قدمت تونس – بطلب مصري سوداني ودعم من لجنة المتابعة العربية المكلفة بمتابعة ملف سد النهضة في الأمم المتحدة – مشروع قرار عاجل لشركائها الـ14 في مجلس الأمن الدولي يدعو أديس أبابا إلى التوقف عن الملء الثاني لخزان سد النهضة، في تطور يعكس حساسية المرحلة التي وصلت إليها المفاوضات بين الأطراف الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا).
القرار ينص على أن يطلب مجلس الأمن من “مصر وإثيوبيا والسودان استئناف مفاوضاتهم، بناء على طلب كل من رئيس الاتحاد الإفريقي والأمين العام للأمم المتحدة، لكي تتوصل في غضون ستة أشهر إلى نص اتفاقية ملزمة لملء السد وإدارته”، وعليه فإن تلك الاتفاقية الملزمة يجب أن “تضمن قدرة إثيوبيا على إنتاج الطاقة الكهرمائية من سد النهضة، وفي الوقت نفسه تحول دون إلحاق أضرار كبيرة بالأمن المائي لدولتي المصب”.
المشروع الذي وزعته تونس على أعضاء المجلس دعا “الدول الثلاثة إلى الامتناع عن أي إعلان أو إجراء من المحتمل أن يعرض عملية التفاوض للخطر”، ويحض في الوقت نفسه إثيوبيا على الامتناع عن الاستمرار من جانب واحد في ملء خزان السد قبل التوصل إلى اتفاق نهائي، الذي بحسب القرار خلال 6 أشهر من التصويت عليه.
يأتي هذا التحرك ردًا على بدء أديس أبابا الملء الثاني للسد بحسب الإخطار المرسل رسميًا للقاهرة والخرطوم، بشأن تلك الخطوة التي وصفتها دولتا المصب بـ”الخطيرة والمرفوضة”، هذا في الوقت الذي يحاول فيه البلدان الأكثر تضررًا من هذا المشروع تكثيف جهودهما الدبلوماسية لإثناء إثيوبيا عن هذا التحرك المنفرد تجنبًا للخيارات الصعبة المطروحة على مائدة النقاش وعلى رأسها الخيار العسكري.
تكثيف الجهود الدبلوماسية
بذلت مصر والسودان خلال الساعات الـ48 الماضية جهودًا دبلوماسيةً مكثفةً لخلق رأي عام داعم لموقفهما في أزمة السد في مواجهة التعنت الإثيوبي، وذلك قبل انعقاد الجلسة الخاصة لمجلس الأمن لمناقشة هذا الملف والمقرر لها غدًا الخميس، حيث شهدت نيويورك العديد من الاجتماعات والاتصالات بين وزيري خارجية البلدين العربيين، سامح شكري ومريم الصادق المهدي، وعدد من نظرائهما لدى بعض أعضاء المنظمة الأممية.
تتمسك أديس أبابا بموقفها المتعنت إزاء الاستمرار في استكمال ملء السد بحسب الخطة الزمنية الموضوعة سلفًا، مستندة في ذلك إلى اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة في الخرطوم 2015
الوزيران أصدرا بيانًا مشتركًا قالا فيه إن بدء إثيوبيا في الملء الثاني للسد “تصعيدًا خطيرًا يكشف سوء نية إثيوبيا ورغبتها في فرض الأمر الواقع”، مضيفين أن بدء التعبئة الثانية يعتبر انتهاكًا للقوانين الحاكمة لاستغلال موارد عابرة للحدود.
الوزير المصري عقد سلسلة اجتماعات مع مندوبي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وعلى رأسهم روسيا والصين، وذلك عقب اتصال هاتفي أجراه مع وزيري خارجية البلدين، قدم خلاله رؤية بلاده للمخاطر الناجمة عن التحرك الإثيوبي المنفرد وضرورة الوصول إلى اتفاق شامل قبل اتخاذ أي خطوات من شأنها توتير الأجواء.
شدد شكري على ضرورة تحمل مجلس الأمن مسؤولياته إزاء تلك القضية الوجودية، والدفع قُدمًا نحو التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن وملزم قانونًا بشأن ملء وتشغيل السد، مراعيًا مصالح الدول الثلاثة ولا يهضم الحقوق المائية لدولتي المصب (مصر والسودان).
المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، كان قد حذر في تصريحات صحفية أمس الثلاثاء مما أسماه “التحركات الأحادية” إزاء السد، منوهًا أن بدء إثيوبيا ملء خزان سد النهضة سيزيد التوتر على الأرجح وسيزيد هذا الملف تعقيدًا، مطالبًا بضرورة التوصل إلى اتفاق ملزم وشامل، وهو الطلب الذي دعا إليه المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك.
إصرار إثيوبي
في المقابل تتمسك أديس أبابا بموقفها المتعنت إزاء الاستمرار في استكمال ملء السد بحسب الخطة الزمنية الموضوعة سلفًا، مستندة في ذلك إلى اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة في الخرطوم 2015، وهي الاتفاقية التي تعول عليها إثيوبيا لإجهاض أي تحركات مصرية سودانية بشأنها في المحافل الدولية.
وردًا على الاتهامات المصرية بأحادية التحرك الإثيوبي قال عضو وفد أديس أبابا في مفاوضات سد النهضة، يلما سيليشي، “تعبئة وتشغيل السد أمر تم الاتفاق عليه في إعلان المبادئ”، مضيفًا في مقابلة له مع “الجزيرة” إن بلاده تقوم بتعبئة وتشغيل سد النهضة بشكل متزامن.
المفاوض الإثيوبي أشار إلى أن إخطار أديس أبابا للقاهرة والخرطوم ببدء الملء الثاني كان هدفه إتاحة الفرصة للبلدين لترتيب أوضاعهما والاستعداد لتلك المرحلة، وذلك رغم تحذير دولتي المصب أكثر من مرة من المخاطر المتوقعة على أكثر من 140 مليون مواطن جراء التعبئة الثانية.
رئيس الحكومة الإثيوبية، آبي أحمد، عزف كثيرًا على وتر عدم إلحاق أي ضرر بدول المصب بسبب السد، داعيًا مختلف دول العالم إلى “تفهم النية الحقيقية من بناء سد النهضة” قائلًا إن هدف بلاده الرئيسي من وراء هذا المشروع هو تلبية حاجاتها من الكهرباء فحسب ولا نية لحدوث أي أضرار بأي دول أخرى.
تبنى الجانب الإثيوبي طيلة سنوات التفاوض العشرة الماضية سياسة “التسويف” لكسب المزيد من الوقت، مستغلًا إستراتيجية “حسن النوايا” التي كانت تتعامل بها مصر والسودان، وبينما كان البلدان العربيان يعزفان على وتر الحل الدبلوماسي عبر المفاوضات أعلنت أديس أبابا الملء الأول للسد في 21 من يوليو/تموز 2020 بسعة 4.9 مليار متر مكعب، وها هي تعلن الملء الثاني خلال الشهر الحاليّ بسعة 13.5 مليار متر مكعب، وإن كان من الصعب تخزين هذه الكمية بحسب ما أثير بشأن عدم كفاءة وقدرة الخزان على استيعاب كل تلك الكمية.
التعويل على مجلس الأمن لكبح جماح إثيوبيا قد يكون رهانًا في غير محله، لا سيما مع تصريحات المندوب الفرنسي السابقة التي أشار فيها إلى أن المجلس لا يملك من الصلاحيات ما يسمح له بالدفع نحو حل مرضٍ للجميع
الأوضاع تزداد تعقيدًا
رغم أن تدويل الملف وطرحه على مائدة النقاش داخل أروقة مجلس الأمن غير وارد في اتفاق المبادئ الموقع عليه الأطراف الثلاث، فإن الوضعية الحرجة التي باتت عليها مصر تحديدًا دفعتها لطرق كل الأبواب الدبلوماسية تجنبًا لأي خيار خشن آخر قد يكون له تبعاته السلبية.
النظام المصري في موقف حرج داخليًا، وعليه ضغوط غير مسبوقة في هذا الملف، فكثير من المصريين يحملونه مسؤولية ما وصل إليه الوضع حاليًّا، غير أن التعنت الإثيوبي الواضح في مواجهة الرغبة المصرية في استمرار الخيار الدبلوماسي كان له تأثيره الواضح على المزاج الشعبي المصري.
ويطالب المصريون خلال الأيام الأخيرة بتنحية الخلافات السياسية بين أطياف الشعب، وتوحيد الكلمة من أجل الدفاع عن الأمن المائي وحماية مستقبل الملايين من الشعب من العطش المتوقع حال استمرار بناء السد بالخطة الموضوعة، هذا بخلاف الخسائر الباهظة في مساحات الأراضي المنزرعة وحجم الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي لهذا البلد.
التعويل على مجلس الأمن لكبح جماح إثيوبيا قد يكون رهان في غير محله، لا سيما مع تصريحات المندوب الفرنسي السابقة التي أشار فيها إلى أن المجلس لا يملك من الصلاحيات ما يسمح له بالدفع نحو حل مرضٍ للجميع، مناشدًا أطراف الأزمة باستمرار عملية التفاوض، وهو التصريح الذي أغضب القاهرة وأصاب المصريين بالإحباط بشأن مخرجات تدويل الملف.
وفي المقابل تواصل أديس أبابا جهودها الدبلوماسية لدعم موقفها الراهن، مرتكزة – بجانب اتفاق إعلان المبادئ – على القوى الدولية المشاركة في المشروع وعلى رأسها الصين و”إسرائيل” صاحبتي نصيب الأسد في الاستثمارات هناك، بجانب الدعم الإماراتي المتواصل طيلة السنوات الماضية، هذا بخلاف الثقل الإقليمي والقاري المتنامي مؤخرًا وشبكة العلاقات القوية مع الدول المجاورة.
الموقف يزداد تعقيدًا أمام القاهرة، والرهان على الرضوخ الإثيوبي للضغوط الدبلوماسية مغامرة محفوفة المخاطر، والارتكان لجولة جديدة من المفاوضات مضيعة للوقت في ظل استمرار أديس أبابا في بناء السد ومخطط الملء الزمني المتفق عليه.. ليبقى السؤال: هل يكون الخيار العسكري هو الحل إذا أغلقت كل الأبواب الدبلوماسية؟ حتى اللجوء لهذا الحل مغامرة جديدة تحتاج إلى دعم دولي كبير يجنب مصر الوقوع تحت مقصلة العقوبات الدولية.
ومن المستبعد أن يتم التصويت على مشروع القرار التونسي خلال جلسة الغد المقرر أن يعقدها مجلس الأمن لمناقشة ملف السد، وفي السياق ذاته بات من الصعب – وفق تصريحات مندوب فرنسا التي ترأس الدورة الحاليّة للمجلس – أن يخرج عن الجلسة أي خطوات تقدمية في هذا المسار، ليتم التأجيل لجلسات أخرى قادمة.
الأيام القليلة المقبلة، قبل الانتهاء من التعبئة الثانية للسد، من المرجح أن ترسم مصير هذا الملف الذي يزداد تعقيدًا يومًا تلو الآخر، فنجاح التحركات الدبلوماسية المصرية – وإن جاءت متأخرة – في حشد رأي عام دولي قوي قادر على ممارسة الضغوط على أديس أبابا وإعادة القضية للنقاش مرة أخرى مع وقف أي تحركات فردية، مستندًا لشبكة المصالح التي تجمع بين القاهرة وعواصم العالم، هو السبيل للخروج من الشرنقة، وإلا فكل السيناريوهات ستكون مفتوحة، ما قد يضع المنطقة برمتها فوق فوهة بركان.