قبل ثورة يناير 2011، لم تكن أساليب الاحتجاج كثيرة في تونس، فالنظام القمعي النوفمبري وقبله البورقيبي كانا ماسكين بكل شيء عبر أجهزتهما البوليسية، ما جعل العديد من المعارضين يلجأون إلى ابتكار أساليب جديدة للاحتجاج لإيصال صوتهم للداخل والخارج على حد سواء، من ذلك الأغاني التي كانت أداة احتجاجية كفيلة بإزعاج النظام وكشف ممارساته القمعية خاصة أنه يصعب مصادرتها.
تواصل الأمر، حتى بعد الثورة، فرغم الفسحة الكبيرة من الحرية، فإن الأغاني بقيت في الساحة كأداة احتجاجية يعتمدها التونسيون للتعبير عن سخطهم من الوضع القائم والمطالبة بتحسين المعيشة وواقع الحريات ومكافحة الفساد وغيرها من المطالب العالقة.
تشكل الأغاني الملتزمة
نهاية ستينيات القرن الماضي، مع إحكام نظام الحبيب بورقيبة سيطرته الكلية على تونس وقمع أصوات المعارضة، بدأت تتبلور أغانٍ ذات توجه سياسي في تونس، إذ بدأت الحركات اليسارية والإسلامية التونسية المعارضة تستشعر أهمية العمل الثقافي والفني في نشر الوعي وتوجيه الرأي العام.
في تلك الفترة، تشكلت مجموعات من الأغاني الاحتجاجية، قدمها أصحابها في حرم الجامعات والأماكن النقابية وبعض المراكز والمهرجانات الثقافية، إلا أن هذه الأغاني كانت معرضة للحصار المادي والمعنوي، فكانت ممنوعة من المشاركة في المهرجانات ومن البث في وسائل الإعلام.
سُميت تلك الأغاني الاحتجاجية – ذائعة الصيت بين طلاب الجامعة والنقابيين – بـ”الأغاني الملتزمة”، فهي وسيلة لنقل رسالة سياسية أو اجتماعية إلى السلطة التي تُمارس القمع ضد أبناء شعبها وترفض السماع لمشاغلهم ومطالبهم، فقد وجد يساريو تونس – سواء في الجامعة أم النقابات العمالية – في الأغاني أداة قوية يمكن استغلالها لرفع الوعي بين الشباب ونشر الأفكار الثورية بينهم.
لم تركز الأغاني الملتزمة على قضايا الداخل فقط، فقد كانت شديدة الالتصاق بقضايا الأمة العربية وقضايا التحرر الإنساني أيضًا
تحدثت تلك الأغاني عن كل ما هو محظور، عن الظلم والفساد والاستبداد، عن التهميش والمهمشين والمنسيين في أقاصي البلاد، وعن الجوع والعطش، حتى عن المقاومين الذين ساهموا في تحرير البلاد من المستعمر لكن نظام بورقيبة أدخلهم غياهب النسيان.
تميزت نهاية الستينيات ومنتصف السبعينيات وكامل الثمانينيات بعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فكان ذلك سببًا لتطور الأغنية الملتزمة في تونس، رغم محاولة نظام بورقيبة تخريب الذائقة الفنية وفق ألاعيب مدروسة، فقد أصبحنا أمام ثقافة مضادة تتعارض مع الأيديولوجية التي روج لها نظام بورقيبة.
كان العديد من المثقفين في تلك الفترة خاصة من اليساريين، يسعون لبناء ثقافة شعبية جديدة – قوامها التقدمية والاشتراكية – بعيدًا عن الثقافة الغربية التي يحاول نظام بورقيبة زرعها في تونس بالقوة، فوجدوا في الأغاني الملتزمة أداة فعالة لهذا الأمر.
لم تركز الأغاني الملتزمة على قضايا الداخل فقط، فقد كانت شديدة الالتصاق بقضايا الأمة العربية وقضايا التحرر الإنساني أيضًا، إذ غنت للثورة الفلسطينية ولحركات التحرر في العالم، ودعمتهم بالألحان والكلمات، في وقت اختار فيه النظام الصمت.
أولاد المناجم
ظهرت الفرقة في أواخر سبعينيات القرن الماضي في مدينة أم العرائس المنجمية، وكانت العنوان البارز للأغنية البديلة قبل أن يتراجع صيتها قليلًا، فقد عانت الفرقة من الحصار في المهرجانات والمنع والتضييق في وسائل الإعلام، إذ انحصر نشاطها على الفضاءات الجامعية.
عبرت المجموعة في بداية تأسيسها عن معاناة أولاد المناجم وقضايا العمال في الوطن العربي ككل، فقد كانت تتكون من عمال منجميين، وكانت السلطة تحجز أغاني الفرقة من الأسواق، إذ كان جهاز أمن الدولة يقتني كل النسخ.
في رصيد الفرقة قرابة 160 أغنية، انتصرت للحرية والكرامة وحقوق العمال والعاطلين عن العمل والمرأة والفقراء والمظلومين، من أبرزها “ضحايا الداموس” و”أنت يا وردة” و”نشيد الطلبة” و”ثوار يا أمريكا” و”دز النح” و”ضحايا الشقاء”.
الحمائم البيض
تأسست هذه المجموعة الموسيقية الملتزمة سنة 1980 لتكون بذلك إحدى أقدم الفرق الموسيقية التي خبرت الالتزام بقضايا الوطن رغم القمع، بدأت الفرق إحياء حفلاتها في الوسط الطلابي، وكانت قريبة من اليسار التونسي.
تغنت الفرقة بالعدالة والحرية، ووصل صداها الوطن العربي، إذ انفتحت على شعراء عرب مثل محمود درويش وسميح القاسم، ولحنت للشاعر العالمي بابلو نيرودا وتغنت ببعض أشعاره، فكانت عنوانًا للتجديد الموسيقي والإبداع الفني.
البحث الموسيقي
تعتبر مجموعة البحث الموسيقي من أقدم المجموعات الموسيقية الملتزمة التي ما زالت تنشط إلى الآن في تونس، تأسست الفرقة بمدينة قابس بالجنوب التونسي في ثمانينيات القرن العشرين من رحم الحركة التلمذية والحركات الاحتجاجية في تونس.
في بداية نشاطها، كانت الفرقة تحيي حفلاتها خاصة في الأوساط الطلابية والنقابية، لكن تراجع نشاطها في التسعينيات نتيجة انتهاج نظام بن علي أسلوب قمعي أشد قسوة من نظام بورقيبة، ما أدى إلى توقف نشاط الفرقة ولم تعد للنشاط إلا سنة 2004، وانفصل عنها بعض مؤسسيها نتيجة الخلافات التي دبت بينهم.
في رصيد هذه المجموعة الموسيقية أكثر من أربعين أغنية، فيما قدمت المجموعة مئات العروض في أغلب مناطق تونس، خاصة في الكليات والمبيتات والاجتماعات النقابية والسياسية، من أفضل الأغاني التي أدتها هذه الفرقة، نجد “هيلا هيلا يا مطر” “يا أمي لا تبكي”.
عشاق الوطن
تأسست هذه الفرقة في 7 من أبريل/نيسان 1983 من خلال توحيد ثلاث تجارب موسيقية كانت تنشط قبل ذلك، جمعها الالتزام الفني والفكري والموسيقي، والوطن حسب ما تعرفه المجموعة هو تونس والوطن العربي والأمة الإسلامية جمعاء، كانت هذه المجموعة الموسيقية تحيي حفلاتها في الأوساط الطلابية وفي دور الثقافة والشباب.
اختارت هذه المجموعة الموسيقية التوقف عن النشاط الفني سنة 1991، تحسبًا لملاحقة أعضائها، فقد تفنن نظام بن علي في التضييق على الأنشطة المستقلة أو القريبة من المعارضة، حيث كانت المجموعة قريبة من الإسلاميين.
عقب الثورة التونسية مباشرة، عادت الفرقة للنشاط، وأصبحت تحيي الحفلات في المهرجانات، كما أن أغانيها أصبحت تبث على موجات الإذاعة الوطنية وفي التلفزة التونسية، كما أصبحت تحيي بعض الأنشطة الحزبية والنقابية.
من أشهر أغاني الفرقة: “لا تلومي يا صبية” و”وطن الأحرار”، فضلًا عن “يا ليل الأمة متى غده”، كما أدت أغاني الشيخ إمام، وتعاملت مع البحري العرفاوي والفتحي القاسمي، وكلاهما شاعر ملتزم، يتغنى بقضايا الأمة والإنسانية جمعاء.
الشمس الموسيقية
ظهرت هذه الفرقة الموسيقية التونسية في الثمانينيات، كانت تحيي حفلاتها في الأوساط الطلابية، كان يقودها عبد اللطيف النجار وأصدرت أكثر من ألبوم، وجدت فرقة الشمس الموسيقية حظوة كبيرة بين الإسلاميين.
تعرضت الفرقة وأعضاؤها لحصار كبير من نظامي بورقيبة وبن علي ومضايقات وتحقيقات وتعذيب أودى بحياة مغني الفرقة عامر دقاش في سنة 1991، ما جعل الفرقة تتنازل وتختار التوجه نحو الموسيقى التصويرية.
غنت الفرقة الكثير من الأغاني الملتزمة، ومن أشهرها “خيوط الشمس” و”الحصادة ما تتحد بعد” و”سد يَامَا بيديك الملاح”، وكان أعضاؤها يؤمنون أن لهم رسالة ودورًا نضاليًا عليهم أن يؤدوه مهما بلغ قمع النظام البوليسي.
كانت أنظمة الاستبداد تخشى الكلمة الصادقة والمثقفين والفنانين لعجزها عن شراء ذممهم وقدرة كلماتهم على الوصول بسرعة للناس والتأثير فيهم، لذلك عملت على قمعهم ومحاصرة للتقليل من تأثيرها، لكنها لم تنجح في ذلك، فكلمة الحق لا يمكن مصادرتها.
نتيجة ذلك، ساهمت الأغنية الملتزمة في كتابة تاريخ تونس بعيدًا عن سردية الأنظمة السياسية المستبدة، من خلالها تمكن التونسيون من التعبير عن معاناتهم وظلم الأنظمة القمعية وتطلعهم للحرية والعيش بكرامة.