ترجمة وتحرير: نون بوست
لقد أصبح هذا المشهد مألوفا في الضفة الغربية المحتلة منذ عام 1967، حيث اقتحم رجال مسلحون منزل أحد الفلسطينيين في ساعات الفجر الأولى، وسحبوا الرجل النائم من سريره، وأوسعوه ضربا أمام عائلته المرعوبة، ثمّ جرّوه على الأرض، وحملوه إلى الحجز دون أي تهمة، في غياب أي إجراءات عادلة. لم تكن تلك واحدة من المداهمات الإسرائيلية الوحشيّة، بل كانت عملية أمنية فلسطينية.
أثار مقتل الناشط نزار بنات الأسبوع الماضي في مدينة الخليل بالضفة الغربية المحتلة أثناء احتجازه لدى السلطة الفلسطينية استنكارا وغضبا كبيرين، حيث خرج الآلاف في مسيرة احتجاجية في رام الله ومدن أخرى بالضفة الغربية، مطالبين الرئيس الفلسطيني بالاستقالة. وجد تحقيق أجرته اللجنة المستقلة لحقوق الإنسان التابعة للسلطة الفلسطينية أن بنات تلقى ضربات على رأسه، إلى جانب كدمات وجروح على جزء كبير من جسده، بما في ذلك بعض الكسور في ضلوعه وعلامات تدل على أن معصميه كانا مربوطين بإحكام.
كان بنات ناشطا سياسيا معروفا وقد وجّه اتهامات علنية للسلطة الفلسطينية بالفساد وطالب بإنهاء تنسيقها الأمني مع “إسرائيل”. ورغم تهديدات أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، إلا أنه لم يتراجع. وقد انضم بنات إلى ناشط آخر من الخليل، اسمه عيسى عمرو، اعتقلته قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية عام 2017 وزُعم أنه تعرض للتعذيب لانتقاده السلطة الفلسطينية.
أسس عمرو، المدافع عن حقوق الإنسان، مجموعة “الشباب ضد المستوطنات” في الخليل وسُجن في إسرائيل، كما أفيد بأنه تلقى تهديدات بالقتل من أنصار فتح، بينما دعت السلطة الفلسطينية إلى إدراج منظمته في القائمة السوداء، ويعتقد عمرو أن هذا الوضع هو ما أدى إلى زيادة اعتداءات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين.
تعنت السلطة الفلسطينية
تشكل مثل هذه الحالات من القمع الفلسطيني للفلسطينيين جزءا من نمط يكشف عدم تسامح السلطات الرسمية مع الاحتجاجات في الضفة الغربية المحتلة وغزة، حيث قوبلت المظاهرات التي تلت مقتل بنات بعنف من قبل قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية وأنصار فتح الذين كانوا يرتدون ملابس مدنية.
تعرضت المتظاهِرات لاعتداءات جنسية بينما مُنع الصحفيون من تغطية الأحداث. وقد تحدث تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية عام 2020 عن هجمات على الصحفيين واعتقالات تعسفية وقمع عنيف للمظاهرات السلمية وتعذيب للمعتقلين السياسيين في سجون السلطة الفلسطينية.
يعدّ الاعتقال الإداري دون محاكمة، استنادا إلى النظام الإسرائيلي، أمرا شائعا. وفقا لهيومن رايتس ووتش، اعتقلت السلطة الفلسطينية، بين عامي 2018 و2019، أكثر من 1600 شخص بسبب المشاركة مظاهرات سلمية وانتقاد السلطة الفلسطينية ونشر “الإساءات” على وسائل التواصل الاجتماعي.
واعتقلت سلطات حماس أكثر من 1000 شخص لأسباب مماثلة خلال شهر آذار/ مارس 2019 وحده، لكن على الأغلب أن كلا الرقمين أقل من الواقع. فلماذا هذا الاستبداد المزدوج ضد الفلسطينيين، القمع الإسرائيلي من جهة، وقمع السلطات الفلسطينيّة من جهة أخرى؟ ما الذي جعل شعبا دمره تأسيس دولة “إسرائيل” عام 1948، واحتلالها الوحشي لأراضيهم، ينقلب ضدّ بعضه البعض؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، يجب على المرء أن يفهم ظروف نشأة السلطة الفلسطينية في سياق الاحتلال. ظهرت السلطة الفلسطينية في إطار اتفاقيات أوسلو منتصف التسعينيات، ولم تُمنح سوى سيطرة مدنية وأمنية جزئية على أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة.
كان من المقرر أن تخضع المنطقتان أ و ب في الضفة الغربية لسيطرة السلطة الفلسطينية كليا أو جزئيا، على أن تُترك المنطقة ج، التي تمثّل 60 بالمئة من الضفة الغربية، لـ “إسرائيل”. كان يفترض أن تكون السلطة الفلسطينية سلطة مؤقتة لمدة خمس سنوات إلى حين تحديد الوضع النهائي، لكن ذلك لم يحدث قط وبقيت السلطة الفلسطينية قائمة.
جهاز أمني ضخم
سرعان ما تحولت قوات الشرطة الفلسطينية التي أسستها ودربتها وكالة المخابرات المركزية إلى جهاز أمني ضخم، مع استخبارات عامة وفروع أمنية وقائية. عندما أصبحت غزة تحت سيطرة حماس سنة 2007، ظهرت مجموعة أخرى من قوات الأمن، ليصبح المجموع الإجمالي لهذه القوات 83000 فرد، وهو من بين أعلى نسب موظفي الأمن لخدمة المدنيين في العالم.
ورغم أنه يُفترض على هذه القوات أن تكون مسؤولة عن أفعالها، إلا أنها غالبا ما تعمل بشكل مستقل في الضفة الغربية المحتلة، ويُنظر إليها على نطاق واسع على أنها تعمل لحساب “إسرائيل” أكثر من كونها تحمي الفلسطينيين. وعلى المنوال ذاته، يبدو أن ما يسمى بالتعاون الأمني بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية يخدم الاحتلال فقط من خلال دفع القوات الفلسطينية لمواجهة مواطنيها من أجل حماية “إسرائيل”.
هذا الوضع المؤسف متوقع تماما، فقد كان نتيجة خطط وضعها الاحتلال ليخضِع السكان الأصليين بمساعدة مجموعة منهم. لقد دعمت الأنظمة الاستعمارية تاريخيا سلطة عملائها، و”إسرائيل” ليست استثناء.
تتمثل الوظيفة الرئيسية لسلطة هذا العميل في قمع المقاومة الشعبية بأي وسيلة كانت، لذلك كان من الضروري إنشاء قوات شرطة لهذا الغرض، وهكذا مثّل القمع النتيجة الحتمية.
خداع الفلسطينيين بأوهام حول قيام دولة في هذا الوضع ليس سوى حيلة ماكرة مكّنت الدول الغربية من التهرب من مسؤوليتها تجاههم
في هذا السياق، تعدّ السلطة الفلسطينية، التي اتبعت إلى حد ما هذا النموذج الاستعماري، ضحية لـ “إسرائيل” تماما مثل جميع الفلسطينيين. يجب أن يُنظر إلى هذه السلطة الفلسطينية من هذا المنظور، وليس على أنها مجموعة من الأشرار.
لطالما كانت فكرة إقامة حكم فلسطيني في ظل الاحتلال مجرد أوهام. لقد احتلت “إسرائيل” أراضي السلطة الفلسطينية منذ البداية، وسيطرت على القدس الشرقية، وفصلت غزة. وفي ظل عدم انسحاب “إسرائيل” من الأراضي الفلسطينية، لم يكن هناك أمل في الاستقلال، وإذا بقي الوضع على هذا الحال، فلن يكون هناك أي أمل مستقبلا.
أوهام قيام الدولة
إن خداع الفلسطينيين بأوهام حول قيام دولة في هذا الوضع ليس سوى حيلة ماكرة مكّنت الدول الغربية من التهرب من مسؤوليتها تجاههم، والحفاظ على وهم حل الدولتين. تتمثّل المأساة في حقيقة أن وهم قيام الدولة قد أثر أيضا على الفلسطينيين، حيث تحملوا اضطهاد قادتهم على أمل أن تكون لهم دولة خاصة بهم يوما ما. لكن للأسف، لم يتحقّق أي من ذلك، وفي أعقاب مقتل بنات، تفاقم الغضب والإحباط.
يمكن أن نتفهم استهداف قيادة السلطة الفلسطينية واتهامها بأنها فاسدة وعديمة الفائدة، نظرا لضرورة التخلص من سلطة تهاجم شعبها وتحمي الكيان المحتل، لكن الجناة الحقيقيين هم “إسرائيل” وداعموها الغربيون، فقد كانوا السبب وراء هذه الفوضى، وهم من يجب أن يسلّط عليه الغضب الفلسطيني.
المصدر: ميدل إيست آي