لزيادة الإنتاج خاصة من الإمارات، لا لتمديد الاتفاق ولو كان إجماعًا من المنظَّمة.
أصدرت دولة الإمارات عدة بيانات، بعضها كان مصوّرًا باللغة الإنجليزية بثته فضائيات مثل CNBC، انتقدت فيها مسار الاجتماعات الأخيرة، قائلة: “للأسف طرحت اللَّجنة الوزارية في أوبك خيارًا واحدًا، وهو زيادة الإنتاج، مشروطًا بتمديد الاتفاقية الحالية إلى ديسمبر/ كانون الأول 2022”.
ووصفت ما يجري في المنظمة بأنه “غير عادل”، داعية إلى: “بحث التمديد في اجتماع لاحق، لإتاحة المجال أمام اتخاذ قرار فوري بزيادة الإنتاج اعتبارًا من أغسطس/ آب القادم، حتى نهاية الاتفاق الحالي في أبريل/ نيسان 2022”.
وبلُغةٍ حادّة، ملؤها المظلومية في الوقت نفسه، قال وزير النفط الإماراتي في بيان مصوَّر بالإنجليزية، إن ما تطلبه الإمارات فقط هو العدالة، ومن حقها السيادي أن تعامَل مثل بقية الدول، معتبرًا أن هناك محاولات “لإجبار” بلاده على أمر يظلُّ غير منطقي، حتى لو اجتمعت عليه كل الدول، فـ”لا يمكن أن نقبل الظلم والتضحية أكثر مما صبرنا وضحّينا”، على حد قوله.
من المسؤول؟
وجّه السعوديون نقدًا علنيًّا حادًّا لنظرائهم في الإمارات، بشكل غير مسبوق على هذا النحو؛ فاستنكرَ عبد العزيز بن سلمان وزير النفط السعودي، وشقيق ولي العهد محمد بن سلمان، مخالفة الإمارات للإجماع الدولي بخصوص تمديد الاتفاقية.
السعودية لا تمانع مراجعة نقطة الأساس، ولكن المشكلة في أن هذه الزيادة المطلوبة إماراتيًّا ستعصفُ بجوهر الاتفاق.
قال عبد العزيز مهاجمًا الإمارات: “لا يمكن لأي دولة أن تتّخذ مستوى إنتاجها في شهر واحد مرجعيةً للجميع”، ودافع عن الطرح السعودي الروسي قائلًا: “لا بد أن تكون زيادة إنتاج النفط تدريجية، من أجل تعويض الزيادة النسبية المتوقّعة في الطلب خلال فصل الصيف، وموازنة مصالح الطرفَين، المنتجِين والمستهلِكين”، متسائلًا في استنكار: “إذا كان لدى الإماراتيين تحفُّظات، لماذا لم يعلنوها قبل ذلك؟”.
وردًّا على الادّعاء الإماراتي إزاء التضحية من أجل المنظَّمة، قال المسؤول السعودي إن بلاده خفّضت أيضًا من إنتاجها بمعدل 400 ألف برميل يوميًّا لمدة تتجاوز العام، وإن بلاده قامت بواجبات أكثر مما هي ملزمة بها، وقدمت تضحيات طوعية بإرادتها.
وفي امتداد لحرب التصريحات بين الطرفَين، قالت مصادر سعودية لـ”جريدة الشرق”، نقلتها عنها صحيفة “عكاظ”، إن السعودية لا تمانع مراجعة نقطة الأساس، ولكن المشكلة في أن هذه الزيادة المطلوبة إماراتيًّا ستعصفُ بجوهر الاتفاق، خلافًا لكون الفصل بين الزيادة المرتقبة ومضاعفتها كما تريد الإمارات، فضلًا عن كونها ضد تقاليد المنظمة وطريقة عملها، فإنها ستزيد من المعروض بشكل يفوق الطلب، وستضرُّ بالمنتجِين، ولن تفيد إلا كبار المستهلِكين، مثل الاتحاد الأوروبي والصين والهند، بسبب الانخفاض المتوقّع في السعر.
ركّز محلِّلون مستقلون في مجموعة “دويتشه بنك” على نقطة اعتراض أبوظبي على التمديد في اللحظات الأخيرة قبل الإعلان خلال اجتماع الأحد، ما أكّد على كونه سابقةً استنكرها الوزير السعودي، مشيرًا إلى أنه خلال أكثر من 3 عقود عمل خلالهم في المنظمة، لم يسبق له معاصرة أمر كهذا، مع إعلانه بهذا الشكل المفاجئ والمنفرِد.
تعليقًا على هذه النقطة، عضّد الخبير النفطي مصطفى البازركان وجهة نظر السعودية، ضاربًا المثل بدولة العراق، حيث تعدّ بغداد أكثر الدول احتياجًا لزيادة الإنتاج من أجل تعويض عجز الموازنة، ولكنها ملتزمة باتفاقات المنظمة، ملمحًا إلى أن الإمارات تسعى للانسحاب من “أوبك بلس” منذ نهاية عام 2020، بدليل تأسيسها بورصة نفط مستقلة، واتِّباع شركة “أدنوك” التابعة لها سياسات تجيز بيع النفط لأطراف غير أصلية تختلف عن المشتري الأول.
حصار الإمارات
بالتزامن مع هذه الأزمة، بدأت السعودية تتّخذ سلسلة إجراءات، وُصِفت بأنها لا تستهدف إلا الإمارات، حتى إن بدا منها غير ذلك ظاهرًا.. فبعد أن أعلنت المملكة وقف التعامل مع أي شركات دولية لا تتخذ من الرياض مقرًّا لها، في قرار قيل إنه موجّه لدبي التي تعدّ قِبلة الشركات الإقليمية، ظهرت قرارات جديدة مشابهة في الساعات الأخيرة.
القرار الأول كان متعلِّقًا بوقف الرحلات الجوية من وإلى الإمارات، مع تسارُع إجلاء العالقين، بتوجيه من الهيئة العامة للطيران المدني السعودي، ونظرًا إلى كون القرار مفاجئًا، فقد سبّبَ أزمة وخسائر فادحة لعدد من مواطني جنسيات أخرى، من بينها مصر.
التبرير السعودي الرسمي لهذا القرار هو أن الإمارات وُضعت على “القائمة الحمراء” الخاصة بعدم السفر إليها، بسبب الخوف من انتشار فيروس كورونا وسلالاته الجديدة، وذلك إلى جانب إثيوبيا وفيتنام؛ غير أن الواقع يقول إن الإمارات واحدة من أنجح دول العالم تعاطيًا مع جائحة كورونا، سواء من خلال استخدام التقنيات الحديثة، أم في مساعدة الدول الأخرى، أم في الدخول مع شراكات إقليمية لتطوير اللقاحات، أم في تلقيح المواطنين.
ما أكد هذا التوجه السعودي لما وصفه البعض بـ”مساعي تأديب حكّام الإمارات”، هو قرار تعديل القواعد الجمركية للواردات القادمة من دول مجلس التعاون الخليجي، بحيث تُستبعَد السلع المصنوعة في “المناطق الحرة”، والسلع التي يدخل في تصنيعها موادّ أولية من “الكيان الصهيوني” (على حدّ وصف القرار) بعد تدويرها في الإمارات والبحرين.
كما تضم التعديلات حظر البضائع التي تصنّعها شركات تقلّ عمالتها المحلية عن 25% من مجمل العمالة، أو تقلّ نسبة المكوِّن المحلي في إنتاجها عن 40%، وهو ما قالت “رويترز” إنه مفصّل على مقاس الإمارات حصرًا.
اللافت أيضًا أنه بعد 3 أسابيع من استضافة مرشَّح الرئاسة الإيرانية المستبعَد محمود أحمدي نجاد على قناة “العربية”، استضافت القناة نفسها، في الساعات الأخيرة، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الخارج، خالد مشعل، في مقابلة استمرّت نحو نصف ساعة، على الرغم من احتوائها على بعض المشادّات، إلا أنها لم تخلُ من حميمية غير معهودة في الآونة الأخيرة، حيث داعب المقدِّم مشعل واصفًا إياه باسمه المفضل: “أبو الوليد”.
كل الخيارات كانت مطروحة في اجتماع الاثنين، الذي كان مكمِّلًا لاجتماع الأحد الذي دام نحو 6 ساعات بلا تقدُّم.
وترك المذيع لمشعل المساحة كي يعبِّر عن رؤيته في أمور شائكة مثل تقييم الحرب الأخيرة، والتي رأى مشعل أن المقاومة لم تكن السبب في اندلاعها، ومع ذلك نجحت في تقويض صفقة القرن ومشاريع تصفية القضية التي أعلنتها إدارة ترامب، مدافعًا عن إنجازات المقاومة التي اعتبرها “تراكمية”، ورافضًا اعتبار المقاومة أنها تخلّت عن انتمائها “الفكري” للإخوان.
وأكّد أيضًا أن حركته لم تكن سببًا في إفشال “اتفاق مكة”، ومحاججًا عن التعاون مع إيران وتركيا بالقول إن المقاومة لها قرارها المستقل، وإنها تتعاون مع الجميع، كما يحقّ للدول نفسها أن تقيم علاقاتٍ مع تركيا وإيران، باعتبارهما جزءًا من العالم الإسلامي، فضلًا عن تشريع دول أخرى لإقامة علاقات مع الاحتلال، العدو الأول للأمة.. وهو ما اعتُبِر هجومًا على الإمارات من منبر سعودي، بعد القرار الجمركي، واستقبالها (الإمارات) وزير الخارجية الإسرائيلي مؤخرًا.
تقدير الموقف
على الرغم من تشبيه ما يجري مع الإمارات من قبل المملكة بما جرى مع قطر قبل 4 أعوام، إلا إن الراجح أنه لا قطيعة تامة أو انهيار للتحالف الثنائي بين البلدَين، فما زالت العاصمتان تجمعهما الكثير من القواسم والمصالح المشتركة، ثنائيًّا وإقليميًّا.
في الوقت نفسه، إن هناك اتفاقًا على أن العلاقات بين البلدَين عادت إلى مرحلة ما قبل مارس/ آذار 2015، حينما أعلنت الإمارات انضواءها تحت قيادة السعودية في تحالف دولي لشنِّ حرب “عاصفة الحزم” ضد حلفاء إيران في اليمن، حيث كانت مرحلة قبل هذا التحالف يغلب عليها التنافس الثنائي على ريادة الإقليم، لا سيما في مجال الاقتصاد واللوجستيات.
فيما يبدو، ساهمت مواقف الإمارات المتتابعة ضد السعودية في ملفَّي اليمن وسوريا، وصولًا إلى التطبيع المنفرِد والمبكِّر مع الاحتلال، والسعي إلى امتلاك آلة عسكرية متطوِّرة تضمن لها التفوق الجوي الكامل في الخليج، في الوقت نفسه الذي تهادنُ فيه إيرانَ بين الحين والآخر، مع توتر علاقتها مع مصر؛ كلها أمور ساهمت في زعزعة ثقة الرياض في الحليف الإماراتي.
على مستوى “أوبك بلس” كل الخيارات كانت مطروحة في اجتماع الاثنين، الذي كان مكمِّلًا لاجتماع الأحد الذي دام نحو 6 ساعات بلا تقدُّم، حيث رُجِّح أن تكون هناك زيادة في الإنتاج ضمن الاتفاق خلال الشهر القادم، مع إرجاء قرار التمديد مؤقتًا لحين معالجة الموقف الإماراتي.
إلا أنه يبدو أن هذا الخيار لم يعجب السعوديين، فجرى إلغاء ذلك الاجتماع، وهو قرار إن رآه تقنيون يجنِّب جميع الأطراف اتخاذ أي قرار متسرِّع يضاعف من حدة الأزمة؛ فإنه يكشف، أيضًا في الوقت نفسه، عن معركة “تكسير العظام” الدائرة بين الرياض وأبوظبي.